22 نوفمبر، 2024 3:30 م
Search
Close this search box.

إزالة التعارض بين معيارية الأخلاق وإيتيقا الحياة الجيدة

إزالة التعارض بين معيارية الأخلاق وإيتيقا الحياة الجيدة

استهلال:
” إن تمني العيش في كنف مؤسسات عادلة ليتعلق بالمستوى الأخلاقي عينه مثل الرغبة في تحقيق الذات والتبادل في الصداقة”1[1]

يعود الفضل الى جان نابرت1881 – 1960 في الانتباه الى وعورة الظرف الاستثنائي الذي تمر به البشرية وطرح السؤال الايتيقي في الفضاء الفلسفي الفرنسي باكرا والبحث عن مبادئ مؤقتة وشذرية والتطرق الى التجربة الباطنية للحرية وجمع عناصر تفكيرللحياة الأخلاقية دون أن يتبني نظرة شاملة باحثا عن طرائق تساعد على تنمية الروح وتعود الى الغائيات والى العالم وتربط الصلة بين قيم الفعل والوجود وبين قيم الفعل والمجموعات القيمية الأخرى على غرار أنظمة قيم الجمال والحقيقة والمجاورة عن طريق الوعي المحض بالذات للفعل الابداعي للقيم2[2]. لقد أحال هذا الفيلسوف التأملي على المادة الضرورية لاعادة بناء ايتيقا في نهاية القرن العشرين ولقد انطلق من وضع الذاتية على محك الشر والألم وجعل الرغبة في المطلق تستند على الاثبات الايتيقي ودرس تجربة الخطأ في إطار الوعي المحض الذي يتوجه نحو فهم ذاته وامتلاك اليقين3[3]. لقد أكد نابرت على ضرورة رفض الواقع المعطى ودعا من خلال يقظة الوعي المحض للمرور الى الأنساق الرمزية والاحتماء بأشكال جمالية مبتكرة ونماذج فنية بواسطة الإرادة والقصدية. بيد أن الاستشكال الفلسفي للقيم والصياغة الدقيقة للحاجة إلى استئناف المطلب الإيتيقي قد نهض بها تيودور أدرنو في كتابه المنسي أخلاق الحد الأدنى4[4] الذي ألفه بين 1944 و1947 بعد هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وواصل فيه ما كان قد بدأه في مؤلفاته الأخرى وخاصة النظرية الاستيطيقية والجدلية السلبية وشذرات فلسفية من جدلية العقل وفلسفة الموسيقى الجديدة من إنتاج جملة من الأفكار حول الحياة الإنسانية المبتورة التي تعرضت للتشويه والتنكيل والاغتراب5[5]. لقد ولدت هذه التأملات في الحياة المهينة من رحم عسر الهضم الإيديولوجي عانى منه الإنسان الغربي ومثلت وجهة نظر ندمج فيها الالتزام السياسي بالحنين البرجوازي للفرد العقلاني الذي يريد إعادة بناء الأفق السياسي والاجتماعي والأخلاقي دون التخلي عن فكرة التحرر الممكن له. لكن كيف يمكن انقاذ القيمة الحقيقية والحال أنها توجد مغمورة بالميولات ويتعذر على أي كان بلوغها؟ وهل نمح بعض الاستقلالية للقيم أم يجب دفعها نحو الارتباط بوظائف الفكر؟ فيما يتمثل التقدم بالذات في تجربة قيم الفعل؟ هل يقتضي منح القيمة حق الاقامة في الكل أم يتطلب الاشتغال على تنميتها بالمشاركة في الكل؟ وبأي معنى تكون الإيتيقا ملزمة بالتدخل في الواقع وألا تظل التقنية الصناعية معالجة شكلية وعملية كمية تراكمية عندما تخفق في تحقيق رهانات مشتركة بين الذوات وتنحصر تدبيراتها في تقديم جملة من القواعد والوصايا الجزئية؟ كيف مثّل التفكير في الرعاية استدعاء للنظر المختلف نحو السياسات العمومية من جانب إيتيقي؟ وهل تتأسس الإيتيقا على الفطرة أم تعود إلى منابع ثقافية للذات؟ وهل تتفق مع الطبيعة أم تحترم المعيار؟ماهي الخصائص الايكولوجية التي تتميز بها الايتيقا اليوم؟ ومن يتحكم في مصير الحياة الراهنة؟ والي أي مدى يتوقف الحكم الطبي على قواعد الحكم الأخلاقي؟ ومتى يكون القرار في الحقل الايتيقي صائبا؟ ولماذا يتم اشتراط تركيز هيئات ايتيقية ؟ وهل يمنع ذلك من اصدار قرار ايتيقي كلي؟

1-الأخلاق والايتيقا:

” تظل الإيتيقا ، في عالم ليس على ما يرام ، سبب الوجود الوحيد للفلسفة”6[6]

تنحدر الأخلاق من الجذر اللاتينيmores وتفيد جملة الشيم والأعراف والقواعد العامة في حين تشتق الإيتيقا من الجذر الإغريقيethos وتتعلق بميدان الأفعال الفردية ومجال أحكام القيمة التي تحمل عليها. لقد دأب الناس على التفريق بين الوفاء والخيانة وبين الإخلاص والخديعة وبين الصدق والكذب وبين الشجاعة والاستقالة وبين الجرأة والخمول وبين التهور والتعقل وبين الإقدام والجبن وبين البر والبخل. واستعانوا أثناء هذا التمييز بمجموعة القيم التي توجه علاقاتهم مع الغير وتحدد كيفية تصرفهم في حالة وجودهم في وضعيات اجتماعية مغايرة لوضعياتهم الأخلاقية الأولية وتتأثر باندراجهم في العالم وتتغير بمرور حركة التاريخ وطبقات الميراث والعادات التي تشكل العلاقات الأسرية والاقتصادية والعاطفية. لقد جعل التفكير الأخلاقي شغله الشاغل الإجابة عن أسئلة: كيف ينبغي على المرء أن يعيش؟ وماذا يجب عليه أن يفعل؟ وماهو الهدف السامي من حياته؟ وما الغاية من فعل الخير وترك الشر؟ وماهي السعادة؟

لقد انصب اهتمام التفكير الأخلاقي حول موضوع السلوك الإنساني من جهة النوايا والرغبات والأفعال ومن جهة الحياة في بعدها العملي الذي كان الفلاسفة الإغريق قد أطلقوا عليه تسمية الممارسة Praxis. أما الفلسفة الأخلاقية فإنها ترنو إلى تحديد السلوك المشروع والصائب والمستقيم والمكتمل بواسطة العقل وتدرس الامتياز الإنساني والطرق المؤدية إلى الالتزام بالفضائل والابتعاد عن الرذائل وأسس الأخلاق وتنبثق من تلاشي الأخلاق الطبيعية والمشهورة التي تراكمت بالتجربة التاريخية ومن تعرضها لأزمة أربكت اليقين الأخلاقي لدى البشر وزعزعت البديهيات التي كانوا يستمدون منها قناعاتهم وتصوراتهم.تبدأ الفلسفة الأخلاقية عندما ينتزع الفكر العملي نفسه من العادات والتقاليد وقواعد الحياة المشتركة ويشعر بالحيرة والقلق والتردد في اتخاذ القرار واختيار السبيل أمام انقلاب المعايير وحالة الفراغ الأكسيولوجي ويجد نفسه أمام تصدع كبير في النظم القيمية وأمام أزمة روحية عميقة فيطلق حملة تجديد للوعي الخلقي. ;لا يتم بلورة تفكير أخلاقي متجدد إلا من خلال إعادة التفكير في أسس الأخلاق من طرف كانط ونيتشه وماركس وشلر وسارتر وبرجسن ونابرت و وأرندت ولفيناس ويانكليفيتش ودولوز وفوكو وريكور7[7]. لقد كشفت الماركسية عن الايديولوجيا التي تختفي وراء كل سلوك أخلاقي وربطتها بالعلاقات المادية وتطرقت البنيوية إلى النسق الرمزي وعلاقات القرابة وتحدثت الفرودية عن دور اللاشعور والغريزة. إذا كان ميشيل فوكو في سلسلته تاريخ الجنسانية قد ميز بين الأخلاق المسيحية للتعفف الصارم والعذرية والوفاء الأحادي والأخلاق الوثنية والفلسفة الأخلاقية القديمة في المجتمعات اليونانية والرومانية التي تشجع على الحرية والحياة والتعدد وتمجد الطبيعة واللذة الحسية والمتع الدنيوية والفنون وثقافة الجسد8[8] فإن بول ريكور قد نشر في قراءات 1 الذي نشر في عام 1990 نصا عن الأخلاق والايتيقا 9[9]درس فيه العلاقة بين المفهومين واختبر فيه فرضية الإيتيقا الأساسية التي يسعى إلى تشييدها من خلال جهود من سبقوه في الفلسفة ومعاصريه وطرح فيه السؤال التالي: هل ينبغي لنا التمييز بين الإيتيقا والأخلاق؟

في الواقع ، لا شيء في الايتيمولوجيا أو في تاريخ استخدام الكلمتين يفرض هذا التمييز، إذ الكلمة الأولى متأتية من اللغة اليونانية ، بينما جاءت الكلمة الثانية من اللغة اللاتينية ، وكلاهما يشير إلى فكرة الشيم (الايتوسEthos ، والمورسMores ). زد على ذلك لا يتفق المؤرخون حول معنى الكلمتين وطبيعة العلاقة بينهما ولكنهم أجمعوا على ضرورة المحافظة عليهما معا والبحث أشكال الوصل والفصل بينهما. من جهة أخرى يمكن للمرء على التو أن يلحظ وجود فوارق بينهما من جهة الوظيفة والمقاصد ويركز انتباهه حول استهداف الحسن أو ما يتم فرضه بالإلزام والوجوب على مستوى الأفعال والخيارات. كما يرى ريكور أن دلالة حد الإيتيقا على قصد رغد الحياة بالقيام بأعمال حسنة هو مجرد اتفاق لا غير بينما إشارة مصطلح الأخلاق إلى الإلزامي ينم عن ضرورة كونية ويخضع إلى معايير وأوامر ونواهي. بناء على ذلك يعتمد ريكور على الموروث الفلسفي لتذليل صعوبة التمييز بين المفهومين والقول بتعارضهما ويرى بأن الموروث الأرسطي قد تناول مقصد الحياة الجيدة من منظوري غائي téléologique،بينما الموروث الكانطي قد اعتنى بالخضوع إلى المعايير وحدد الأخلاق من خلال خاصية إلزام المعيار والطابع الأمري للأفعال وفق المنظورية الأداباتية déontologique وحاول الخروج عن هذه الوثوقية الأرسطية والكانطية في ذات الوقت والبحث عن نحت مفهوما جديدا لتنظيم الأفعال في الحياة العملية. في هذا السياق قد يقودنا المعيار إلى التناقض وقد ينتبه المقصد الإيتيقي إلى فرادة الوضعيات الجزئية وبالتالي: أليس من الأجدى عند ريكور أن نمنح الأولوية للإيتيقا على المسألة الأخلاقية ؟ إلى أي مدى يمكن أن نختزل الإلزام الأخلاقي إلى تطبيق القاعدة المعيارية الاجتماعية؟ متى يمكن أن يتحقق واجب الوجود السعيد؟ وهل الشر والكذب والعنف والحرب هي من الرذائل المدانة دائما ؟ أين توجد القيمة الاعتبارية للمثل في الأخلاق؟ ماذا يتعلم الإنسان من الإحساس بالذنب؟ وهل من الضروري أن يخضع المقصد الإيتيقي إلى غربال المعيار والقاعدة الأخلاقية ؟ ألا تقتضي الحكمة العملية sagesse pratique عودة المعيار إلى المقصد والبحث عن شرعية القاعدة من استهداف الحياة الجيدة؟

2-غائية المقصد الإيتيقي:

” إن المقصد الإيتيقي يتمفصل… حول عناصر ثلاثة يكرم فيها بالتساوي الأنا والآخر القريب ثم الآخر البعيد: أن نعيش في خير مع الآخرين ومن أجلهم في إطار مؤسسات عادلة”10[10]

يعرف ريكور الإيتيقا بكونها استهداف الحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة ويعطي المكونات الثلاثة للتعريف نفس الأهمية الإيتيقية وهم الوجود مع الغير والتضحية بالنفس من أجل الأغيار وعدالة المؤسسات التي تدافع على الحقوق وتنظم العلاقات بين الأفراد والدولة. لقد تحدث أرسطو عن الحياة الجيدة بالمعنى الإجرائي وليس بالمعنى الإلزامي وأشار إلى الاستهداف والتمني والحلم والأمل في التحقيق وإرادة الانجاز والتصميم على البلوغ وحب الإدراك والوصول. لكن هل يقدر الإنسان أن يحيا بشكل حسن وأن يستمر في الوجود بطريقة جيدة ويحقق سعادته ويستكمل اهتماماته ومشاريعه ويعتني بذاته ويتعدى مجرد الحلم ويتفق على الأمنيات ويتم انجاز مشروع الاشتغال بالذات والمصالحة مع الغير ويرتقي بالمؤسسة إلى مستوى العدالة الوظيفية. لكن هل من تناقض بين العناية بالذات وإيثار الغير؟ وكيف تشغل المؤسسة ضمن فضيلة العدالة؟ وهل نبدأ بالعناية بالذات قبل الاهتمام بالغير وقبل الشروع في تدبير الشروط العادلة للانتماء إلى المؤسسة؟أليس من المستحسن الانطلاق من العناية بالآخر والتوجه نحو إصلاح المؤسسات والتموقع في المدينة؟ إن لفظ الذات soi يستحق بالأساس كل التقدير على الصعيد الإيتيقي ويحتفظ بالاحترام على الصعيد الأخلاقي الأمري ويختلف عن الأنا الذي يرفض اللقاء بالغير ويبقى يتحرك ضمن نظرة الأنانوية. إن ما تقدر عليه الذات في حد ذاتها هو ن جهة أولى الاختيار بصورة تفضيلية ولأسباب معقولة وقصدية ومن جهة ثانية إحداث تغييرات في مجرى الأحداث وابتداء أمر معين في العالم والقيام بمبادرة. هكذا يكون تقدير الذات هو اللحظة التفكيرية للبراكسيس في شبكة الترتيب ضمن نظرية الفعل وحينما يقيم الإنسان أفعاله فهو يقيم نفسه كفاعل لفعله دون أن يتحول إلى مجرد قوة طبيعية أو وسيلة تقنية . لكن كيف يعيش الإنسان بشكل جيد مع الأخر؟ هل يعتني بذاته أم يحيا من أجل الغير؟ وهل الغير شريك أم عدو؟ ومن يضمن للذات عدم تحول الغير من شريك إلى عائق؟ ألا توجد مخاطر في انفتاح الذات على الآخر؟ وهل يتم تقدير الذات عندما يتخلى الأنا عن طابعه التفكيري وينفتح على العالم والمجتمع؟ وكيف يقع تقدير الذات في خطر الانطواء والانغلاق على العالم بدل الانفتاح على أفق الحياة الجيدة؟

إن العناية لا تضاف من الخارج إلى تقدير الذات بل متضمنة في البعد الحواري الذي تجريه مع الغير وبالتالي لا تتحقق العناية دون تقدير الذات ولا يحصل المرء على تقدير ذاته دون عناية مفرطة بها. أن نتحدث عن الذاتsoi ليس أن نقول أناmoi ، فالذات عند ريكور تتضمن الآخر غير الذات من أجل أن نتمكن من القول بأن أحدهم يحترم نفسه ويقدر ذاته بوصفها غيرا. إن التقدير المتقاطع بين الذات والغير يقتضي الابتعاد عن التجريد وطلب التبادل والتصريح بأن الأنت أيضا يستحق التقدير كذات وذلك لأنه كائن المبادرة والاختيار وقادر على الفعل وفق أسباب وترتيب الغايات وتغيير العالم. زد على ذلك يترتب عن القول بقاعدة التكامل في نظام التبادل بين الأشخاص أن الأنت قادر على تقدير ذاته والآخر يمكنه أن يقول أنا مثل الذات وأن يعامل نفسه كفاعل ومؤلف ومسؤول عن أفعاله. غير أن سر العناية لا ينكشف وغاية التكامل لا تتحقق إلا عند إتباع فضائل الصداقة والمحبة والتآلف حيث يقدر الواحد غيره مثلما يقدر نفسه ويتغلب على اللاّمساواة الناتجة عن خضوع المتعلم للأستاذ. هكذا تتشكل اللاّمساواة من ضعف الآخر ومعاناته ومن تفوق الذات وتمركزها على نفسها. إن هذا التفاوت لا يتم إصلاحه أو القضاء عليه باعتراف السيد بالعبد وبلورة تكامل منقوص وغير متكافئ وإنما بواسطة صداقة الغير حيث لا تكون الذات مطالبة بأن منح شيئا غير فعل الشكر. إن المعاملة بالمثل لا تؤدي دائما إلى تبادل الاعتراف والمساواة بين الأنا والآخر ولا تعكس حقيقة الصداقة بل تفضي إلى ردود أفعال مؤذية تجاه الغير وتحتج إلى منطق الجود والتضحية دون مقابل. على هذا النحو يتضمن المقصد الإيتيقي نحو حياة جيدة معنى العدالة ويتم بواسطة الاعتناء بالآخر البعيد الذي يوجد في منطقة الغرابة أبعد من الأنت وأشد التباسا من علاقة الوجه لوجه في العدالة. وبالتالي لا تتوقف الحياة الجيدة على العلاقات البيشخصية بل تتعدى ذلك إلى الحياة داخل المؤسسات وتشترط بناء مساواة تتكون من طبيعة مغايرة عن المحبة والصداقة والتوادد والإحسان وتقوم على الهبة والبذل والجود والعطاء وقريبة من الشراكة والرعاية والعناية التي تفرضها الأبعاد الإيتيقية لعدالة المؤسسة. من المعلوم أن المؤسسة تعرف بكونها بنى وأطر العيش المشترك للجماعة التاريخية والتي لا يمكن ردها أو اختزالها في العلاقات البيشخصية وتعتمد بالأساس على الإنتاج والتبادل والعدالة التوزيعية. تشهد المؤسسة بروز نظام من التقسيم والمحاصصة للحقوق والواجبات والعائدات والمداخيل والقدرات والمسؤوليات والمنافع والأعباء والصلاحيات التي تشير مشكل التوزيع بالنسبة للعدالة. ما يلفت ريكور الانتباه إليه هو اتساع حقل المؤسسة بالمقارنة مع علاقة الوجه لوجه في المحبة أو الصداقة وذلك بسبب مسارات التوزيع والقسمة التي تدفع المقصد الإيتيقي إلى تقدير الغير والغريب وإعطاء كل واحد حصته العادلة في نظام التوزيع مهما كان انتمائه وموقعه في الجماعة التاريخية. والحق أن ريكور يتحدث عن العدالة بالمعنى الإيتيقي مع المحافظة على المعنى الأخلاقي المشروع ويقوم بتسجيل العادل في مقصد الحياة الجيدة وفق علاقة الصداقة مع الغير واستخدام شرعي العقل. لقد شهدت فكرة العدالة تحولات عبر تاريخها الطويل فقد نشأت ضمن التراث الأسطوري واللاهوتي ولكنها امتلكت معنى جديدا في إطار المجتمعات المعلمنة ولم تعد ترتبط ببناء جملة من الأنساق القانونية بل تشير إلى التضامن مع المظلومين وإنصاف الضحايا والفئات الاجتماعية الأقل حظا. هكذا تشير العدالة إلى التوزيع والمساواة النسبية وتتفادى الصيغ الشكلانية التي يستعملها علماء القانون والأخلاق والسياسة وتعتبر نفسها مجرد فضيلة تواجه الظلم والتفاوت وترسم الطريق نحو حياة جيدة. فماهي الآدابية؟

3-إلزامية المعيار الأخلاقي :

“الأخلاق الكانطية في خطوطها العريضة هي ترجمة صحيحة للتجربة الأخلاقية المشتركة التي لا تعد وفقها واجبة إلا قواعد الفعل التي تنجح في اختبار الكونية”11[11]

بعد ذلك وفي مقام ثان يحاول ريكور إخضاع المقصد الإيتيقي نحو حياة جيدة إلى امتحان القاعدة المعيارية وذلك من أجل تخطي النزعات التي تثيرها النزعة الشكلانية وإدراج المعيار ضمن الحكم الأخلاقي وإثراء الإيتيقي بالأخلاق عبر المرور باللحظة الأمرية الآداباتية déontologique مع المحافظة على المكونات الثلاثة للمقصد الإيتيقي وتمتين الصلة الوثيقة بين الإلزام والشكلانية. في البداية المكون الأول لاستهداف حياة جيدة يوافق في الأخلاق مطلب الكلية universalité ولذلك اقترن الخضوع لامتحان المعيار بمطلب العقلانية بالإحالة المتشابكة بين مقصد الحياة الجيدة وتحقق العقل العملي. كما يقترن مطلب العقلانية بمطلب الكلية وذلك بواسطة تطبيق القاعدة الشكلية التي لا تقول ماذا يجب أن يفعل بل تضع المعايير التي تراقب قواعد الفعل في كل الظروف والمتغيرات والنتائج وتكون صالحة لكل الناس12[12]. لقد استخدم كانط الشكلانية لكي يبين أن الرغبة واللذة والسعادة ليست أشياء سيئة ولكنها لا تكفي لبلوغ الحياة الأخلاقية بل تعيق احترام الواجب وتعطل عملية الالتزام بالقاعدة المعيارية وتطبيقها على مستوى الفعل وبرر ذلك بطابعها التجريبي الحادث بالمقارنة مع المعيار المتعالي للكوننة universalisation واقتضى الأمر كذلك القول بالاستقلالية الذاتية autonomie أو بعبارة أخرى الحرية والقدرة على التشريع الذاتي autolégislation بوصفهما الرد الحقيقي من نظام الواجب على مقصد الحياة الجيدة. لقد أمنت الإنسانية منذ عصر النهضة إلى عصر الأنوار بوجود طبيعة بشرية واحدة يمكن أن تتأسس على مهادها أخلاق كونية ودعمت هذا الإيمان بالاعتقاد بأن إنسانية الإنسان قد تتحقق من خلال امتلاك العقل. لقد تقاسم كانط مثل غيره من معاصري تلك الحقبة هذه القناعة وأوكل مهمة التشريع الأخلاقي إلى العقل العملي وأسند وظيفة الحكم الأخلاقي الذي يستوجب إثبات حسن الفعل أو شره للفاعل القادر عليه ذاتيا. لقد أكد على أهمية الحرية من حيث هي قدرة على التحديد الذاتي والتمكين المجالي والاستقلالية والاكتفاء في دفع الأفراد إلى تنفيذ ما قرروه بأنفسهم وانجاز اختياراتهم بأنفسهم وتحويل المداولات إلى سلوكات سديدة. لو كان الناس مدفوعين الى الفعل عبر الأسباب والقوى الخارجية التي تظل غريبة عن إراداتهم فإنه يتعذر على الفكر الحديث بصورة فعلية عن فعل بالمعنى الدقيق للكلمة وتصير فكرة الأخلاق نفسها فاقدة للمعنى. لو تم تجريد الذات من قدرتها على الاختيار والتصميم والتنفيذ والإتمام وتم رفض حقيقة وجود فاعل متحكم في ذاته وسيد على نفسه ومسيطر على قراراته فإنه يؤدي إلى إضعاف كل الرهانات الأخلاقية. بطبيعة الحال لا يمكن التقليل حسب كانط في نظرية الواجب الأخلاقي التي يدافع ىعنها من دور الذات الفاعلة والحرة والواعية في التجربة الأخلاقية ولا يجوز إغفال مساحة الشفافية التي تتمتع بها عند اختيارها للأهداف المقصودة من أفعالها والوسائل التي تستعملها لتحقيقها.

ينقد ريكور الواجب الأخلاقي ويعتبر رده على سؤال: ماذا يجب علي أن أفعل هنا والآن؟ ، ردا مجردا وفارغا ولا يشير إلى أي شيء جزئي بل يجعل القائم بالفعل هو الذي يطيع الأمر الذي وجهه إلى نفسه. لقد حاول كانط أن يردم هذه الهوية بأن وضع الأمر القطعي في الحقل الأخلاقي كمعادل للعناية في الحقل الإيتيقي وأثنى على الشخص الإنساني باعتباره غاية في حد ذاته وحائز على الكرامة ويستحق الاحترام وبالتالي رفض كانط علاقة الاستغلال بين الناس وأقر التفاعل عبر العلاقة العفوية والطبية الأصلية بينهم. غير أن ريكور يكشف زيف هذه البراءة المزعومة ويؤكد على ما تخلفه السلطة التي تمارسها إرادة على إرادة أخرى من تعنيف وكذب و ضحايا وذلك بسبب معاملتها اللآخرين دائما كوسائل وليس البتة كغايات.

من بين الأوامر التي توجهها الأخلاق ضد مخاطر العنف والاستغلال ومعاملة الآخرين كأدوات نجد ما يلي: -لا تقتل ، – لا تسرق، و-لا تكذب وعامل الإنسانية وفق القانون الأخلاقي كغايات وليس كوسائل. وربما الغرض من هذه الأوامر هو منع انتهاك الحياة ووقف مصادرة الحقوق ومجابهة كل أشكال العنف. والقاعدة الذهبية للأخلاق التي تجسم الاستقلالية الذاتية autonomie وترسي الإنسانية humanité في التعامل مع الغير وتعده بالسماحة والاحترام والسلم هي : لا تفعل بغيرك ما لا تريد أن يفعله هو بنفسك .

لقد حول ريكور مفهوم العدالة من المجال الإيتيقي إلى المجال الأخلاقي بحيث لم تعد تعني أحد الفضائل كما الشأن عند أرسطو في مقابل رذائل الظلم والكذب والقتل والسرقة بل صارت تشير إلى نظرية متكاملة صاغها راولز وأدرج ضمنها مفاهيم الإنصاف والاختلاف والتعقل والحرية والاستحقاق والمنفعة العامة. لقد صاغ جون راولز نظرية العدالة وفق مقاربة إجرائية مضادة للنزعة الأرسطية الغائية téléologique وقريبة من الأداباتية déontologique الكانطية والتقاليد التعاقدية التي انتشرت عند مدرسة العقد الاجتماعي وجعل الوضع الأصلي يتصف بحجاب الجهالة ويقتضي القيام بالتروي والتدبير والمداولة من طرف أشخاص عقلاء حول توزيع المنافع ويصلون إلى إجراء منصف. كما نقد راولز النظرية النفعية لما تتميز به من طابع غائي عندما تعميم الخير على أكبر عدد من الناس وخاصة عند ستوارت مل وسيدويك.

إن الحل الإجرائي لمسألة العادل الذي أعلنته نظرية العدالة كإنصاف كما جاءت عند جان راولز قد اشتق مضامين مبادئ التوزيع المنصف من الوظيفة التي يؤديها العقد التفاوضي دون الالتزام بأي معيار للخير.

المبدأ الأول لا يمثل مشكلا عند ريكور لأنه يعبر عن مساواة المواطنين أمام القانون ويفرض قسمة عادلة لحقول الحرية ويعمل على تعديل معقول لأشكال المساواة الاجتماعية والاقتصادية حيث يتمتع كل واحد بنفس الفرص مع الآخرين وتتساوى الحظوظ وتظل الوظائف والمواقع مفتوحة أمام الجميع دون تمييز. والحق أن مبدأ العدالة النسبية المنحدر من أرسطو يستبعد المساهمات الفردية ولا يلتقي سوى مع نظرية القرار في سياق اللاّيقين ويدفع الحصة الدنيا إلى حدها الأعلى ويعتبر القسمة غير المتساوية هي العادلة ويعمل على زيادة نصيب المنافع والخيرات عند الأكثر حظ ويقلص من حصص ومنافع الأفراد الأقل حظ. لهذا السبب يوضح ريكور غياب المعنى الإيتيقي للعدالة عن النظرية الآداباتية déontologique عند راولز بالرغم من استنجاده بالاقتناعات الموزونة بشكل جيد من أجل بلورة تدبير حكيم وتوازن معقول بين الاقتناعات وبغية تفادي كل أشكال اللاّمساواة الفظيعة واللاّتسامح الديني والتمييز العنصري والاستبعاد الاجتماعي. يصعب حسب ريكور بلوغ هذا التوازن المعقول في الاقتناعات والأحكام الأخلاقية إذا تعلق الأمر تقسيم الثروة وتشريك المواطنين في السلطة وتظهر هوة كبيرة بين النظرية والواقع ويتطلب الأمر الانخراط في مسار معقد بين القاعدة الكلية والأحكام التفصيلية بغية انجاز تكيف متبادل بين الاقتناعات والقواعد الذاتية. لعل القاعدة الذهبية التي تتحرك ضمنها إلزامية المعيار الأخلاقي هي: لا تفعل لغيرك ما لا تريد أن يفعله بك وربما خير ما جاء به راولز حسب ريكور هي معارضته لتوزيع المساوئ على الضحايا وتشديده على توزيع المنافع على الفئات الفقيرة من أجل إنصافهم ومعالجة أشكال اللاّمساواة والغبن الذي تعرضوا له. لكن كيف يقتضي دافع العناية بالإنسان انجاز الانتقال من تقدير الذات إلى إنتاج المعنى الإيتيقي للعدالة؟

4-تراجيديا الحكمة العملية :

” في هذا الطور (تراجيديا الفعل) يكون الوعي الأخلاقي مدعوا في طوية الإنسان لوضع القرارات المتفردة التي أخذت في مناخ ريبية وصدامية حادة”13[13]

لما كان تطبيق نفس المعايير على وضعيات متعيّنة مختلفة ومتنوعة يؤدي إلى انبثاق النزاعات فإنه من الضروري أن تهرع المعيار الأخلاقي إلى الاستنجاد بالمقصد الإيتيقي من أجل التغلب عليها وفضها. لقد علمتنا التراجيديا الإغريقية وبالخصوص في ملحمة أنتيغون لسوفوكل أن الصراعات الحدية تنشئ من صعوبة تطبيق قاعدة معينة على مجموعة متنوعة من الأفعال والممارسات التي تتميز بالعنف والدموية. في هذا السياق تظهر تراجيديا الفعل من صعوبة تحديد الحكم الأخلاقي وتعثر عملية التمييز بين الأصدقاء والأعداء وتوفر أسس موضوعية للصراع والتزام قيمي لدى المتعصبين بضرورة الحرب وتعسف الاقتناعات وغياب سلطة القرار حول المعايير التي يجدر إتباعها والتدابير التي ينبغي القيام بها للمدينة. على هذا النحو تواجه الحكمة العملية الوضعية التراجيدية للفعل التي تتميز بالتمزق والتردد والنزاع وتستبدل القواعد الذاتية والمعايير الأخلاقية والقوانين الكلية بالاقتناعات الحاسمة والتي تستجيب إلى المعنى الإيتيقي الأكثر أصالة وتنهي حالة الحرب التي نشبت بين القيم والالتزامات الواثقة من نفسها.

لقد وضع ريكور في البداية مخططا من أجل فلسفة جديدة في الإرادة14[14] ولقد نظمت جمعية أعماق ريكور في باريس سنة 2014 يوما دراسيا بعنوان: نحو هرمينوطيقا الفعل: ريكور في مواجهة فلسفات الإرادة” خلصت فيه الى أهمية الفعل الإرادي في فلسفة بول ريكور الأنثربولوجية والى أن الفعل يتبع إستراتيجية كاملة تنتقل من علم الفعل الى فلسفة الفعل ومن تحليل اللغة العادية إلى أفعال الخطاب والبعد الأنطولوجي. لقد قام ريكور بالتمييز الإجرائي والمفهومي بين الإيتيقا والأخلاق بالرغم من إشارته إلى أنهما يحملان معنى مشترك ويتحركان على أرضية واحدة ويدلان على بعضهما ولكنه في كتاب عين الذات غيرا يلاحظ الدلالة السلبية بعض الشيء التي بدأت تتعلق بمفهوم الأخلاق في مقابل الترحيب والدلالة الايجابية للإيتيقا. لقد استفاد ريكور من التفريق الذي قام به ماكس فيبر في السياسي والعالِم بين إيتيقا المسؤولية التي تضع الفاعل أمام نتائج فعله وتنسبها إليه وإيتيقا الاقتناع التي تصرف النظر عند القيام بالفعل عن الاهتمام بالتبعات والمخاطر التي تنجر عنه ورأى أن الفاعل يجب أن يجمع بين النظريتين وألا يكتفي بواحدة فقط. هكذا تتابع الإيتيقا الحياة الجيدة بينما تحيل الأخلاق إلى الواجب وما يستوجبه من تطبيق واحترام للقانون. فإذا كانت الفضيلة تعني حسب ريكور الاستعداد لفعل الخير وترك الشر والمزاج المعتدل وتنزلت في حد أوسط بين الزيادة والنقصان وبين الإفراط والتفريط فإن الإيتيقا فن تطبيق قاعدة عامة في حالات جزئية ومعالجة المشاكل المستجدة والتحديات الطارئة التي تتسبب فيها التغيرات التاريخية والاكتشافات العلمية. لذا يمكن التمييز أيضا بين إيتيقا الفضيلة التي تسعى إلى بلوغ السعادة عن طريق القيام بالأعمال النافعة والابتعاد عن الأعمال الضارة ، وهي إيتيقا قديمة تعود إلى أرسطو وإيتيقا الواجب التي أتى بها كانط واعتبرها بديلا عن الأولى وترتبط الإرادة الطيبة والنية السليمة والفعل السديد والقاعدة الأخلاقية العامة. يبدو وكأن الأخلاق الحقيقية تسخر من الأخلاق الشكلية التي يتظاهر المرء بالالتزام بمبادئها دون تطبيق تام وتجسيم حقيقي وكأن الحياة دون قواعد صارمة وقوانين مجردة أفضل وأرحب من الحياة الإلزامية. لقد وضع ريكور نظريته الأخلاقية حول إيتيقا الفضيلة ضمن رؤية مابعد حديثة 15[15]استفادت من التجديدات التي حصلت في الفلسفة التحليلية مع ميلاد مفهوم مابعد الفضيلة اليزابات أنسكومب وألسداير ماكنتايير16[16]. لقد ساند ريكور بعث هيئات إيتيقية في ميادين الصحة والطب والمهنة والبيئة والقضاء والإدارة والتعليم تنظر في تمفصلات الكوني والجزئي وتدرس بعض الحالات الخاصة على ضوء تنسيب القواعد العامة17[17]. حول هذا الموضوع تسمى غائية18[18] كل نظرية تحاول أن تضع معايير للفعل وفق السياق الذي يتنزل ضمنه وحسب التبعات التي تنجر عنه والتأثيرات الحاصلة من القيام به على الذات الفاعلة وعلى محيط الفعل. بينما تسمى آدابية19[19] كل نظرية تأخذ بعين الاعتبار قصد الفاعل من قيامه بالفعل وتحكم على الفعل بالسداد عندما يرضي الالتزامات التي تعهد بها الفاعل ويحترم القواعد والقوانين التي تحدد شروط الفعل وتنظمه. كما تعد أخلاق الواجب الكانطية خير مثال عن النظرية الآدابية بما أنها تلزم الإنسان بأن يفعل عبر الواجب وأن يطيع المر القطعي دون أن يأخذ بعين الاعتبار النتائج المتعينة التي تترتب عن عدم قيامه بذلك الفعل.

لقد انتقلت الإيتيقا إلى مجال الرعاية الصحية والعناية الطبية ودافعت على ضرورة الاهتمام بالفئات الهشة وتقديم المساعدة للمحتاجين وذلك بالإحاطة النفسية والعلاج الطبي والتدخل الإنساني والمواساة العاطفية. لقد شككت الإيتيقات التطبيقية التقييمات النسقية في كونية الفلسفة الأخلاقية التي تأسست حول العقل والمبادئ المجردة والقوانين الكلية ومفاهيم الإلزام وبيّنت استحالة تطبيقها بشكل يشمل الجميع وفتحت المجال للحديث عن طرق أخرى غير معهودة في التفكير الإيتيقي تنتبه إلى الحالات الخاصة التي تسقط من الحساب العقلاني وتمنح المشروعية الوجودية في الميدان الأخلاقي للعواطف والأحاسيس والمشاعر.لقد فكر ريكور في ذات الوقت بنفس الأهمية في الإرادي واللاإرادي وفي الاقتدار والعطوبية وفي الخير والعادل ووضع القيم الأخلاقية ضمن مجموعتين: المجموعة الأولى تمنح الخير مكانة مركزية ولها تاريخ عريق وتمارس جاذبية على الفاعل الأخلاقي بمجرد علمه بمصدر الخير، بينما المجموعة الثانية تعطي الأولوية للعادل على الخير وتنتمي إلى الحقبة المعاصرة وتمارس أمرا على الفاعل من القيمة الأخلاقية وتربط مفهوم العادل بجملة الالتزامات والوصفات والنصائح التي ينبغي على الفاعل القيام بها وتطبيقها. إذا كانت الإيتيقا الأرسطية جاذبة وتوفر للإنسان السبيل بغية تحصيل السعادة باعتبارها الخير الأسمى فإن الأخلاق الكانطية هي أمرية إلزامية بحكم فرضها على المرء عدة شروط سواء حول الرغبات أو المنافع. في كتاب عين الذات غيرا ، يشير ريكور مرارا إلى أرسطو. ولكنه في الدراسة السابعة (“الذات والمقصد الأخلاقي”) تبدو هذه الإشارة في نفس الوقت الأكثر تناسقاً والأكثر وضوحا، اذ يعترف بأنه لا يسير في الطريق لحظة مع أرسطو في الدراسة وانما المسار من البداية الى النهاية يظل أرسطيا. فماهي أسباب هذا التقارب؟ وهل يتعلق الأمر ، بالنسبة إلىيه بالسير على أعقاب أرسطو أم بالدخول معه في حوار نقدي؟

من الواضح أن الإشارة إلى أرسطو تهدف إلى توضيح سؤالين: مسألة التبعية والمسألة الأخلاقية. أذكر أن هذه العلاقة هي محورية في قضية الكتاب: هو التفكير في النضج بحيث لا يأخذ شكل الإنغلاق على نفسه ولكن ينفتح على الآخر أو الأفضل ، أنه يشهد على وجود شكل من أشكال الغيرية في قلب الذاتية. بهذه الطريقة وعلى هذا الأساس فقط ، يمكن للذات أن تتخلص من أول شكل من أشكال الهوية العددية (idem) وتتخذ شكل الهوية الذاتية التي يطلقها عليها ريكور اسم الإنية ipseité. إنها علاقة مع النفس تمر عبر وساطة الغيرية وتضمن استمرار الهوية ، لكن بصفة أخرى متغيرة ومتطورة، ولا تمثل هذه الغيرية تهديدا للهوية ، بل تبنيها على نمط جديد وتثريها على نحو أفضل وتمنحها المعنى وتضعها في الزمن التاريخي والتجربة الواقعية. لكن بالنسبة لريكور ، فإن أرسطو هو المفكر الأخلاقي بامتياز ، الذي أظهر بوضوح أن الحياة الجيدة ، المرتبطة بمفهوم الفضيلة ، هي المقصد الأخلاقي الأول والنهائي20[20].

جملة القول أن الإيتيقا الريكورية تتكون من ثلاثة عناصر يعبر عنها بضرب ثلاثة أمثلة عن النزاعات المتفجرة في الحياة الإنسانية:

– العنصر الأول هو تقدير الذات من حيث هو عناية بمعنى العدالة: تصطدم استقلالية الذات الأخلاقية بالقاعدة الشكلانية للكوننة universalisation وينبثق نزاع يشق عملية تقدير الذات في وضعيات جزئية متغيرة تمر على الذات وتشهد تبدل أحوالها وتراوحها بين الفعل والانفعال وبين الفرح والحزن وبين النجاح في التغلب على المصاعب والإخفاق والتعثر في الحياة.ان النزاع بين الكونية والخصوصية يشتد على مستوى الحياة الأخلاقية ويمزق أي انسجام بين القاعدة المعيارية الكلية للحكم الأخلاقي والوضعية التاريخية من جهة السياق الاجتماعي للفاعلين الجماعياتيين. لقد سقط العقل الغربي في نسخته الأوروبية القارية حسب ريكور في عالمية مزعومة بسبب تناقض بين إشادته بأخلاق حقوق الإنسان ودفاعه على الاختلافات الثقافية وحمله لواء التنوير وفرض نمط مقولب من التحديث على العالم واحتكار الغرب تصريف شؤون الكونية وإقصاء الخصوصيات وإسهاماتها في صناعة الحضارة العالمية. في مقابل ذلك يقترح ريكور بلورة توازن متروي بين الكونية والتاريخية وإجراء نقاش مطول ومعمق بين الثقافات من أجل الاتفاق على القيم الكونية التي يمكن تقاسمها والدفاع عليها لتحقيق مطلب التواصل بين الخصوصيات.

– العنصر الثاني هو صراع الواجبات بين السجل الإيتيقي للعناية والسجل الأخلاقي للاحترام: ينشئ نزاع في العناية بين الحقيقة الأخلاقية والحماسة على معارضتها في فترة التدرج الإنساني من مرحلة إلى أخرى وتعرضه للتغيرات وهو ما يستدعي الحكمة العملية للتدخل ووزن التصرفات في هذه الفترة العسيرة من النمو وتكوين نواة للنصيحة تقارن بين وجهات النظر المتعددة وتزن القرارات وفق السياق وحسب المنظور في كنف المحبة والاحترام المتبادل وتعمل على بلورة جدلية بين العناية الموجهة نحو أشخاص بعينهم واحترام القواعد الأخلاقية والقانونية الموضوعة لمثل هذه الوضعيات الحدية. تشبه هذه الإيتيقا ما يحدث من نقاش داخل منظمة العفو الدولية وما يطرحه من تطبيقات الأخلاق الطبية وتوفير الرعاية الصحية للمسجونين مهما كانت درجة إجرامهم تجاه الإنسانية وضمان حريتهم بوصفهم ضحايا. يعود ريكور إلى مفهوم التعقل عند أرسطو في كتابه أخلاق إلى نيقوماخوس من أجل بلورة الحكم الأخلاقي في الوضعيات الجزئية المتغيرة ويقرنه بالحذر والحيطة والمداولة والتروي والحكمة العملية ويقر بالتطابق بين احترام الذات واحترام الغير وتوجيه النظام العملي وفق تعقلية فرنوزيسية مرنة عند الإنسان الفطن.

– العنصر الثالث هو ما يكشفه الحكم الأخلاقي على وضعية من مشكل العدالة الذي يتجلى في الزوج المفهومي العادل واللاّعادل في السجل الإيتيقي ومع التقليد التعاقدي في السجل الأخلاقي: لا يأخذ التصور الإجرائي للعدالة عند راولز بعين الاعتبار تنوع الخيرات ولاتجانسها في عملية التوزيع للحصص بين المواطنين ولا يفرق بين توزيع المنافع المادية وتوزيع السلطة والمعرفة والمنافع المعنوية. كما أن المؤسسات التي تتكفل بعملية التوزيع تتعرض للعطوبية والتذبذب على مستوى المردود بسبب الفوارق الاجتماعية المجحفة وموقع المواطنين من سلطة القرار والأشخاص الذين يتحملون المسؤولية. لقد تفطن راولز نفسه لهذه المعضلة حينما أعطى الأولوية للخيرات الاجتماعية على الحريات والحقوق وهو ما فتح الطريق أمام مايكل والزار لنقده والتطرق إلى مسألة دوائر العدالة وتأثير تنوع الخيرات الموزعة على ماهية العدالة نفسها وفتحها لحالة من النزاع حول شروط المواطنة ومفهوم الاستحقاق.

إن توزيع الرّفاه والسلامة والأمن والثروة ليس مثل توزيع السلطة والمسؤولية والوظائف والمواقع وبالتالي تفجر الصراعات حول الملكية وتفضيل العلاقات الشخصية وخرق القواعد القانونية يمكن أن يهدد بتمزيق وحدة مفهوم العدالة ويجعل الحكمة العملية في مواجهة مواقف محرجة تفقدها معقوليتها.توجد جملة من المطالبة المقنعة التي تحظى بالإجماع في الفضاء العام وهي الحماية والحرية والشرعية والتضامن ولذلك يدعو ريكور إلى تكوين خلية نصيحة في الدولة وتحويل الحكم السياسي إلى حكم حسب الوضعية وأن تكون الحكمة السياسية على هيئة نصيحة جيدة تنبع من تعقل حكيم وقرار موزون وأن تجسد العدالة روح الإنصاف بتخطي النزاعات وإصلاح القوانين وإعطاء الأولوية للفاعل المنصف على العادل.

لكن ماهي الضمانات التي يوفرها ريكور للذات الفاعلة لكي تملك الاقتدار عند التزامها بالحياة الايتيقية على ضوء قيمتي الانصاف والأمل؟

خاتمة:

” لا تصبح تلك الصيغ …- استمرارية الذات، العناية بالأقرباء، المشاركة المواطنية في السيادة- قواعد ذاتية وملموسة للفعل إلا عند استعادتها وإعادة تشكيلها وصياغتها ضمن ايتيقات جهوية وخاصة…”21[21]

لقد شهد المسار الذي قطعه ريكور في معالجة المسألة القيمية القيام بعدة منعطفات أمهما الانطلاق من الأخلاق والتقاطع مع الإيتيقا الأساسية وفي نهاية المطاف الرسو حيث الايتيقات الجوهوية والخاصة. وإذا كان في مرحلة أولى أقر بأولوية الإيتيقا على الأخلاق أو حاجة الأخلاق إلى تدخل الإيتيقا لتخطي المأزق الذي وقعت فيه وإذا كان في مرحلة ثانية أكد على ضرورة مرور المقصد الايتيقي بالقاعدة المعيارية فإنه في مرحلة ثالثة وأخيرة قد نصص على مشروعية استنجاد المعيار بالمقصد وذلك لتتمكن الحكمة العملية من الانتباه إلى خصوصية الوضعيات وتقدر على فض النزاعات التي خلفها الوضع التراجيدي للفعل البشري. وإذا كانت الأخلاق هي الحد المرجعي القار الذي يعين حقل المعايير ويفرق بين المسموح به والمحظور ويدفع إلى الشعور بالواجب عند الفعل فإن الايتيقا هي الميتا-أخلاق التي توجد في موقع متعال أو الوجه المتقدم والمتأخر من المعايير وبالتالي توجد في الخلف وفي الأمام وتتوجه نحو التأصيل في الحياة والرغبة ونحو الإدراج ضمن الوضعيات الخاصة والسياقات الاجتماعية المختلفة.

لقد تحدث ريكور عن الإيتيقا الصغرى في كتابه عين الذات غيرا وعن الإيتيقا الأساسية بوصفها الإيتيقا الأمامية المتقدمة على المعايير ولكنه وضع الإيتيقا في صيغة المتعدد والكثرة وأشار إلى الإيتيقات الخلفية باعتبارها حقول ومجالات لإدراج المعايير والفضائل ضمن الحكمة العملية وعلى صعيد البراكسيس ونعتها أيضا باسم الإيتيقات الجهوية والخاصة وتحدث عن الإيتيقات الطبية والحقوقية والمهنية والخدمات والبيئة واستند في ذلك إلى أطروحة جورج مور التي ترى باستحالة رد ما ينبغي أن يكون إلى ماهو كائن. ما يلفت الانتباه هو وضع ريكورمملكة المعايير كوسيط بين الايتيقا الأمامية والايتيقات الخلفية واحداثه تقاطع بين المقاربة الغائية والمقاربة الأمرية ونيته الخروج عن هذين السياقين ضمن موقف متيميز هو تدبير الحكمة العملية بالاعتماد على مفاهيم العزو والعزوية والمقدرية والتفضيل المترو والعناية بالغير. فإذا كانت المقدرية capabilité تسمح بالحديث على فنومينولوجيا الانسان القادر على الفعل والكلام والسرد والتذكر والنسيان وتمكنه من الانتصار على الانسان المذنبcoupable والخطاء faillible فإن العزويةascription بالأنغليزية أو imputabilité وimputation بالفرنسية هي الإضافة التي يقدمها ريكور في المجال الأخلاقي بالمقارنة مع أرسطو وكانط وسبينوزا لكي يدرج مفاهيم التقدير والاحترام والمسؤولية والعناية ضمن نسق المعايير وإدراجها بصورة مرنة في إطار شجاعة الوجود والحياة الجيدة. ” إن العزوية هي القدرة لدى كل شخص على الوعي بذاته من حيث هو الفاعل الحقيقي للأفعال المنسوبة إليه”22[22] لكن إذا كان مشكل الشر الجذري لا يطرح ضمن تصور الخطيئة الأصلية بل ضمن مشكل العجز عن الفعل الحسن فكيف تساعد العزوية الإنسان على التعرف على القاعدة الصحيحة في الحالات الصعبة؟

الإحالات والهوامش

[1] ريكور (بول)، العادل، الجزء الأول، تعريب مجموعة من الأكاديميين، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، قرطاج، طبعة أولى، 2003 ، ص.20.

[2] Nabert Jean, l’expérience intérieure de liberté et autres essais de philosophie morale, préfacier par Paul Ricœur, édité par PUF, Paris, 1994.

[3] Voir Nabert Jean, éléments pour une éthique, 1962, préfacier par Paul Ricœur, édité par Aubier, Paris, 1992.

[4] Voir Theodore Adorno, Minima Moralia, Réflexions à partir de la vie mutilée, éditeur : Payot et Rivages, 2003.

[5] لقد اعتبر هابرماس كتاب أدرنو عن الأخلاق الصغيرة تحفة فنية تجمع بين الأخلاقيين الفرنسيين والرومنطقيين الألمان وبلور فيه فيه نقدا جذريا للمجتمع المعاصر حيث عملت القوى الموضوعية على اضطهاد الكائن البشري في معظم وجوده الفردي ودعا فيه إلى الانعتاق من الاضطهاد وحول فيه فن الكتابة إلى فن للمقاومة وجعل من التأمل من حيث هو فن في التفكير وسيلة لممارسة الحياة.

[6] Grondin Jean, l’horizon herméneutique de la pensée contemporaine, édition Vrin, Paris, 1993,p142.

[7] Voir Ricœur (Paul), Préface au Code de déontologie médicale, introduit et commenté par louis René, édition du seuil, Paris, coll. Points Essais, 1996.

[8] فوكو ( ميشيل)، تاريخ الجنسانية ،1 إرادة العرفان، 2 استعمال المتع، الانشغال بالذات، ترجمة محمد هاشم، إفريقيا الشرق، المغرب، 2004،

[9] Ricœur (Paul), éthique et morale (1990). In Lectures 1, Autour du politique, édition du Seuil.1991,

[10] ريكور (بول)، العادل، الجزء الثاني، مصدر مذكور، ص.360.

<span dir=”LTR” style=”font-size:14pt;line-height:150%;font-family:”Times New Rom

أحدث المقالات