ربما لا يعرف القارئ العربي شيئاً عن شخصية وحياة هذا الفنان المتعدد المواهب، ولعله لم يسمع به على الإطلاق. وذلك لعدم وجود كتابات شافية باللغة العربية للتعريف به. اللهم الّا اقل القليل أو النزر اليسير، الذي لايتجاوز الأسطر المعدودة. (حسب ما انتهيت اليه من بحث متواضع، وقد أكون على خطأ). ومن الجدير بالإهتمام ليس الفن ولا الفلسفة فحسب هي ما يميز العبقري ايفان. وانما هو في الحقيقة باحث جاد عن الحق والحرية والسلام. ومقاوم لتيار البيئة الإجتماعية الرافضة لتوجهاته.
أما وقد عاش اغلب سني حياته في البيئة العربيه، التي عشقها وتسربل بديانتها وتراثها، فمن حقه علينا ان نعرّف القارئ العربي به. فمثله لا ينبغي ان يُغفَل اسمه. فغرابة حياته، وغرابة ترحاله وتنقلاته، وغرابة اسلوبه في الرسم (والذي كان سابقا لعصره وغير معهود في تاريخ الفن السويدي)، ثُمَّ غرابة مصيره. كل ذلك يستدعي القاء الضوء على سيرته (رحمه الله).
عام 1869م ولد جون غوستاف أغيلي في سالا (118 كم شمال غرب ستوكهولم). لأب يدعى يوهان غابرييل أغيلي، وهو طبيب بيطري، وأم تدعى آنّا ستينا. وهذا يعني أن حياته المعيشية مستقرة وميسورة الى حد مناسب.
1888-1879م لم يكن موفقًا في الدراسة، فتنقل بين عدة مدارس مختلفة في سالا وفاستيروس وفالون وفيسبي وستوكهولم. ومع ذلك فقد كان يُظهِر اهتمامًا خاصًا بالجغرافيا وعلم النبات. ولكن دراسته كانت مخيبة لآمال ابيه الذي كان صارما في تعامله معه. وكانت علاقة ألأب بإبنه سيئة، على العكس من امه التي كانت تغمره بحنانها وتعوضه بشخصيتها الدافئه عمّا يجده من صرامة أبيه.
في وقت مبكر من مرحلة شبابه، أظهَر اهتمامًا كبيرًا بالرَّوْحَانيات والتصوف الديني. ولعل اهتمامه بالروحانيات يعود لتأثير احد اقاربه من جهة والدته يدعى (إيمانويل سويدنبوري) والذي يعتبر أحد رواد علم الغيبيَّات (الميتافيزيقيا)(1) في القرن التاسع عشر في السويد. كما وبدأت تظهر في جون اغيلي موهبة فنية استثنائية، ومَيل نحو الإنشغال بالرسم. فرسم لوحات تخطيطية بالفحم. وهذه التوجهات لم تلق صدىً لها من القبول في عائلته.
1889م إرسله ابيه في العطلة الصيفية للدراسة في فيسبي في جزيرة جوتلاند(2). وهناك وجد أول أشكاله الطبيعية في لوحاته. وبدأ بالفعل بالرسم والخطوط الفنية بشكل جدّي. وقد الهمته الطبيعة الساحرة آفاقًا وزخمًا فنيًا. فانتقل إلى الرسم الزيتي الذي استمر في ممارسته بعد ذلك بقية حياته. فرسم المناظر الخلابة وجماليات الحارات والشوارع. وبدأت ملامح براعته الفنية تتكشف. كان يتم تقدير نتاجه ودراساته من قبل اساتذته واصدقاءه ريتشارد بيرغ (1858-1919م) وكارل نوردستروم (1855-1923م) والصداقة مع هذين الفنانين استمرت فيما بعد مدى الحياة. ليعود إلى ستوكهولم بعد الصيف. لينكب على القراءة للكتّاب الروس، وتآليف قريبه الفيلسوف السويدي إيمانويل سويدنبوري(3).
1880م بعد عودته إلى ستوكهولم، التحق بمدرسة رابطة الفنانين في ستوكهولم مع أصدقاء آخرين، مثل ريتشارد بيرغ. وعمد على دراسة الفن المصري، والفلسفة الشرقية، مستعينًا بكتب المكتبة الملكية في ستوكهولم، كما إقترض من المكتبة نسخة من القرآن الكريم لقراءتها.
في عام 1890م قام بجولة في لندن، حيث التقى بالعالم الأناركي (اللاسلطوي أو الفوضوي) الروسي الأمير بيتر كروبوتكين (1842- 1921م). وهو مكتشف وعالم جغرافي. كان من أوائل المنظرين والمؤسسين للحركة التحررية الشيوعية اللاسلطوية.(4)
عاد الى غوتلاند ليضيف الى فنه رسم الوجوه. فرسم أول صورة لفتاة شابة وانتج عدة رسومات مشابهة. ولأنه كان يتطلع لتوسيع خبرته وابحاثه، وللتعرف على الفنون الجديدة. فقد اقنعه احد وجهاء المدينة بضرورة سفره الى باريس لدراسة فن الرسم. وتدخل لدى العائلة للسماح له بهذه الرحلة الدراسية. وحين شرع في هذه الرحلة اتخذ لنفسه اسمًا فنيًا وهو (Ivan Aguéli إيفان أغيلي). واستقر من ترحاله أخيرًا في باريس. واطّلع فيها على اعمال مشاهير الفن العالميين. وقابل الفنان إميل برنارد (1868-1941) المختص بالفن الرمزي، “الذي يهدف إلى إيصال أفكار الوجود باستخدام الرموز”. ليكون اغيلي احد طلابه ولتنعقد بينهما صداقة تتيح له استخدام الاستوديو الخاص، وكانت لهذه الصداقة تأثيرها الفني الكبير على اغيلي حيث عرّفه على كبار الفنانين المشهورين امثال سيزان وغوغان وفان جوخ.
فاطّلع ايفان أغيلي على الطروحات الفنية الجديدة، واكتسب مهارة فائقة متأثرًا بفن استاذه اميل برنارد، في االشكل الأصطناعي وفي تدرج الألوان. فأصبح يضاهي بلوحاته الفنية حتى استاذه.
1891م قدّمَ برنارد صديقه وتلميذه أغيلي الى احدى الجمعيات الكنسية الثيو صوفية (5). فلم يرق له ماوجده فيها من ضغط بابوي ومن بعض المفاهيم. بل على العكس من ذلك فقد اندمج في دوائر حركة الفوضويين الرافضين للتسلط والإستبداد. وتعاطف معهم وتأثر بمطالبهم.
لقد كان المجتمع الحديث للعالم الغربي يتشكل يومها بصيغ عصرية. وكان اغيلي يتوق الى الحرية واحداث تغييرات جوهرية للرتابة والجمود في المجتمع. ليكون الناس اكثر تحررًا في الثقافة والفن والقيم التي يتعامل بها الإنسان في الحاضر ويتقدم بها للمستقبل. كان يستشعر ضرورة المقاومة للسلوك الجمعي السلبي الذي لم يرتح له، حتى ولو تعلق ذلك بالعقائد.
1892م عاد إلى السويد ليقضي فترة الصيف والخريف في فيسبي في جوتلاند. ويزور كذلك مدرسة نقابة الفنانين في ستوكهولم. فرسم زخارف الشوارع الداخلية في المدينة. ورسم المناظر الطبيعية، واتسق مع تركيبات الألوان التي يتعامل بها غوغان. وكان يعرب عن اعجابه الكبير بغوغان. وبعد إقامته في جوتلاند عاد إلى باريس.
1893م في باريس، ولظروف التعبئة الرسمية ضد الحركات الفوضوية المنفلتة المناهضة للإستبداد التي سادت في شوارع باريس، ولأصدار السلطات تشريعات وقوانين، للحد من نشاط الفوضويين اللَّاسلطويين والشيوعيين والصحفيين. جعلت ايفان يركز على الكتابة بدلاً من الرسم، لعله يكسب بعض المال من خلال مقالات وتقارير يكتبها عن المشهد الفني الفرنسي. ولكنه في ذات الوقت كان يطمح ان يعيش بعيدًا عن اوربا في بلدان الشرق حيث الدفء والتأمل الروحي. وبغرض التعرف على تلك الأجواء بشكل اكبر، إنتسب الى معهد اللغات والحضارات الشرقية في باريس، ليتعلم اللغة العربية واللغات الشرقية(6).
في نهاية العام قابل ماري هووت (1846-1930). وهي شاعرة وفوضوية وناشطة في مجال حقوق الحيوان وثيوصوفية ومقربة من مؤسس مجلة: الموسوعة المعاصرة المصورة L’Encyclopédie Contemporaine Illustrée. ليقترن بها اغيلي وتصبح علاقتهما قوية، وتستمر لمدة عشرين عامًا تقريبًا.
1894م اعتقل في أبريل خلال الغارات على الاوساط الفوضوية واللَّاسلطوية كمشتبه فيه متورط في مؤامرات فوضوية، ولأنه كان يؤوي احدهم. فانتهى به المطاف في سجن مازار في وسط باريس. استغل فترة بقاءه في السجن مدة أربعة أشهر لدراسة مختلف العقائد الدينية، وقراءة كتب عن تاريخ الأديان، والفلسفة الروحية، وكذلك عن اللغات وتاريخ الفن. وكان من ضمن ماقرأ: كتاب ألف ليلة وليلة، وأشعار من الثقافة الإسلامية. وعندما اصبح حراً طليقا، ترك باريس وسافر في البحر إلى الإسكندرية في مصر، لدراسة علوم القرآن الكريم، واللغة العربية. فسكن في الاسكندرية سنة كاملة. ومن ثُمَّ انتقل الى القاهرة، فتعرف عن قرب على المعالم الفنية والأثرية والطبيعة الريفية. وليتواصل فيها مجددًا بصديقه واستاذه إميل برنارد مرة أخرى. والذي كان قد سبقه في الإنتقال الى القاهرة.
1895م قام بزيارة الى مدينة اسيوط بمصر، (370 كم جنوب القاهرة) رسم العديد من المناظر الطبيعية المصرية، ورسم وجوه الأشخاص واستخدم فيها الألوان. وبناءًا على نصيحة من قرينته ماري هووت ازمع العودة إلى باريس ، ليكرس نفسه لدراسات معمقة في اللغات الشرقية (7). تؤهلة للعمل في الترجمة على سبيل المثال.
1896م في باريس بدأ العمل كناقد فني وأدبي في إحدى الصحف لتدبير مصاريفه اليومية. متابعاً في الوقت ذاته دراســة اللغات. وفي الأيام الأخيرة من هذا العام، توفي والده. فسافر ولفترة وجيزة في أوائل صيف عام 1897 إلى السويد لزيارة والدته. ليعود مجددًا بعد ذلك في الشتاء ملتحقًا بالدراسة في باريس.
1898م درس القرآن الكريم، واللغات الشرقية. فأتقن اللغة العربية بالكامل. واوصلته دراساته عن القرآن والفن والفلسفة، الى قناعات نفسية متقدمة عن الإسلام. ومن المعلوم ان الخواء الروحي غالبًا ما يدفع العقلاء في الغرب وفي الشرق، الى البحث عن دين يروي الضمأ الروحي الذي يعانون منه. وسرعان مايرسو بهم المطاف عند عَظَمة الاسلام، إن لاح امامهم، فيجدوا نبعه الصافي الفرات. توقف عن الرسم في هذه المرحلة. وبدلاً منه مضى في كتابة مقالاته في النقد الفني.
يقرر في وقت ما خلال هذا العام اعتناق الإسلام والتَسمّى بالإسم العربي عبد الهادي أغيلي (8). واصبح يعرف بين الناس بهويته المسلمة. التي اعلنها وصرح بها ولم يخفها عن عائلته واهل بلدته الذين استاءوا منه كثيرًا. في حين اختار بعض العرب ممن عرفوه، إطلاق اسم عبد الهادي عقيلي او العقيلي عليه. وبذلك يعتبر أغيلي أو العقيلي من أوائل المنضوين تحت لواء الإسلام من الشخصيات السويدية الشهيرة في العصر الحديث.
1899م كان يتوق لمعرفة فيما إذا كان الاسلام خاصًا بالعرب، أم أن تأثيره شامل للشعوب الأخرى التي تؤمن به. فاتيحت له الفرصة للتحقق من ذلك، بالسفر الى كولومبو في سيلان (سريلانكا حاليًا) مندوباً عن “الموسوعة المعاصرة، المصورة” ، لتنشر له الموسوعة الفرنسية عشر رسائل كتبها عن رحلته يصف فيها تأثير الإسلام على أشخاص غير المصريين. ثم يواصل السفر إلى مدراس في الهند قبل ان يعود في نهاية العام إلى (باريس). حيث واجهته منغصات عائلية.
1900م اصيبت علاقتهما الزوجية بالفتور وغدت حياتهما مزعجة لبعضهما البعض. وبدأت زوجه ماري هووت تطالبه بإثبات حبه لها. ومن الطريف ان الإثنين يجمع بينهما مفهوم مناصرة حقوق الحيوان. وكثيرًا ما يحتج هو على القسوة التي يمارسها الإنسان على الحيوانات، ففي مدينة ديو الفرنسية كان يناصر حملة لحظر مصارعة الثيران. وفي احدى مناسبات مصارعة الثيران وكان برفقة ماري. وقد آلمه ما يجري من قسوة على الثيران، فأطلق أغيلي، طلقات نارية على اثنين من مصارعي الثيران. فأصاب أحدهما بجروح طفيفة. فاقتيد الى المحاكم، وحكم عليه بالسجن المشروط والغرامة البسيطة. ولكن سرعان ما أطلق سراحه مرة أخرى. وكان لهجومه المسلّح هذا صدى واسع إذ اثار موجة من النقاشات في الاوساط الاعلامية والسياسية، ساعدت في إتخاذ قرار بحظر مصارعة الثيران في فرنسا. على إثر هذه الأوضاع، آثر أغيلي الإعتزال والخلو بنفسه، والتفرغ للدراسة والكتابة في موضوعات النقد الفني، وليستغرق في هذا التوجه سني عمره العشر التالية. قبل أن يعود للرسم مجددًا.
1902م توجه للمرة الثانية الى مصر. لمواصلة الدراسة في جامعة الأزهر في القاهرة وكان قد انتسب رسميًا الى جامعة الازهر على ثلاث فترات، في التسعينات من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فكان من أوائل الأوروبيين الذين درسوا الفلسفة العربية والإسلامية في جامعة الأزهر. وسعى للتعمق في المفاهيم الصوفية الباطنية والفلسفية الروحانية. وتكريس نفسه للعبادة والتمارين الروحية.
أمّا في تعلم اللغات الشرقية والأوربية، فقد كان عبقريًا. إذ أتقن بالإضافة الى اللغة العربية الفصحى، 16 لغة مـنها الهندية والفارسية والفرنسية والإيطالية.
1905م التقى في الجامع الأزهر بالشيخ عبد الرحمن عليش الكبير1840-1921 عميد المذهب المالكي في الأزهر).احد شيوخ الطريقة الصوفية الشاذلية العربية التي وجدت آنذاك في مصر).(9) والظاهر انه لميوله المبكرة في مراحل عمره الأولى المتعلقة بالاهتمام بأفكار قريبه المتخصص في علم الغيبيات والروحانيات المتصوف سويدنبوري، ولدراساته الفلسفية الصوفية المكثفة، ومن ثُمَّ لقاءه هذا العام بالشيخ عليش كل ذلك، جعله يتأثر بالتصوف الذي يدعو اليه الشيخ عليش، على اساس ان التصوف رسالة ذكر وتقرب الى الله. فتحول أغيلي إلى الطريقة الصوفية الشاذلية في القاهرة. وتفانى في خدمتها. “جدير بالذكر أن عموم المسلمين يعتقدون أن الطريق إلى الله والتقرب منه يكون مباشرة بين العبد وربه، ولا يحتاج ان يمر عبر الطرق الصوفية”. وعلى أي حال، قد تتفق معه او تختلف في افكاره وانتماءه للطريقة الصوفيه. ولكنه في النهاية شخصية فاعلة، لها حضور تاريخي، وحضور فني قائم حتى اليوم.
عيَّن الشيخ عبد الرحمن عليش، عبد الهادي أغيلي مقدما للتصوف بالغرب أي (داعية او معتمد وفق التدرج الصوفي.)، وبذا يكون ايفان أول أوروبي يحصل على هذا اللقب الصوفي، بمعنى أنه أصبح يملك تفويضًا لدعوة وضم الغربيين إلى التصوف وأخذ البيعة منهم نيابة عن شيخ الطريقة.(10) فكان يكتب المقالات ويطبع مؤلفات ابن عربي، ويترجم إلى اللغة الفرنسية، بعض الرسائل الصوفية للتعريف بالتصوف.
بمباركةٍ من الشيخ عبد الرحمن عليش، تشارك عبد الهادي أغيلي، مع الصحفي والطبيب الايطالي المسلم إنريكو إنساباتو Enrico Insabato (1878-1963) في تأسيس مجلة تسمى (Convito ILربما تعني المأدبة بالإيطالية) ، وهي مجلة عابرة للحدود، مكتوبة باكثر من لغة، كانت تصدر في القاهرة بين عامي 1904 و1913. وتهدف إلى اقامة صلات روحية بين الشعوب الأوربية والعربية، والى نشر التصوف من خلال إجراء دراسات علمية حول حياة وأعمال الصوفي ابن عربي.(11) ومشايخ صوفية آخرين، امثال مولانا جلال الدين الرومي.
1907م بسبب المناخ السياسي غير المستقر في مصر. غادر ألإيطالي إنساباتو مصر تاركًا العمل في مجلة (إيل كونفيتو). وبقى أغيلي في مصر دون مصدر رزق فاضطر إلى طلب الدعم المالي من والدته.
1909م في الخريف وبالاتفاق مع زوجه ماري هووت قررا العودة إلى أوروبا.. والتوجه الى جنيف.
في عام 1910م ، كان أغيلي يشكو في رسائله المختلفة الى الأصدقاء من اصابته بضعف السمع بشكل متزايد.
1911م قرر العودة في فصل الصيف إلى ستوكهولم في السويد، لأول مرة منذ تسع سنوات ليقضي فترة قصيرة مع عائلته. وليلتقي كارل ويلهلمسون صاحب مدرسة خاصة للرسم في ستوكهولم حيث سُمح له بالحضور كطالب مجاني في المدرسة. وشجعه ويلهلمسون على استئناف الرسم فكان يحضر بشكل متقطع لورشة الرسم النموذجية، فاختلط بحكم واقعه الجديد بالأوساط الفنية السويدية. ورسم لوحات عديدة.
1912م قام بعرض أربع لوحات في معرض نظمته جمعية الفنانين في ستوكهولم. فكانت هذه هي المرة الأولى في حياته التي يعرض فيها لوحاته في الأماكن العامة. ولكنه سافر إلى باريس في نفس اليوم الذي يفتتح فيه المعرض.
اغلب الظن ان الذي عجل بعودته الى فرنسا هي سعيه لتحقيق حلم إنشاء معهد لتدريس العلوم الاسلامية في باريس، يربط الحضارة الاسلامية بالغربية ؟. هذا المشروع الحلم الذي لم يحظ بدعم أحد، فتلاشت الفكرة. كما ويُعتقد انه سعى لأنشاء زاوية للطريقة الصوفية الشاذلية تحت اسم مجتمع الاكبرية الباريسي. يقوم على أساس انه امتداد لمجتمع الأكبرية الأول الذي أسسه ابن عربي في مصر. ويُعنى بتبنى افكار وتعاليم ونهج الأندلسي الصوفي ابن عربي. ولقد كان الرسام الفرنسي الشهير رينيه غيون الذي اعتنق الاسلام بتأثير من اغيلي، أحد أعضاء هذا المجتمع.
1913م انتج مجموعة من اللوحات لمناظر طبيعية في مدن ومشاهد فرنسية مختلفة .
1914م توجه للمرة الأخيرة إلى مصر والتي كانت تنوء بالإضطراب جراء سيطرة الإنجليز واعلانهم الحماية عليها. عاد اليها للعمل كمترجم ودليل لرجال الأعمال. ولم يمنعه عمله في هذه الفترة “وقد تشكل فنيًا الى حد الإبداع”، من مواصلة العطاء الفني المجسد للروحانية في الطبيعة. فأمضى وقته بالرسم بشكل مكثف معبرًا عن المقاومة للعصر الجديد ومثله المادية والعقلانية.
لقد جاهد لربط الفن النقي بالدين والواقع لإيجاد بديل لزمن انتكاسة القيم. في عصر مضطرب بأجواء الحرب العالمية الأول. فأنجز رسم عدة لوحات مثل: لوحة منزل القبة المصرية، ولوحة المدينة الافريقية. ومناظر الطبيعية المصرية. ليس كرسوم وصور كلاسيكية. وانما هي تواصل مع الواقع، ككيانات روحية غير ملموسة. وتحقيق اكبرقدر من ايقاع الفرشاة واللون، الرامز للحرية في الفكر والروح.
1915م أمّا في السويد فلم تكن فنون اغيلي وشخصيته، معروفة او مشهورة على المستوى الفني والإعلامي خلال حياته. فقد عاش معظم أوقاته متنقلاً في الخارج ، بين فرنسا ومصر وإسبانيا القريبة من التراث الأندلسي. ولكن ما قام به المؤلف بير هالستروم من بادرة نبيلة، كانت قد نبهت المعنيين الى الاهتمام بفن هذا الفنان . وذلك حين قام باهداء المتحف الوطني لوحة “ستوكهولم” التي كان قد رسمها أغيلي . فلاقت صدىً ايجابيًا. وكانت بمثابة أول اعتراف رسمي سويدي بفن اغيلي.
في عام 1916م في أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت مصر ولاية عثمانية خاضعة للاحتلال البريطاني ، والاحتلال يناصب الدولة العثمانية والاتراك العداء. وكان أغيلي كمعظم الشعب المصري لا يتسق ولا يتساوق مع الاحتلال، فقام الاحتلال البريطاني بِطَرْد الشيخ عبد الهادي اغيلي من مصر بدعوى أنه جاسوس عثماني، ولم تسعفه السنوات الطويلة التي كان قضاها في مصر، ولا كثرة ودوام تردده عليها، في ضمان استقرار معيشة كريمة له فيها. فتوجه إلى مدينة برشلونة في إسبانيا. فرسم هناك مناظر الطبيعية الكاتالونية. ولكن العوز المادي لاحقه. وتقطعت به سبل الحياة في إسبانيا، حيث بقي فقيرًا بلا مال يكفيه للعودة إلى السويد. كما ان هذا الوقت كان هذأ آخر عهده بالرسم.
1917م توفي الشيخ عبد الهادي عقيلي (رحمه الله)، في حادث قطار مأساوي في1 أكتوبر 1917 في احدى القرى خارج برشلونة، بإسبانيا. ويُعتقد أن الصمم الذي اصيب به في آخر حياته، ساهم في وفاته على سكة الحديد. ودفن في برشلونه. تاركًا خلفه مئات اللوحات القيّمة.
بعد وفاة (إيفان أغيلي) تكفل الأمير يوجين برنادوت (12) بإعادة لوحاته ورسوماته وممتلكاته إلى السويد، حيث كان الأمير هو نفسه رسامًا، معروفًا بدعمه ورعايته للفنانين.
كان الفيلسوف الصوفي الفنان الشيخ عبد الهادي عقيلي وفق نظرته الفلسفية. مهتمًا بالدراسات الباطنية، حيث كرس في دراساته في علم التوحيد، على تأويل المعاني الباطنية للنصوص الإسلامية، ومقارنتها مع المعاني الباطنية الموجودة في الأديان الأخرى، المنتشرة في العالم. وهذا المنهج لا يعترف به الاسلام، مما جعل البعض يضع من يتبناه في خانة الإستشراق.
في الرسم كانت الحالة الوجدانية والإيمان بالتوحيد، تنتظم بشكل ايقاعي على لوحاته الفنية، فوائم بين الأثر الروحي مع الفن المعاصر، وقرن روحانية الشرق بالنظرة الفلسفية ورمزية الألوان وبهاء الطبيعة.
ان ما يميز رسومات الشيخ عبد الهادي عقيلي، اتسامها بالعبقرية والإبتكار، وإستخدامه مزيجًا من ألألوان المتدرجة والمتوازنة بعناية. والتي تعطي معان رمزية مختلفة، مزيجًا يخلق في لوحاته الاحساس بالعمق والمسافة والضوء. واستخدام اللون الأبيض الذي يرمز للنور الإلهي. وقد يرسم لوحات سحرية بتفاصيل حميمية صغيرة وزخارف طبيعية مملوءة باللون الأبيض، مما يترك اثرًا مبهرًا لدى المتذوق للفن. كان ذا اسلوب فني فريد وغير مسبوق في السويد، استطاع مثلًا ان يشكل بلوحة لحديقة اواشجار نخيل تعصف بها الرياح، شكلاً من اشكال المقاومة لعصر تعصف به الإضطرابات. ولا غرو إذا ما اعتُبِر من أهم الرسامين السويديين. وأحد أبرز الرواد ومؤسسي الحركة الفنية المعاصرة في بداية القرن العشرين في السويد.
كانت الفترة التي قضاها في مصر ولقائه بالمناظر الطبيعية والمعمارية، قد ترك انطباعًا قويًا عنده. فشكلت ذلك وانضج أفكاره في الحياة والفنون. فكتب عن الفن والأدب والدين والتصوف. وبلغات مختلفة، ووصلت أفكاره إلى ما وراء حدود بلده الأول السويد، وبلده الثاني مصر. كما ان لوحاته يُنظر اليها على انها ذات طابع تذكاري.
احتفاءً بالذكرى المائة لميلاد أغيلي نشرت دائرة البريد السويدية سنة 1969 سلسلة تذكارية من ستة طوابع عبارة عن لوحات فنية لأغيلي. وساهم هذا الاهتمام الرسمي في شهرته وتعريف الناس به. وما زالت الاجيال السويدية الراهنة متأثرة بفن أغيلي وينظرون إليه بحب على انه من أشهر الفنانين السويديين ومن رواد الحداثة، الذين تركوا بصمات عميقة وواضحة في المدرسة السويدية الفنية ويعجبون به، كرسام سويدي معاصر مشهور.
عام 1981م، من اللطيف ان بلدته التي جَفَته يومًا ما، عادت لتكريمه والاحتفاء به. فأعادت بقايا جثمانه من برشلونه إلى السويد. ليعاد دفنها في مسقط رأسه في مدينة (سالا). في المقبرة القديمة في كنيسة كريستينا، ووفقًا للشعائر الإسلامية. واقيم له متحف شهير بإسمه في وسط المدينة. وحديقة وبعض المجسمات تخليدًا وإحياءًا لذكراه. ويعتبر المتحف احد المعالم الثقافية المهمة في المدينة. وقد ضم المتحف أكبر مجموعة من أعماله. “الدخول الى متحف اغيلي متاح للجميع مجانًا”. كما وتتوزع لوحاته الفنية بالإضافة الى متحف أغيلي، في العديد من المتاحف السويدية الأخرى كالمتحف الوطني السويدي للفنون الجميلة ، ومتحف الفن الحديث وغيرها. كما واقيمت العديد من احتفالات الذكرى السنوية. والمعارض التذكارية، في المتاحف والمؤسسات الثقافية لاعمال أغيلي في السويد وخارجها. وبيعت بعض لوحاته في مزاد ستوكهولم بملايين الكرونات السويدية.
ماتَقَدّم اطلالة عامّة عن حياة: الرسام الإنطباعي، الفيلسوف، الصوفي، الفوضوي، الباحث عن الطبيعة، المقاوم، الساعي الى الحرية، الرحّال الدائم، صانع المجلات، الناقد الفني والفكري، السويدي، المسلم: (ايفان أغيلي) أو الشيخ عبد الهادي عقيلي (رَحِمَه الله).
الهوامش:
(1) هي جزيرة سويدية تقع في بحر البلطيق على بعد 90 كم من البر السويدي وعاصمتها فيسبي
(2) الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة وهي فرع من الفلسفة.
(3) إيمانول سويدنبوري (1688– 1772). عالم وفيلسوف سويدي وصوفي وثيولوجي مسيحي له تاريخ حافل كعالم ومخترع. دخلت حياته في طور روحي في عمر 56 حيث حدثت له رؤى وأحلام وصلت به إلى هوس روحي ادعى فيه أن الرب عينه لكتابة تعليم سماوي لإصلاح المسيحية، وأنه فتح عينيه، مما سمح له بزيارة السماء والنار، والتكلم مع الملائكة والشياطين والأرواح.
(4) الأمير بيتر كروبوتكين مؤسس تيار (الأناركية الشيوعية)، وكتاباته تنصّب على إسقاط كل أشكال السلطة من أجل إقامة مجتمع شيوعي كلي يقوم على مبدأ المعونة المتبادلة والتعاون، بدلاً من المؤسسات الحكومية.
(5) حركة فلسفية نشأت في الولايات المتحدة عام 1875 وبنيت في المقام الأول على أساس من التعاليم البوذية وغيرها من الديانات الهندية، ترمي الحركة إلى معرفة الله عن طريق الكشف الصوفي أو التأمل الفلسفي.
(6) معهد اللغات والحضارات الشرقية أو إختصارًا (إنالكو (INALCO هو مؤسسة فرنسية للتعليم العالي أنشئت سنة 1669 من أجل تخريج مترجمين باللغات العربية والفارسية والتركية وأيضاً سفراء قادرين على العمل في الإمبراطورية العثمانية.
(7) اللغات الشرقية مثل: العربية، الفارسية، التركية، الإثيوبية، العبرية، الهندوسية، والسنسكريتية.
(8) وفق بطاقته التعريفية من المتحف الحديث في ستوكهولم.
(9) ويقال أيضًا: ان” الشاذلية العربية ” فرع غير معروف في الطريقة الشاذلية.
(10) التصوف الاسلامي في الولايات المتحدة الامريكية للدكتورعزيز الكبيطي ادريسي، ص 149.
(11) ولد مُحيي الدين محمد بن عربي (1164- 1240) في بلدة مرسية بالأندلس. وهو أحد أشهر المتصوفين ولقّبه أتباعه “بالشيخ الكبير” وتنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية.
(12) الأمير يوجين نابليون نيكولاوس دوق نيركه (1865 – 1947) كان رسامًا سويديًا وجامعًا فنيًا وراعيًا للفنانين.
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]