مسارب العلمانية في كردستان
لايمكن اجراء أي مناقشة للتاريخ السياسي الكردي أو لغيره من الشعوب العثمانية، أو للافكار القومية أو العلمانية من دور ذكر الجمعية العثمانية ( جمعية الفتاة ) التي كانت شديدة التأثر بالمفكرين ورواد حركة التنوير الفرنسيين الذين سبقوا الثورة الفرنسية الكبرى عام1789م، من أمثال: مونتسيكيو(1689-1775م) مؤلف كتاب (روح القوانين)، وفولتير(1694-1778م) الملحد الثائر على الكنيسة الكاثوليكية، وكحال الكثيرين من الشخصيات البارزة التي عاشت أثناء عصر التنوير الأوروبي، اعتبر فولتير نفسه مؤمنًا بمذهب الربوبية. فقد كان لا يعتقد في أن الإيمان المطلق بالله يحتاج إلى الاستناد على أي نص ديني محدد أو فردي أو على أي تعاليم تأتي عن طريق الوحي. وفي حقيقة الأمر، كان كل تركيز فولتير ينصب على فكرة أن الكون قائم على العقل واحترام الطبيعة؛ وهي الفكرة التي عكست الرأي المعاصر له والذي كان يعتقد في وحدة الوجود. وقد نالت هذه الفكرة حظًا وافرًا من الرواج بين الناس خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وكتب لها الاستمرار في الوجود في شكل من أشكال الربوبية المعروفة في عصرنا الحالي باسم: “Voltairean Pantheism” وحدة الوجود من منظور فولتير.”
وكتب فولتير متسائلاً: “ما الإيمان؟ فهل هو أن نؤمن بما نستطيع أن نراه واضحًا أمام أعيننا؟ لا، فمن الواضح تمامًا لعقلي إنه من الضروري وجود كيان خالد رفيع المنزلة عاقل ذكي. فالأمر عندي لا علاقة له بالإيمان، ولكنه مرتبط بالعقل”. وجان جاك روسو(1712-1778م) مؤلف كتاب (العقد الاجتماعي) الذي يعتبر” حجر الزاوية في الفكر السياسي والاجتماعي الحديث”.
ويحدد كتاب العقد الاجتماعي لروسو الأساس لنظام سياسي شرعي في إطار جمهوري تقليدي. نُشر الكتاب في عام 1762م، وأصبح أحد أكثر أعمال الفلسفة السياسية تأثيرًا في التقليد الغربي. ويميز روسو بشدة بين السيادة والحكومة، على الرغم من أنه يجادل بأن السيادة (أو سلطة سن القوانين) يجب أن تكون في أيدي الشعب. تتألف الحكومة من قضاة مكلفين بتنفيذ وتطبيق الإرادة العامة. السيادة هي حكم القانون الذي تقرره بشكل مثالي الديمقراطية المباشرة في مجلس ما، وهذا ما يتنافى مع الشريعة الاسلامية التي كانت سائدة وقتئذٍ في الدولة العثمانية.
وكانت أعمال هؤلاء قد ترجمت قبلئذٍ الى اللغة التركية، مثل أعمال: جان جاك روسو، ومونتسيكيو، وسواهما. وكانت النزعة القومية الليبرالية عند جماعة (العثمانية الفتاة) ما تزال متلبسة لبوس المفاهيم الاسلامية التقليدية.
وعلى سبيل المثال فإن (علي سوافي) أحد مفكري جماعة (العثمانية الفتاة) دعا الى القيام ب ” إصلاح ديني بوصفه نقطة إنطلاق إحياء الدولة الاسلامية والقانون الاسلامي”. ونجد أن هذه الجماعة شرحت أن ( حب الوطن من الايمان) اعتماداً على الحديث النبوي (= مشكوك في صحته)، مثلما أكدت أن الدستورية ليست سوى مبدأ الشورى في ثوب آخر. وكان هذا التداخل بين الديني والدنيوي سبباً في توصيف علي سوافي بأنه ( لاهوتي ليبرالي)، أو (ثوري معمم). وأن هذا المثقف بالذات هو الذي قطع الصلة بالوطنية العثمانية، مباشرة عقب الحرب البروسية- الالمانية – الفرنسية عام 1870م، لينتقل بالكامل الى مفهوم القومية (التركية) المختلف عن الولاء الاسلامي العثماني. وهذا ما أفصحت عنه بوضوح (جمعية تركيا الفتاة) التي خلفتها.
توجت هذه الحركة أو الثورة كما تحلو للاتجاهات العلمانية تسميتها بسنوات كثيرة من النشاط السري في الدولة العثمانية، بعد انبثاق جمعية الاتحاد والترقي منها والتي كان أتباعها من أصول إثنية متنوعة وذوي مطامع متناقضة غالباً. إلا أنه على الرغم من هذه الفروق؛ كان يوحدهم إعجابهم المشترك بالمؤسسات الغربية وكراهيتهم الشديدة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وكان الاعضاء الرئيسيون للجمعية الذين هربوا من الدولة العثمانية واستقروا في اوروبا، متشبعين بالافكار الاجتماعية والسياسية الغربية، وكانوا متأثرين خاصة بافكار المساواة والتحرر التي دعت اليها الثورة الفرنسية عام 1789م، والنزعة القومية المتشددة بعيد عام 1848م، إثر صعود الحركات القومية الالمانية والايطالية وقتذاك في سبيل تحقيق الذات القومي في أمة – دولة. كما لا يمكن نسيان مذهب الوضعية الكونتية، وهي نظرية عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت(1798-1857م)، التي تقول:”… عن السياسة لا يمكن عزلها عن نظريته العامة في الإنسان والمجتمع ولا عن الظروف التي أحاطت بظهورها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ اتسمت هذه الفترة بحروب واضطرابات سياسية واجتماعية متعددة: من الحروب النابليونية إلى حرب القرم(1854-1856م) بين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا من جهة وروسيا من جهة أخرى، إلى الصراع بين الملكيين والجمهوريين وبين الليبراليين والمحافظين، فضلاً عن الصراع بين العمال وأرباب العمل”، كل ذلك قاد كونت إلى التفكير بوضع علم للمجتمع أو دين للإنسانية يجنبها النزاعات السياسية ويحقق لها السلام الاجتماعي”.
يرى كونت أن الفكر البشري قد مر خلال تطوره التاريخي في حالات ثلاث: المرحلة اللاهوتية(= الدينية) التي تعلل الأشياء والظواهر بكائنات وقوى غيبية، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على الإدراك المجرد، والمرحلة الوضعية التي يتوقف فيها الفكر عن تعليل الظواهر بالرجوع إلى المبادئ الأولى ويكتفي باكتشاف قوانين علاقات الأشياء عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية. ويعتبر كونت أن العلم الذي يتفق مع المرحلة الوضعية ويساعد على فهم الإنسان ويستوعب جميع العلوم التي سبقته هو (علم الاجتماع)، وإشارته إلى هذا واضحة في الدرس الأول من (محاضرات في الفلسفة الوضعية)، إذ يقول “إن هدف الفلسفة هي إعادة تنظيم المجتمع”.
لذا فإن هذه النظرية والافكار التي سبقتها قد تقاطعت كلياً مع الحقائق والمسلمات البديهية في المجتمع والدولة الاسلامية لاكثر من الف سنة مضت، والقائلة بأن الاسلام هو الدين والنظام الذي يجب أن تسير عليه قافلة الحياة لاغير.
وتأثرت جمعية الاتحاد والترقي بوصفها منظمة تآمرية سرية، بعدد من الجمعيات السرية الاوروبية خصوصاً: الكاربوناري الايطالية (Carbonari)، وإيطاليا الفتاة، والمنظمة الثورية المقدونية الدولية، والماسونيين.
هذه الحركة، كما هو معروف طورت اتجاهين: لا مركزي، يستهدف إعطاء المجموعات إلاثنية (= القومية) غير التركية حقوق استقلال ذاتي( بما في ذلك العرب والكرد وشعوب البلقان وغيرهم)، واتجاه آخر مركزي متشدد(= الاتحاد والترقي) ويركز على الاصلاح الدستوري للدولة المركزية.
لعب الكرد أو الاشخاص من أصل كردي دوراً مهماً في الجمية(= الاتحاد والترقي) منذ تأسيسها على يد الطلاب عام 1889م، وكان إثنان من الاعضاء المؤسسين لجمعية الاتحاد والترقي الاولى كرديان، و هما: اسحاق سكوتي، وعبدالله جودت، وإنضم كرد بارزون آخرون الى الحركة وشاركوا مشاركة فعالة في نشاطاتها، واعتقل عدد من أعضائها عام 1895م وأرسلوا الى المنفى ومنهم: اسحاق سكوتي الذي نفي الى جزيرة رودس التابعة لليونان، وعبدالله جودت الذي نفي الى طرابلس الغرب في ليبيا.
واشترك كردي آخر هو الشيخ عبد القادر بن الشيخ عبيدالله النهري(=قائد الثورة الكردية لعام 1880م ضد الدولة القاجارية الايرانية) في مؤامرة فاشلة لجمعية الاتحاد والترقي للانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني عام 1896م، وقد أعدم فيما بعد في شهر حزيران عام1925م بتهمة المشاركة في ثورة عام 1925م الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران ضد السلطات التركية الكمالية.
قبل قيام حركة الإتحاد والترقي بالسيطرة على مقاليد الأمور في الدولة العثمانية عام 1909م، فإن السلطان العثماني عبدالحميد الثاني(1876-1909م) قد انشأ سنة 1892م تشكيلاً عسكريا ًيدعى بالفرسان الحميدية، وقد أدخل في هذا التشكيل الآلاف من رجال القبائل الكردية للاستفادة من شجاعتهم وفروسيتهم في قتال الروس والأرمن المتمردين على سلطة الخلافة الإسلامية الذين كانوا يعيشون جنبا إلى جنب مع الكرد. لاسيما بعد تمرد الأرمن الشهير عام1894م في شرق الاناضول المدعوم روسياً. ولكن بعد سقوط السلطان عبدالحميد ودعوة جمعية الإتحاد والترقي الى الطورانية وسياسة التتريك جعلت أبناء القوميات الأخرى من العرب والكرد والألبان، يتوجسون خوفاُ منها، ويطالبون بحقوقهم القومية أسوةً بالأتراك.
حينما كانت الدولة العثمانية إسلامية كان الجميع يعيشون في ظلها إخوة متحابين عملا بالحديث النبوي الشريف: ((لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى))، لذلك بدأ المثقفون والضباط الكُرد الذين كانوا يعيشون في العاصمة استنبول، التفكير بالقيام بنشاطات سياسية وثقافية من أجل تشكيل جمعيات وحركات قومية على غرار الملل والاثنيات العثمانية الاخرى، مثل العرب، وفيما بعد إقامة أحزاب سياسية للمطالبة بالحقوق القومية الكردية في ظل الدولة العثمانية.وكانت الدعامة الفكرية والثقافية لهذه النُخَب الكردية للمساهمة في بناء مشروعها؛ هي الاستفادة من الافكار اليبرالية والديمقراطية والقومية الجديد اسوةً القادمة من أوروبا، ما بين تبنيها بالكامل مفهوم (= التغريب والعَلمنة) والتي تطلق المدونة الاسلامية الحديثة عليها: سياسة التغريب والغزو الفكري، أو الموائمة بينها وبين المسلمات الاسلامية التقليدية، فيما سمي بمفهوم (الأصالة والمعاصرة).
وعلى أية حال فان جمعية الاتحاد والترقي قامت بانقلابها الشهير في شهر تموز /يوليو1908م ضد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني(1876-1909م) التي كانت لها آثار عميقة في مصائر شعوب البلدان التي شكلت الدولة العثمانية.