ربّما يكون العنوان مفاجئاُ للبعض لكنه ليس جديدا, إذ سبق ان تناولت هذا الموضوع في مقالين نشرا في موقع كتابات، الاول بتاريخ 02 / تشرين الاول/ 2016 بعنوان “مرض اوبك والمعروض الوهمي”, والثاني نشرته بعده بعامين في 10 /كانون أول/ 2018 وكان عنوانه ” مرض اوبك … مرض عضال”, و قد اشرت في نهايته إلى أنّ “الصدمة” القادمة قد تكون مميتة ما دام مرض “ اوبك ” قد اصبح عضالا في ضوء ادارة النظام الدولي أحادي القطب.
لقد كانت جميع المؤشرات قبل وباء كورونا توحي بأن الاقتصاد العالمي سيدخل مرحلة ركود بسبب الصراع السياسي والتجاري بين الدول الكبرى, وهي الولايات المتحدة والصين وروسيا, فضلاً عن عوامل اخرى عجّلت بركوده أهمّها اندلاع حرب اسعار النفط من قبل منتجي النفط المنافسين من خارج اوبك, ثمّ جاء وباء كورونا فأوقف عجلة الحياة في المعمورة وبشكل مطلق.
ان الانخفاض السريع او “الصدمة” في إيرادات تصدير النفط كانت تبعاته سيّئة على الدول الأعضاء في اوبك خلال السنوات الماضية و أصبح عاملاً مؤثرا في استقرارها السياسي والاقتصادي. وسواء كانت هذه الصدمات حقيقية اقتصادية اوافتراضية سياسية, إلّا أنّه لم تتّعظ منظمة اوبك ولا اعضاؤها من تجربة الانهيار الاقتصادي بعد “صدمة ” شباط عام 2009 ولا من “صدمة ” خريف عام 2014 ولا من الصدمة الاعنف التي نعيشها الآن والتي افقدت العراق عائدات بمعدل 40 دولاراً في اليوم لكل برميل نفط خام مصدّر, حيث ان خسارة دولار واحد عن كل برميل مصدر تعني خسارة الايرادات النفطية مبلغا سنويا مقداره واحد مليار دولار. ولقد كان متوقعا في ضوء هذه الصدمات ان تعتمد ادارة منظمة اوبك آلية واضحة لاستشعار الوضع السعري لسوق الطاقة العالمي في مراحله المستقرة والمتأرجحة بناء على استقراء حجم المعروض الخزني الحقيقي او “الوهمي” , وان لا تعمل بسياسة اطفاء الحرائق في امتصاص الصدمات وان تلجأ لإلزام البعض من الاعضاء المنتجين الكبار بسقوف انتاجية محددة لتقليل تخمة المعروض و تعديل اسعار النفط في سوق الطاقة العالمي وذلك لغرض تقليل الضررالّذي سيلحق بالدول الاعضاء ذات الاقتصاد الريعي المعتمدة كليا على ميزانيات النفط في تغطية نفقاتها.
ان انهيار التنسيق مع الشركاء من خارج منظمة اوبك في يوم 5 اذار الماضي بعد رفض روسيا قرار المنظّمة بتخفيض سقف الانتاج الجديد, وانخفاض الطلب على النفط نتيجة وباء كورونا أدّى إلى عجز اوبك على تحملها عبء قرارها لوحدها, فانهارت المفاوضات وبدأت حرب الاسعار وانهيار اسعار النفط لتصل الى مستويات متدنية لم تبلغها منذ الانهيار الكبيرفي عام 1986, ولتصبح منظمة اوبك اكثر وهناً واقل نفعاً بسبب عدم قدرتها على الدفاع عن قراراتها سياسياً واقتصادياً, و قد أدّى بها الحال لأن تكون مستعبدة و خاضعة لابتزازات مافيات مستهلكي الطاقة الكبارالتي تناور في استعراض حجم المعروض لفرض سيطرتها على أوبك و إفراغها من قرارتها. و قد وظّفت مافيات مستهلكي الطاقة الكبار عضو المنظمة والمنتج الرئيس فيها المملكة العربية السعودية باحتياطياتها النفطية الضخمة لكي تلعب دوراً أكبرمن حجمها من خلال إغراق سوق النفط العالمي مثلما حدث في خريف عام 2014 لتقويض اقتصاد غريمتها ايران التي تعاني اصلا من عقوبات اقتصادية دولية, و كذلك تقويض اقتصاد بعض البلدان المنتجة للنفط من خارج منظمة اوبك كروسيا التي ساهمت في الصدمة بتنافسها القويّ في حرب الاسعار بغية الانتقام من الولايات المتحدة الامريكية التي اوغلت في فرض عقوبات اقتصادية عليها, علما بان ايرادات روسيا النفطية لا تشكل سوى 36% من اجمالي الاقتصاد الروسي المتنوع.
ان “الصدمة ” الجديدة ستعصف حتما باقتصاديات بعض منتجي النفط في الشرق الأوسط ومنهم العراق ذو الاقتصاد الريعي , لأنها ستقيد قدرته على تنفيذ موازنته المالية التشغيلية وستجمد موازنته الاستثمارية لعام 2020 مع توقع خسائر شهرية من عوائد الموارد النفطية بمقدار 4 مليار دولار.
وسيضطرالعراق للتفتيش عن مساعدات طوارئ لترفع ديونه الخارجية الى ارقام قياسية تتزامن مع صعوبة سداد الفوائد المستحقة عليه, ونخشى ان يدخل الاقتصاد العراقي في غيبوبة مالية كما حدث لفنزويلا في صدمة خريف 2014.
لقد كشفت هذه الصدمة المميتة غياب دورمنظمة اوبك في المساهمة في استقرار سوق الطاقة العالمي, حيث نتج عن اغراق السوق النفطي بحرب الاسعار تقويض صناعة النفط الصخري الامريكي و تعرض الشركات الامريكية المنتجة الى خسائر كبيرة و انعكس ذلك سلباً على الاقتصاد الامريكي فتحرّكت الادارة الامريكية للقيام بردة فعل سريعة تمثّلت باتخاذ اجراءات لتجنب افلاس الشركات المنتجة للنفط الصخري وشركات التامين المعنية ودعم سوق الاوراق المالية, من خلال التنسيق المباشر بين الرئيس الامريكي و ملك السعودية وولي عهدها و الرئيس الروسي , وافضت تحركات الرئيس الامريكي الى اتفاق ثلاثي امريكي سعودي روسي , يقضي الى تكوين تحالف جديد يمكن تسميته (اوبك ++) الذي سيوسع اوبك+ في صيغتها القديمة لتضم اليها الولايات المتحدة الامريكية لتنتهي اوبك بنسختها القديمة التي لم تحسن ضبط ايقاعات تذبذب اسعار النفط في الاسواق العالمية خاصة بين عامي 2014 و2020 انهكت فيها اقتصادات اعضاء اوبك المعتمدة على ايرادات النفط بشكل اساسي كونها ريعية وغير متنوعة. و مع فشل أوبك + في امتصاص الصدمات وآخرها الصدمة الحالية المميتة انتهى دورها كلاعب رئيس في اسواق النفط العالمية لتصبح بصيغتها الجديدة اوبك ++ اكثر قدرة على ضبط حركة الانتاج والاسعار بشكل يضمن استمرارية عمل الشركات الامريكية المنتجة للنفط الصخري والتي على ضوئها سيُحدّد سقف انتاج لحصة اعضاء اوبك , وستكون قرارات اوبك++ تحت وطأة احتكارجديد من قبل شركات انتاج النفط الصخري الامريكية.
كان ممكنا ان تستعيد اوبك عافيتها وتفرض الالتزام بقراراتها لو أنّها اصغت الى اصوات من داخل المنظمة طالبت بتعديل سياستها النفطية وتحصين المؤسسات التسويقية لاعضائها من مرضها تحسبا لتعرضهم “لصدمات” مميتة.
ولهذا فإنّ ادارة اوبك تتحمل مشهد نعيها وتتحمل ايضا تبعات استعبادها عن طريق ابتزاز مافيات مستهلكي الطاقة الكبار و مناورات شركات انتاج النفط غير التقليدية المتمثّلة بشركات انتاج النفط الصخري الامريكية وشركات النفط الرملي الكندية.
كما ان الادارة العراقية الحالية بما تعانيه من ازمة قيادية تخصصية تتحمل ايضا مشهد نعي اوبك وتتحمل مسؤوليّة الانهيار في الايرادات النفطية وما سيترتب عليه من اثار مدمرة بسبب تاخرها و تقاعسها عن التنسيق الجانبي مع المملكة العربية السعودية كونها المنتج الاكبر في المنظمة ومع روسيا كونها الشريك الاكبرمن خارج المنظمة لايقاف حرب الاسعار, وليدخل اقتصاد العراق في نفق لمظلم.