منذ أن تجاوز العالم خطر مجموعة من الأوبئة والامراض سواء من خلال توفير اللقاحات التي تمثل تحصين ووقاية منها كما هو الحال في السل والكوليرا والطاعون أو من خلال القدرة على السيطرة المرض بشكل ما تقدم كما هو الحال مع الايدز والسرطان والسكري، لم يعد ضمن الأولويات الدفاعية ولا قائمة الاخطار الصاعدة اي ذكر للتحديات الصحية خصوصا في ما يسمى بالعالم الأول، وقد طغت تحديات مثل الاحتباس الحراري والارهاب والاسلحة الجرثومية والنووية وشحة المياه واللاجئين على اثر الحروب والصراعات البينية على اولويات معظم دول العالم، وفي اللحظة التي كادت معظم المناطق أن تتشافى ولو نسبياً من تداعيات الارهاب والجهود متوجهة لحلحلة وانهاء صراعات مثل سوريا وليبيا واليمن واماكن اخرى، أستفاق العالم على خبر خافت الصوت لم تكن آذان معظم دول العالم مهيئة للإنشغال به، وظل في ايامه الأولى بوصفه نازلة خصت الصين وإيران إلا أن هذا الشرود والغفلة صعقها هذا الفيروس الغريب العجيب ليطيح بكل عروش التعالي والمكنة، ويجعل العالم المكتظ بالصراخ حد الضجيج صامتاً مطبق الشفاه، ساكن الحركة، تجول القطط والكلاب في كبريات شوارعه ومدنه، وتتهاوى اسواقه وبورصاته واستثماراته، وتغلق محطاته ومطاراته وموانئه واسواقه، ويعم الهلع والخوف حداً يجعل القريب يبتعد خيفة من قريبه، وتعلن المساجد والجوامع والكنائس والمسارح والملاعب ودور الترفيه والاسواق انها لا تريد زائرا ولا مرتاداً ولسان حالها وحال الجميع يصرخ (خليك بالبيت).
كل هذا المشهد والحديث متضارب ومتواصل عن منحنيات الازمة، فبين مستبشر يتحدث عن نزول وامكانية لترويض هذه الجائحة وبين قلق يتحدث عن ارقام فلكية للاصابة تنتظرنا في الايام القادمة، ومع هذا المشهد ورغم كل الحس الانساني التشاركي تجاه هذا البلاء فإنه لا مراهنة على قدرة الصمود خصوصا وان الجائحة طرحت قطاعات صحية نموذجية مثل ايطاليا والمانيا وحتى امريكا ارضاً.
ومع أن العيون والآذان والقلوب مشدودة لذات الوباء وتداعياته إلا ان خسائر وتداعيات في كل مفاصل الحياة وفي مقدمتها الاقتصاد لا تقل خطورة ولا قدرة على الصعق، فبمجرد تسربت اخبار عن خفض الرواتب بنسبة 25٪ دخل الناس في دوامة تشابه سكرة كرونا، هذا غير ما تتحدث عنه الدول من قائمة خسائر وكلف بارقام فلكية.
وفي ظل كل تلك المعطيات يتأشر جملة من الحقائق والمقاربات تتمثل في الآتي:
بغض النظر عن نوع وطبيعة الاسباب التي تقف وراء انتشار الفيروس، وهل انه محض تحد صحي ام انه فعل انساني مدبر، فإن الواقع اثبت بأن غرور كل مصادر الاستشراف وسيناريوهات المستقبل ومراكز التحضير الاستباقي قد حطها هذا الوباء أرضاً ومرغ انوفها بالتراب، وهي تعيش هول الصدمة في ظل متغير لم يخطر على بال أحد.
– إن القطيعة مع الله والسماء التي تم التنظير لها معرفياً عبر مقولات الانسان سيد الكون ومركزه وموت الإله، والتي اشتغلت على تعميقها الممارسات العملية للأفراد والجماعات، باتت أمام اهتزاز عميق أيقظ كل السبات المطبق من عقود، وأجبر الكثير على اعلان اليأس والحيرة والعجز لجهة الاسباب المادية، فهل اصبح العالم مهيئاً لادخال السماء متغيراً رئيساً وحاكماً لا بد من رعايته والعمل بموجبه وعلى اساسه، وهل يتحرك من قلب هذه الازمة خط فكري ومعرفي وثقافي تصحيحي يطرح معادلة جديدة لعقلنة العالم؟
– ان نحو من تحد مختلف يتعلق بالقدرات الصحية والاساليب الوقائية والعلاجية فرضه كرونا المستجد والذي تطلب ان يعيد العالم سلم تصنيفه للقدرات الصحية وقدرات الدول عموماً على مواجهة الازمة، وهو امر لا تستثنى منه دولة من الدول، بل الكل ملزم بقراءة جديدة وفهم مختلف لقدرات الدولة في مواجهة الاخطار والازمات.
– دعى الامين العام للامم المتحدة الى وقف فوري وشامل لاطلاق النار في جميع انحاء العالم، وهي دعوة ايجابية لكنها لم تكشف عن المستلزمات الضرورية لضمان نجاحها خصوصاً وان عالم ما يسمون انفسهم بالكبار لا يزالون غير منخرطين حقيقة في هذه الدعوة، وفي هذا السياق هناك تساؤل يمسك بطرفي فرضيتين في اقصى التضاد يتمحور حول، هل أن كرونا على سوءه مادة لاصقة مناسبة يمكن ان ترمم تكسرات وتشققات عالمنا المتصارع والمتنابذ والمنخرط في دوامة تغالب بحيث تكون صوت العقل الذي يصيح في رؤوس كل النفوس الجامحة ويعيدها الى رشدها وبالتالي يحيلنا الى صيغة تقارب يمكنها ان تختصر ماراثونات التفاوض بين اكثر من طرف وتكون بمثابة قدر جمعي لازم الاستجابة، أو انه على العكس من ذلك سيكون بفعله الشديد لتأزيم الموارد والقدرات ولتداخله مع حزم الصراعات الجارية، مصدراً لتباعد اكثر وانانية اشد وتغالب، وسوف يكون طب الحرب هو الحاكم داخل الحدود المحلية وخارجها، وهل ان هناك جهد حقيقي يرصد ويتلمس هذه المسارات ويشتغل عليها في اطار مسؤولية كونية لمواجهة خطر عالمي؟
– محلياً اعتقد ان كرونا العراقي لا يزال لم يدخل محدد مصيري بل محدد مهم في عقلية وحساب الطبقة السياسية المنخرطة في لعبة الحكم والسلطة، كما ان نحو من التوظيف والاسثمار للمع والضد بشكل غير اخلاقي ولا وطني يجري التلاعب به من خلال (محنة الفيروس) ليس بحثاً عن منافذ من نفق الازمة بل لضمان مكاسب اكبر ضمن احجية (من يغلب؟).
اتمنى ان تكون هذه الاثارات العالمية والمحلية مفتاحاً لنتاج نظري وعملي يكون مستجيباً بايجابية لمتطلبات عالم ما بعد كرونا.