2 نوفمبر، 2024 6:28 م
Search
Close this search box.

شاعرٌ شهيدٌ قبل أن ينالَ الشهادة!

شاعرٌ شهيدٌ قبل أن ينالَ الشهادة!

لم أبلغ الحلم بعد حين وجدتني أقرأ وأتملى البيت أو البيتين من الشعر اينما وجدته، مبتعداً عن القصائد الطويلة، وهكذا اختزنت الذاكرة الغضة الصغيرة فَرطاً من أشعار متنوعة.. والغريب أن كثيراً منها يأتيني ويطنّ في أذني ثم يتلاشى تماما كتلك المعروفة في علم النفس بالأفكار القهرية!..نعم كنت غض الإهاب أقرأ ما يطيب لي من صحف في أواخر الخمسينات، وكان لثورة تموز من عام 58 حضورها المبهج على وجوه الناس، وكانت المهرجانات والاحتفالات السياسية كثيرة للشبيبة وللطلبة وللمرأة..فيها خطب وأشعار وغناء .. وحديثهم لا ينقطع عنها فقائدها ابن مدينتهم..ووجدت أن في المدينة شعراء وحتى شواعر يشار اليهم بالبنان في مدينتنا الصغيرة الحالمة على نهر دجلة الخالد حيث البساتين وشواطيء خصبة يخلفها النهر الثائر فتجود بخيار نبع وباذنجان عبق ولوبياء ناعمة غضّة..
في تلك الأيام حيث تدخل الصحف اليومية البيت، إتحاد الشعب (لابد منها) تصحبها صوت الأحرار أو البلاد، ومجلة “لمعلم الجديد” الثرّة التي تأتينا كل شهر اعتباراً من عام 1939!!
في هذه المجلة التي يحررها أساتذة وكتاب مرموقون قرأت بيتي شعر وقعا في خطري ونُقشا في الذاكرة نقشاً، قادني البيتان لأقرأ موضوعاً مؤثراً عن شاعر فلسطيني زاول التعليم في العراق وفي مدينة البصرة تحديدأً، وكان شعلة ثورية متوهجة من الحماس ودماثة الخلق والتفاني عكسها في شعره، يتشوق للذهاب الى فلسطين ليحارب المحتلين والعصابات اليهودية العنصرية وينتصر لشعبه، هكذا وصفه زميله المعلم العراقي الذي كتب عنه في مجلة “المعلم الجديد”، والبيتان هما:
سأحمِلُ روحي على راحتي – وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإما حياةٌ تسرُّ الصديق – وإما مماتٌ يُغيظُ العِدا
***
يوم أمس زرت موقع أحد الأصدقاء فوجدت البيتين ولم يذكر اسم شاعرهما، فقوَّمت البيتين من هنّات لحقتهما وذكرت اسم الشاعر، وربما كان هذا هو الدافع لأكتب هذه الفرزة التي كنت أترقب مناسبة للكتابة عن الشاعر!
ولد الشاعر عبد الرحيم محمود في عام 1913 في إحدى قرى طولكرم ابناً للشيخ الشاعر الظريف محمود العنبتاوي، أكمل الابتدائية في قريته لينتقل الى طولكرم ويكمل الثانوية في مدرسة النجاح نواة جامعة النجاح الشهيرة الحالية.. وتأثر بالشاعر إبراهيم طوقان الذي كان مدرسّه للعربية ومشجعه على الشعر وزامله بالمدرسة ذاته حين أصبح مدرساً للأدب العربي، ترك الوظيفة وانضم الى الثوار عام 1936 وحمل السلاح في جبل النار، وبعد انتهاء الثورة غادر الى العراق. ودخل الكلية العسكرية و تخرج ضابطاً أيام الملك غازي، ثم درّس في بغداد وعُيّن ديراً لمدرسة ابتدائية في البصرة.. شارك في حركة رشيد عالي الكيلاني، وعلى إثر فشلها عاد الى فلسطين عام 47 مدرساً في ثانوية النجاح ثم ترك الوظيفة ليتفرغ لمقاومة قوّات الاحتلال وخرّ شهيدا في أحدى معاركه إثر قذيفة من العدو في 13/7/1948 عن عمر يناهز 35عاماً..
لأجل البيتين اعلاه اللذين تنبأ في استشهاده ووصفه الدقيق للشهادة ضمن قصيدته “الشهيد” لُقّب بالشهيد، والقصيدة كتبها وهو ابن أربع وعشرين سنه والتي فاقت شهرتها بقية قصائده.
تتسم قصائده بالجزالة اللفظية والرشاقة وحسن السبك وجمال الانسياب ووضوح الفكرة، والمقابلة البلاغية بين حياة ذل لا تسر تفضلها الشهادة التي تسر الشهيد وأصدقاءه، وتتسم بموسيقى من حزن وحماسة على بحر المتقارب وهو البحر الذي كتب فيه الجواهري رائعته في وثبة كانون عام 48:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ – بأن جراح الضحايا فمُ
وقصيدة الشاعر عبد الرحيم محمود في مستهلها ( البيتين) بقافية الدال الممدودة، ثم تتحول الى مقصورة دون أن تلتزم روي الدال، دونكم القصيدة كاملة:
سأحمل روحي على راحتي – وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق – وإما ممات يُغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان – ورودُ المنايا ونيل المنى
لعمرُك إنّي ارى مصرعي – ولكن أغذُُّ إليه الخُطى
أرى مقلتي دون حقّي السليب – ودون بلادي هو المبتغى
يلَذُّ لأذني سماع الصليل – يُهيّجُ نفسي مَسيلُ الدما
وجسمٌ تجدل في الصحصحان – تناوشه جارحات الفلا
فمنه نصيب لأسدِ السَّما – ومنه نصيب لأسد الشرى
كسا دمُه الأرضَ بالأُرجُوان – وأثقل بالعطر ريحَ الصبا
وعفّر منه بهيَّ الجبين – ولكن عُفارا يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسام – معانيه هزءٌ بهذي الدُّنا
ونام ليحلَمَ حُلمَ الخلود – ويهنأُ فيه بأحلى الرُّوءى
لَعمْرُك هذا مماتُ الرِّجال – ومَن رامَ موتاً شريفاً فذا

الوصف يتسم بالحرارة والدقة والتحليل والتحريض وقناعة بأن الشهاده والمقاومة هي طريق النضال، وفي الحقيقة أن الشاعر عبد الرحيم محمود ليس هو الشاعر الشهيد الأول وحسب بل هو شاعر المقاومة المؤسس لشعر المقاومة وشاعل جذوتها الأولى بامتياز…
ملاحظة: اعتمد الشبكة مصدراً للوصول الى قصيدة الشهيد وتغطية بعض جوانب حياة الشاعر الشهيد..

أحدث المقالات

أحدث المقالات