5 نوفمبر، 2024 3:31 م
Search
Close this search box.

من أجل تعلمية فلسفية تُعلمن الديني وتُجذّر التواصل

من أجل تعلمية فلسفية تُعلمن الديني وتُجذّر التواصل

استهلال:
” كل فلسفة جديدة تبني ذاتها على أنقاض ما كانت قد رفضته من الفلسفات السابقة لها”1[1]

يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى التعليم بصفة عامة وتعليم الفلسفة بشكل مخصوص إلى الشروع في عملية تغييرية جذرية في المشهد التربوي وذلك بعد التراجع الملحوظ في المستوى والفشل في التكوين والاكتفاء بالبرمجة الآلية للعقول وإعادة إنتاج الأنظمة المعرفية والمراتب الاجتماعية القائمة والتغاضي عن الابتكار واتساع الفجوة الرقمية الفاصلة عن الدول التي حققت أرقاما وبلغت مستوى عالي في الجودة.

أن ننشغل مع الناس بالفلسفة هو أن نجعلهم يتعلمون التفكير في حياتهم ويعيشون تفكيرهم وأن نستثمر كل التجارب التي يعيشونها في وجودهم اليومي من أجل الظفر بالمعنى واستخلاص العبر والفوز بالدروس وأن نفكر بطريقة مغايرة للسائد ونتفلسف على نحو مختلف من الأطر المرجعية للتفكير والنماذج المقولبة.

يقوم التعليم بمهام حيوية متنوعة تتجاوز جدران المؤسسات التي يتم فيها وتؤدي الفلسفة وظائف نوعية في تغيير الذهنيات وتهذيب الأنفس وتدريب الأجساد على الاعتدال وتثوير الأنظمة وتطوير المكاسب المدنية ويحتاج تعليم الفلسفة بين الفينة والأخرى التفاتة حقيقية من أجل تشريح السائد وضخ دماء منهجية جديدة.

يتعلق الأمر هاهنا بالتعلمية الفلسفية وليس ببيداغوجيا الدرس الفلسفي فقط ولا بمجرد إتباع منهجية للمقالة الفلسفية ولا بتحليل النصوص الفلسفية فحسب ويدور في فلك العلاقة القائمة والممكنة بين الفلسفة والتربية وفي محيط البرامج والمخططات والأفعال والأدوات وحول ميدان التطبيق والتجارب والغايات والأهداف.

تراهن التعلمية الفلسفية من وجهة نظر معاصرة على عملية شحذ التفكير الفلسفي من حيث هي موجهة نحو تنمية المهارة الأصلية لدى محبي الحكمة وتربطها بفهم دلالات الأحداث وتسويغ مختلف المواقف وتشتغل على جعل المربي متفلسفا من جهة الذكاء والإبداع والالتزام وتضمين الموقف البيداغوجي رؤية فلسفية واضحة المعالم ومفتوحة على الابتكار والإضافة تستوعب المتغيرات المعرفية والعناصر المتعددة.

المطلب الحقيقي الذي تتوجه به التربية إلى الفلسفة من خلال إيجاد رواق يتحمل أعباء معالجة مشاكلها والتغلب على مزالقها ومساعدتها على إخراجها من أزمتها يكاد يوازي المطلب الفعلي الذي تتوجه به الفلسفة نحو التربية من خلال بناء تعلمية ضمن رؤية معاصرة توقف حالة الفرار من صرامتها وجديتها وتضع حدا لمشاعر النفور من دروسها والعزوف عن كتبها والهروب من مفاهيمها وشخصياتها العجيبة.

لقد حدث تحول كبير في الفلسفة بسبب التغيرات التي وقعت على صعيد العلوم والمعرفة والثقافة وتبعه نفس الشيء على المستوى التربوي ويترتب عن ذلك القيام بتثوير طرائق تعليم الفلسفة والتربية عليها.

فكيف تعمل الفلسفة على تربية الإنسان على التمسك بالمبدأ والالتزام بالقيم والمثابرة على المنهج القويم؟ وماذا تضيف التربية إلى الفلسفة على مستوى النظر العقلي في العالم والتطبيق الميداني للقيم في المجتمع؟ وما المقصود بتعلمية فلسفية معاصرة؟ هل هي فلسفة معاصرة في التربية أم تربية معاصرة على الفلسفة؟ وأين يكمن التجديد على وجه التحديد؟ هل هو في المناهج المتبعة أو في إعادة تحيين المضامين والأسس؟ ومتى يحدث الإقلاع الفلسفي بالمشهد التربوي ومن ناحية مقابلة يتبلور التثوير التربوي للحقل الفلسفي؟ وكيف تمثل العلمانية شرط إمكان قيام تعلمية فلسفية للديني متلائمة مع التغيرات المجتمعية؟ وماهو الدور التربوي للفلسفة والدور الفلسفي للتربية في التوقي من التطرف العنيف والابتعاد عن الحلول القصووية؟ وعن أي تعلمية فلسفية تبحث التربية المعاصرة؟ وإلى أي مدى يمكن تصور وجود تربية دون فلسفة وكذلك فلسفة دون تعلمية وأيضا تعلمية دون معاصرة؟ هل يكتفي المربي بتدريس ما يعرفه عن الفلسفة أم يبحث من خلال الدرس وبمعية محبي الحكمة في ما لا يعرفه؟ وكيف يتفلسف كل مربي على طريقته ووفق أسلوبه؟ أليس تربية الإنسان بطريقة علمانية حوارية هو الغرض من الفلسفة النقدية التواصلية؟

يتبع التفكير الفلسفي في هذه الإشكاليات باللحظات المنطقية التالية:

– حدوث تحول في الفلسفة

– أولوية علمنة الفضاء التربوي

– التربية على الروح الفلسفية

– المرونة عند التغيير التاريخي

– المصداقية عند الاختبار العملي

ماهو مطلوب على محك النظر العقلي وفي الميزان المستقيم للعمل يكمن في تفادي المعارف الثابتة في مجالي التربية والفلسفة والنشاطوية العقيمة من طرف أشباه المربيين والسفسطائيين الجدد الذي يتاجرون بالمهنة والحرص على كسب المعارف النافعة للحاضر وإعداد الخبرات التي تتناسب مع تحديات المستقبل وجعل ممارسة التفلسف محور العملية التربوية واستثمار الإنتاج الأكاديمي في اتجاه الفضاء العمومي.

إذا كانت العلوم والتقنيات والفنون تتطور سريعا زمن العولمة فماذا عن التحولات التي تخضع لها الفلسفة؟

1-حدوث تحول في الفلسفة:

“الفلسفة هي في الواقع هذا السباق من المتغيرات التي تولي اهتماما لمرورهh إلى الحد الأقصى “2[2]

لقد شهدت الفلسفة خلال تاريخها الطويل حدوث العديد من التحولات والانزياح ، فلقد انتقلت من الاهتمام بالطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان، ومن اللف والدوران حول الكائن البشري إلى الاهتمام بالعلاقات التي يقيمها في محيطه سواء مع العالم أو مع غيره ، ولقد تبدلت أيضا في مستوى الموضوع فهي لم تعد فلسفة ماهية وجوهر ومفهوم بل صارت فلسفة وجود وواقعة وتجربة ولم تعد فلسفة ذات تفتش عن سبل تحصيل الوعي المطلق وبلوغ شمولية الفكرة الكلية بل صارت فلسفة لغة تصف أفعال الخطاب وتدبر معنى الحياة.

التحول في الفلسفة المعاصرة لم يحدث في مستوى الباراديغمات على رأي بعض المؤرخين: باراديغم الوجود ثم بارديغم الذات ثم باراديغم اللغة3[3]، وإنما أيضا في مستوى العبارة الفلسفية المستعملة نفسها فهي لم تعد اللغة المتداولة في الحياة اليومية ولا اللغة المستقرة في المجال الديني ولا اللغة المستعملة في العلم وإنما اللغة الرقمية التي يتم ضخها في شكل صور ورموز وأرقام ورسوم بيانية في العالم الافتراضي4[4].

لقد عبر كارل أتو أبل عن هذا الانزياح الهائل بربط الفلسفة المتعالية الكانطية بلغة الاتصالات الحديثة واعتبر الكلام الشرط القبلي لكل فهم سديد والكلية المتعالية الأولى التي تسمح بالبناء المنطقي للمعرفة5[5].

إذا كانت الفلسفة قد تعودت على التأسيس بالمعنى النقدي من خلال تجريد النظريات والمعارف التي تنتمي إلى العلوم الدقيقة واستخلاص ما يتناسب مع المصالح التي تتعلق بالمعرفة الإنسانية فإن المطلوب هو وضع برنامج للمعرفة العلمية ينجز وساطة بين النظرية والتطبيق عبر الأنثربولوجيا الفلسفة الاجتماعية.

لقد تمحور اهتمام الفلسفة المعاصرة حول التفكير في الآفاق الممكنة للتوسط بين النظرية والممارسة من خلال إعداد المبادئ التوجيهية للإنسان في العالم بغية استخدام التقدم المنهجي في إعادة البناء التاريخي.

بهذا المعنى يكمن التحول في الفلسفة المعاصرة في الانتقال من فلسفة متعالية للذات الخاصة إلى فلسفة تهتم بالبيذاتية والكليات التداولية وتسمح بالتواصل وتسهم في قيام إيتيقا النقاش وفق رؤية براغماتية عامة. على هذا الأساس سمح الاهتمام باللغة للفلسفة من الانفتاح على العالم والتفكير في الغيرية والتعددية الثقافية والنسبية المعرفية واستثمار الفهم القبلي الذي يتضمنه الشعر والأدب والكلام اليومي في مواجهة الراهن.

لقد تبدل الوضع الحالي للفلسفة بحيث صارت تهتم بدلالة اللغة وتصف عالم الحياة وتتدبر الذات عبر وساطة الرموز والنصوص وتتخلي عن المفهوم الفلسفي للحقيقة كشرط لأي علم وتحرص على التقاط المعنى ضمن التجارب التي يجريها الإنسان في وضعها التاريخي وتقوم بتأويل الوجود الاجتماعي وتجعل من النظرية النقدية للعلوم استراتيجية للتحرر الاجتماعي من الاغتراب وتسعى الى الاعتراف المتبادل.

هكذا ترتبط أنثربولوجيا المعرفة بالفلسفة التحليلية وتستخدم علوم الذهن من أجل تطوير نظرية في المعرفة تنقد الإيديولوجيا وتبحث في التطبيق المادي للمبادئ والقواعد التي تخص السلوك البشري وتفكر في تطور الذكاء الاصطناعي والبرمجيات الرقمية دون الوقوع في الاختزال والتبسيط والآلية الفجة.

يظهر البعد المزدوج للتحول الذي طرأ على الفلسفة المعاصرة حسب كارل أوتو آبل6[6] في المكانة الأولية التي تم منحها للغة من بين المفاهيم الأخرى من ناحية وفي الانتقال من الاهتمام بالذات العارفة من وجهة نظر الفلسفة المتعالية إلى البحث في الاجتماع البشري من زاوية التواصل وفق محاجة براغماتية واقعية وفي اتجاه رؤية ديمقراطية مشبعة بالنقاش العمومي وتحمل مسؤولية التبعات عند القيام الأفعال والوعود.

جملة القول أن عاجلية الفلسفة في الوقت الراهن تكمن في تعبيرها عن مشاكل الناس ونقد الحالة الحاضرة وبناء الشروط المواتية للخروج من التوتر بين الراهن والممكن وقول الحقيقة بصراحة ودون مواربة والنظر في المستقبل بحسب ما تقتضيه حجم الموارد الحيوية والاستراتيجيات المادية التي تضمن البقاء.

علاوة على ذلك تطرح الفلسفة جانبا كل الأوهام التقنية المعاصرة وتحدث ممرا في النسيج التاريخ للسلطة يسمح للحرية بالنمو والتبلور على الصعيد الاجتماعي والسياسي وتجدد رؤية البشر للزمان والعالم المحيط بهم وتتخلى عن اللغة الميتافيزيقية البالية وتتكلم بلهجة متداولة ولسان مبين وتشجع على الخلق والابداع.

كما تقاوم الفلسفة المعاصرة الغباء المبرمج والجهل المركب والحمق الموروث والبلاهة العلمية والوعي الزائف والمعرفة العمياء وتدافع عن المدينة ضد الهمجية التي تحاصرها وعن الحياة ضد العدمية التي تهددها وتركب المخاطر بغية التوقي من الحروب المدمرة والكوارث المهلكة وتتشبث بالحياة والأمل.

بطبيعة الحال تظل الفلسفة المعاصرة على استعداد تام للتفاعل مع الطارئ والمداهم والآتي والعرضي وفي أهبة لكي ما ليس موجودا بعد وكل ما سيحمله المستقبل للعالم من تغيرات وتحولات وغرائب وتعد نفسها لكي تواكب هذه الطوارئ وتنتقل من لحظة الوقاية إلى لحظة العلاج ومن رد الفعل إلى المبادرة.

غني عن البيان أن التعلمية الجديدة هي الأداة البيداغوجية الممكنة التي تستخدمها الفلسفة لكي تحارب في كل اتجاه وتشغل العقل في جميع الجبهات وتخوض التجارب في حقول متنوعة قصد المناورة والتكتيك والإقبال والإدبار وبغية ممارسة الترحال والسفر والهجرة والتسآل والبحث عن البدائل وإيجاد الحلول.

بهذا المعنى يترتب عن التحول الذي حدث للفلسفة في الحقبة المعاصرة معانقة الثورة والتغيير الجذري والمراجعة الهيكلية والتثوير الشامل للأبنية والمقولات والآليات والإبحار إلى الأعماق وتسلق الأعالي.

لكن ماذا لو كان من الحكمة اعتبار الواقع الافتراضي هو واقعنا الجديد؟ وهل من الممكن إعادة تأهيل الحكمة، بالمعنى الفلسفي للمصطلح، في عالم رقمي أصبح واقعنا الجديد بدل هذا العالم القديم التقليدي؟ وكيف يتم الاستفادة من هذه الثورة الرقمية الراهنة والتحول نحو التداولية في بناء تعلمية فلسفية مختلفة؟ أليس من المفروض تجذير العلمنة في التربية بغية تخليصها من كل الموانع اللاهوتية التي تشل الإبداع؟

2- أولوية علمنة الفضاء التربوي:

” لا تعني العلمنة فقط فقدان أو سقوط من الفضاء المقدس إلى الفضاء العادي، من الجماعة العضوية إلى الاجتماع بروابط الاتفاق، أو أيضا، من حضور الوجود إلى نسيانه، إنها تشير أيضا إلى حركة انعتاق”7[7]

إذا كانت أصول مفهوم العلمنة ضاربة في القدم وتعود إلى الفترة التي انتقل فيها الناس من الوحدة السحرية المقدسة للمجتمع العتيق إلى الأشكال الأولى من المجتمع المتحضر فإن مسار العلمنة لم يجد تطوره العميق إلا في القرن الأخير من التاريخ العالمي وفق المنظور الغربي حينما ظهر المجال الخاص وأتم انفصاله عن المجال العام وبدأ الجسم السياسي يتشكل خارج علاقات القرابة ووفق مبدأ المواطنة.

لقد عرف مصطلح العلمنة تاريخا متحركا ،وبدرجة أكثر دقة، مضطربا ولقد استعمل في سياق الحروب الدينية بين المذاهب بغية تشييد أرضية صلبة تقف عليها جميع الطوائف من أجل التفاوض والتفاهم وقصد الاتفاق على تحرير الشأن الديني من مراقبة السلطة ومساعدة رجال الدين على العودة إلى العالم الدنيوي.

والحق أن هذا المصطلح يستعمل بكيفية وصفية دون أن يتضمن أي حكم معياري مع تزايد الصراع حوله، بينما لفظ العلمانية sécularisme وظف في أغراض إيديولوجية مع شحنه بأحكام قيمة سلبية أو ايجابية.

أما من الناحية الايتيمولوجية فإن العلمنة تعني عرض الخيرات الدنيوية التي تمتلكها المؤسسة الدينية على النقاش العام والتقليص من النفوذ الذي تتمتع به المنظومة الدينية على الناس من جهة الوظائف أو الفوائد.

من الناحية الاصطلاحية يمكن استخراج مجموعة من التعريفات الآتية:

– العلمنة هي الفعل الذي يتم به التعامل مع رجال الدين أو المؤسسات الدينية على أنها ظواهر دنيوية تخضع للنسبية والتغير وتتعرض للتطور وبالتالي تمثل حركة قانونية تمر بمقتضاها من الوضع النظامي إلى الوضع الدنيوي.

– العلمنة هي العملية التي يتم بمقتضاها تحويل فائدة خاصة على ذمة السلطة الدينية إلى فائدة عامة على ذمة السلطة السياسية.

– العلمنة هي النشاط الذي يؤدي إلى إلغاء وظيفة الهيمنة التي تتمتع بها مؤسسة دينية ووضعها على ذمة الهيئات الدستورية والمؤسسات السياسية.

– العلمنة هي الحركة التي بمقتضاها يتم منح خاصية دنيوية غير دينية وغير مقدسة إلى أشخاص أو مؤسسات وهيئات مدنية.

– العلمنة هي مسار من الاستبعاد التطوري لكل عنصر ديني يمارس تأثيرا في الحياة الإنسانية.

تفيد العلمنة في معان فلسفية اللفظ الفرنسي Laïcisation والذي يدل على مسار تفقد عبره أشكال الحياة الاجتماعية وأنظمة المعرفة منزلتها الدينية سواء لما يتم تعويض المتدينين بمواطنين مدنيين أو لما تُحذف الاعتبارات الدينية من المعايير التقييمية للاختيارات الإدارية والأنساق التوجيهية للأفعال البشرية8[8].

لقد قدمت الدراسات العلمية للظواهر الاعتقادية خدمة كبيرة في اتجاه علمنة الحياة الدينية حينما قامت بتحليل هذه الظواهر بالانطلاق من كونها معطيات تجريبية ودون إصدار أحكام معيارية حول قيمتها.

من هذا المنطلق تفيد العلمنة في الأوساط التقدمية المناهضة للسلطات الدينية انعتاق الإنسان الحديث من هيمنة الدين، بينما تدل في الفضاءات المتعلقة بشدة بالتقاليد الدينية الانحراف عن الصراط المستقيم9[9].

بعد ذلك امتدت العلمنة إلى حقول شاسعة وصعدت من الدين والمجتمع والثقافة إلى الوعي والذوق والفرد وتحولت إلى ظاهرة كونية بالنسبة إلى المجتمعات الحديثة وانتشرت بطريقة مذهلة في مستويات الحياة.

بيد أن المجتمع الصناعي هو القوة المحركة لعملية العلمنة ضمن النشاط الاقتصادي وما ترب عنها من تغيير للمنظومة التشريعية في الميدان السياسي والإبقاء على الدين ضمن الحقل العائلي الخاص بالأفراد.

لقد ساهمت حركة العلمنة التي خضع لها المجال الديني في الخروج من فضاء قروسطي عتيق إلى السير العقلي في حقول تجريبية غير معهودة والتكلم مع الطبيعة والتواصل بين الذوات عن طريق لغة رياضية.

بيد أن خضوع الثقافة الدينية إلى العلمنةsécularisation لم يكن ثمرة الصدفة أو استجابة إلى توجهات فردية ومصالح ضيقة وإنما جسد تشكل وجهة نظر فلسفية وانبثق عن شغل فكري جماعي استمر لقرون.

بهذا المعنى يستمد اختيار موضوع العلمنة من أجل تحليل أزمة الحياة المعاصرة من كونها أثارت الانتباه إلى عملية نوعية عبرت مختلف مجالات الواقع الإنساني وميزت الفكر الفلسفي المعاصر من كل أبعاده.

كما تتراوح العلمنة بين معنى عام يرتكز على اختيار نظري وقضية تأويلية للحالة الواقعية للفلسفة ومعنى خاص يتعلق بالممارسة الاجتماعية من جهة البحث العمومي والعناية بالمجال الخاص من طرف الفلسفة. بيد أن المقصود من العلمنة الفلسفية هو مواجهة ضرورة إعادة تعريف منزلة الفلسفة بين الاختصاصات الأخرى وإمكانية استبدال الحاجة للتنظير باستعجال تدبير الكون والسكن في العالم وأنسنة العمل المضني.

بطبيعة الحال أضحت المسألة الأساسية في العلمنة الفلسفية هو إعادة وضع الفلسفة في معظم أروقة الثقافة الإنسانية والسعي إلى فتح أشرعتها على مختلف القطاعات المعرفية والرمزية من أجل إيجاد حل للأزمة.

والحق أن مسألة العلمنة قد اجتازت في الآن نفسه حقل الفلسفة وحقل الثقافة وتسببت في أفول المتعالي واندلاع أزمة إيديولوجيات وانحلال ميتافيزيقا العلم وانحسار النزعة التاريخية وخسوف أسطورة التقدم ومراجعة فكرة التاريخ من حيث هي تتابع مجموعة من الأحداث وفق خط مستقيم وبشكل عقلاني منظم.

علاوة على ذلك تشير حركة العلمنة إلى نهاية الفلسفة واقتصارها على مجموعة من التطبيقات العملية خاصة في المجال التواصلي عند هابرماس وفي عدد من التكنولوجيات التي أخضعت لها علوم الطبيعة وتطرح أيضا مسائل أزمة العقل والتفكير السالب والفكر الضعيف وكل الأشكال الناقدة للتقليد الميتافيزيقي.

يمكن كذلك الخروج من الفلسفة التي تهتم بالمبدأ من وجهة نظر متعالية وتبحث عن منهج عقلي للوجود وتنغمس في تطهير الكلام ضمن تمشي تحليلي للغة وفق نموذج مستوحى من العلم وبخوذ عملية تفكيكية لكل الموروث العلمي بفلسفة مفتوحة على الغيرية وعلى الخارج قادرة على تثمين تعدد الرؤى عن العالم.

لم تعد الفلسفة تدور في فلك نظرية متسامحة للثقافة ولا يمكن اختزالها في تفكيك الموروث الماضي ولا يجوز حصرها في الانتباه بقطاع على حساب إهمال قطاع آخر ولا يمكن تغيير موضوعها من مجال إلى آخر وذلك بتقديم يد العون المنهجي لها وإسنادها بالحجج اللازمة وإنما صار لزاما عليها أن تخرج الكائن من المأزق الذي تردى فيه بإخراج نفسها ذاتها من المضيق والانخراط في تجربة مغايرة من التفلسف.

التطرق إلى العلمنة ضمن سياق الخوض في العلاقات الواقعية والممكنة بين الفلسفة والدين التي يجب أن تؤمنها فلسفة الدين وتسهر على تمتينها الفلسفة الدينية هو تناول صيرورة ومصير الفلسفة من أفق المقدس والكف عن البحث عن فلسفة معلمنة بالتمام في صورة معرفة مطلقة والإقرار بوجود قاع تيولوجي لكل فكر يظل في حاجة مستمرة إلى مسارات علمنة وأنسنة من استهلاك ماهو حرام وتحويله إلى أمر عادي.

لقد عرفت كل الأديان بصورة مختلفة ومتفاوتة تجربة العلمنة وتمثلت في محاولة الربط بين ثنائية المقدس والدنيوي وجعل المعتقد الديني يواكب العصر وتمكين المؤمن من تبرير ممارساته التعبدية بالعقل العلمي.

يحمل مصطلح العلمنة دلالة مزدوجة تجمع بين الاعتراضي والتحرري ولقد ظهرت في البداية من حيث هي لحظة داخلية وأساسية في الحقل الديني ولكنها ما لبثت أن انتشرت في معظم الثقافة وأصبحت تعد المصير الذي ينتظر الإنسانية في المستقبل إذا ما تواصل على نفس المنوال تحديث وعقلنة تجربة القداسة.

بهذا المعنى تأثر الفكر الغربي بالفكر الوضعي بحيث “انغرست العلمنة في ماهية الدين الغربي ذاته (اليهودية والمسيحية)، من حيث هي تموضع تقني علمي للعالم في التأمل الإغريقي الأكثر عراقة”10[10].

لقد ترتب عن ذلك انقطاع الممارسة التشريعية عن العودة إلى الأصول الدينية وتوجه الفلسفة نحو تحرير الكائن البشري من وصاية اللاهوت وسيطرة التفكير الماورائي وإحداث قطيعة بين بعد الحاضر والذاكرة. لم تعد مهمة فلسفة العلمنة تنحصر في جعل العالم المقدس عالما عاديا وتمثل الأبعاد الدنيوية من الحياة واستبعاد الافتراضات الأخروية وإنما تتمثل في استذكار معنى الوجود خارج إطار ميتافيزيقا الحضور. بهذا المعنى تتخطى العلمنة مستوى الموجودات وتبلغ منابت الشعور الديني وأصول التبعية لللاّنهائي والوعي بالحاجة إلى المطلق وتجتاز النظام التاريخي والثقافي وتلتقي بالنظام الأنطولوجي لمعنى الوجود.

مقتضى القول أن اقتحام الفكر لتجربة العلمنة لا يتوقف عند التخلص من الدوغما الاعتقاد والتقليد ولا ينحصر في عملية تطهير المقولات الفلسفية من الرواسب الميتافيزيقية بل يستوجب أيضا التسلح بقيم التقدم ضد الارتداد نحو الماضوية والتلقيح من الاغتراب ومنع الديمقراطية من التحول إلى آفة الشمولية.

إذا عدنا إلى الفلسفة النقدية من أجل مواجهة هذه الأزمة المستفحلة فإننا نصطدم بارتياب الفلاسفة وحيرتهم وعزوفهم عن التدخل بصورة فعلية وعجزهم عن التأثير في الواقع والاقتصار على أفعال التأويل والتعليق والمتابعة والتبرير والتجميل والمسايرة والتحليل والتشخيص والانشغال بالدقة المفهومية وتشييد الأنساق.

من جهة ثانية يتم الاستنجاد بالتقنيين الاقتصاديين ورجال السياسة والخبراء في القانون والبرمجيات من أجل تقديم أيادي العون وبلورة جداول إحصائية وصياغة مشروع تنموي بديل وتنزيل المعرفة الأكاديمية في ميادين الإنتاج وحقول العمل قصد رصد الأسباب وتشخيص الأمراض وتحديد الأولويات وضبط الخيارات وتطوير آليات التصنيع وترشيد مسالك التوزيع والاستهلاك والمحافظة على الموازنات المالية وإصلاح المنظومة الجبائية ومراجعة طرق تدخل الدول والرفع من مساهمة المجتمع المدني واستبدال خطة العقلنة من الفوق بخطة العقلنة من تحت واستكمال التحديث وتجذير العلمنة ومواصلة السير في اتجاه ثقافة الديمقراطية والرفع من مؤشرات التحضر والتمدين وتقوية منسوب الأنسنة في العلاقات بين الذوات وبين المجموعات والتعويل على الفاعلين في المراجعة والنقد والمحاسبة والضغط والتعديل. لكن لماذا أدى التخوف من الوقوع في الإيديولوجيا إلى التفكير في التخلي التام عن مصطلح العلمنة من حيث هو غامض ومليء بالمغالطات وكثيرا ما يوقع المشتغل عليه في الخلط بين المفاهيم والخلف المنطقي؟

ماهو مفترض أن مسار العلمنة مرتبط بجملة من الإجراءات الفكرية والحركات المجتمعية التي يمكن أن تقع بصورة متعاقبة ومتزامنة وتتمثل في الانخراط في عملية عقلنة للتحديث ضمن حوكمة للديمقراطية.

إن القوى الرئيسية التي توجد بشكل فعلي وراء انطلاق تجارب العلمنة وانتشارها في عدد من المجالات تكمن في تعبيد مسارات العقلنة التي تم تحريرها بواسطة التحديث أي بواسطة تشييد نظام رأسمالي أولا ثم نظام اجتماعي اقتصادي صناعي في المجتمع بصفة عامة وفي المؤسسات السياسية بشكل خاص11[11].

لقد عبرت الأزمة الاجتماعية عن الوضعية التراجيدية التي يكون عليها الجسم السياسي ويمر بها النشاط الاقتصادي وعن صعوبة المواجهة مع الواقع المعقد والوضع النفسي المتشنج وعن ضعف الفكر العلمي والحاجة العاجلة إلى التدخل المباشر من أجل الإنقاذ وإيقاف الانهيار واستعادة الوعي بالتدارك السريع.

اللافت للنظر أن بعض النظريات السوسيولوجية التي أعقبت الدراسات الماركسية قد أفرغت العلمنة من شحنتها الإيديولوجية وتعاملت معها بوصفها تحقيق للمقاصد الكبرى وانجاز للمطالب الأساسية للدين ذاته.

“لا يستطيع الإنسان أن ينتمي في ذات الوقت إلى الله والى العالم ، وينبغي أن يختار إما الله أو العالم، إما الحياة أو الموت”12[12]. لكن ألا يوجود فرق بين العلمنة والعلوميةscientificité والعلمانية واللائكية؟

أما العلمانية فهي اللائكيةlaïcité وتفيد حياد المؤسسات العمومية عن الانتماءات الطائفية والولاءات العقدية ويساعد اعتماد مبدأ العلمانية على بلورة صلة بين حب النظام الجمهوري واحترام سيادة العقل.

بهذا المعنى تكون اللائكية مفهوما فلسفيا سياسيا يفترض أن يتم تنظيم المدينة دون الرجوع إلى الأساس الديني وبالاعتماد على الإحالات التي تضمن الحقوق التامة للمواطنين ووفق ما تشير إليه مبادئ العقل.

لا تتوجه النظرة العلمانية التي صوبها بايل وفولتير ودالمبار وكوندرسيه إلى الفصل الكامل بين السياسي والديني فحسب بل تقر بمحايثة الموضوع السياسي وارتباطه بالتدبير البشري من خلال مدراتهم وأفعالهم ومصالحهم ضمن النظام العام للدولة واندراج الشؤون الدينية للنظام الخاص للحياة الإنسانية بشكل دقيق.

فكيف تم علمنة المؤسسة الدينية؟ وهل تم القيام بعملية علمنة المعتقد البشري؟ وما طبيعة المقدس المعلمن؟

” ليست أزمة المقدس تغييب لله من العالم في ذاته، بل تظهر بالفعل نمطا آخر من الصلة بالإلهي”13[13]

من الجلي أن فعل العلمنة لا يشمل الحقول التي انغرست فيها الأديان التاريخية والاجتماعية الكبرى سواء كانت التوحيدية المنزلة أو الطبيعية والوضعية فقط بل يغطي أيضا المجالات التي تتعلق بالمعتقد وحرية الضمير. بالتالي لا يستطيع الكائن البشري أن يعتقد ويختار القناعات الدينية التي يراها تعبر عن تصوراته للعالم وتجسد غائية الحياة البشرية التي يحلم بها إلا إذا مارس التفكير وبرهن على ميزات العقل والفهم والاختيار التي تضعه في مرتبة أنطولوجية مرموقة بالمقارنة مع بقية الكائنات الفاقدة لهذه الخصال. كما يحتفظ مفهوم العلمنة بنجاعة كبيرة وطاقة دلالية هائلة تجعله قادرا على الرد على جل التحديات ومجابهة الظروف الصعبة والإجابة على النقائض والاحراجات التي يخلفها وتخطي كل أشكال المقاومة الدينية له.

مع ظهور العلمنة بشكل رسمي لم يعد الدين يمثل الشأن العام ولم يبقى النسق المرجعي الذي تصدر عنه الحقائق والقيم والموجودات بل صار من المتاح تنسيبه ونقده ومقاربته بصورة علمية وتغييبه وإخراجه. كما تعمل على انجاز عملية إعادة تـأويل للموروث الثقافي من خلال المسارات التي تراكمت على تخومها وترسبت فيها الأشكال الرمزية والتجارب السردية وشكلت شروط إمكان فهم تجربتنا المشتركة عن العالم.

لا تعني العلمنة القول بموت الله وإفراغ العالم من الأرواح والقوى الغيبية والإبقاء على العناصر المادية ونفي التدخل الإلهي في الأرض بل الإيمان بالحرية الإنسانية والفعل البشري وجعل الوحي مجال للتأويل والانطلاق من الكلام الإلهي من حيث مرجعية رمزية للكلام البشري تشحن التاريخ بالدلالات والمعاني.

فعل العلمنة يتصل بالخلق الجديد لتجربة الإيمان عبر إعادة تشكيل النص الديني من خلال ارتياب الاجتهاد والحركة التأويلية الجذرية التي تعيد تأصيل الأصول وتتظنن على الأحكام القطعية وتزرع الشك في اليقين وتكشف زيف الوعود التأسيسية وتستأنف رحلة البحث عن الأقنعة التي تختفي وراءها الأخطاء السياسية.

العالم المعلن ليس مجرد عالم إنساني خال من حضور الإلهي وإنما هو عالم بشري دون آلهة ويتحرك داخل نظام كوسمولوجي يتضمن بدوره الكون بأسره ويجعل أفراد المجتمع في نشاط ثقافي وفكري دائم.

لكن ما دلالة مسار العلمنة بالنسبة للمضامين الدينية في التقاليد والمؤسسات التي دأبت على تأطيرها؟

ما يلفت النظر في الراهن هو أزمة المصداقية التي تعاني منه الأديان وبؤس الوضع الميتافيزيقي للكائن وذلك بعد فقدان المشروعيات الدينية قدرتها على الإقناع والتواصل مع تنوع متطلبات الحياة المعاصرة.

لم تعد الأديان قادرة على تبرير العذاب الذي يعاني منه الإنسان ولا تخفيف الأوجاع بالوعود الوهمية وذلك لكثرة الاستغاثات وطلب النجدة من الآلهة من أجل الإنقاذ والتدخل قصد العناية والعدل الأرضي.

في ظل الحروب الدينية والنزاعات حول المقدس واختفاء الآلهة وعجز القوى الغيبية عن تقديم العون يشعر المؤمن بالسأم والغبن ويكتوي بنار الواقع المر في ظل الفقر المادي والعاطفي والتعاسة الروحية ولا من بديل غير العبث الوجودي والعدمية القيمية واللاأدرية المعرفية وينهال جلدا على ذاته المرهقة.

اللافت للنظر أن العلمنة ليست فقط مسارا سياسيا يختتم بتعليق الحكم في المجال الديني وعدم الاكتراث حيال صمت القانون أمام مسألة الدين الحق بل أيضا مسألة أخلاقية وتتبع مسارا إيتيقيا ينطلق من نظرية تحديد حقل تطبيق القانون في المدرسة الجمهورياتية وتعمل على تدبير التنوع وحلحلة الخلافات وفض النزاعات في المجال التشريعي والميدان المعياري وتنتهي عند وضع قواعد أخلاقية للاحترام والتقدير. لذا تراهن العلمنة على المؤسسة التعليمية من أجل تحييد القناعات الدينية في تنظيم العلاقات والمراهنة على التمرين الفلسفي للعقل من أجل تأسيس قيم ووضع قواعد تساعد معظم الناس في الحصول على حياة جيدة.

على هذا الأساس تجري العلمنة إصلاحات دينية وثورات سياسية والتزامات أخلاقية وتوجيهات تربوية وتغييرات اجتماعية وفعاليات اقتصادية وعقلنة إدارية وتحديث حقوقي وتطور ديمقراطي وأنسنة ثقافية. كما أن العلمنة ممارسة جذرية وصيرورة تاريخية ومسار تنويري وفلسفة نقدية وانقلاب وجودي وفيض معرفي وحقيقة ثورية وسلاح فتاك ضد التقهقر وعملية انعتاقية من الجهل وممارسة عضوية للملتزمين.

والحق أن وظيفة العلمنة هي الحيلولة دون إكمال الإيمان الديني للجماعة انخراطه في المراوحة العقيمة بين الأشكال المدنسة للايديولوجيا والانتظارات الخيالية لليوتوبيا وإخراج المقدس من الأزمة التي يعانيها.

لقد أنتبه الإنسان المعاصر إلى أنه يعيش في عالم معلمن يدفع التقنيات إلى وضع شروط محددة لوجوده ومانعة لكل إرادة بشرية تتوجه نحو فتح أفق من أجل صناعة المستقبل ويظل يتأرجح بين التكرار الأبدي للواحد وإمكانية تحطيم ذاتي للاعتقاد ويغلق الباب أمام إمكانية الذهاب إلى ماهو أبعد من الثنائيات الحدية.

زد على ذلك انتهى الإنسان في الأزمنة الحديثة إلى الإقرار بأن معرفة الطبيعة وإضفاء المشروعية على السلطة من جهة السياسة والحق يقتضي تأسيس القوانين بصورة مستقلة عن الدين وبالاعتماد على العقل.

من جهة أولى يتخذ مسار العلمنة بعدا ذاتيا وبالتحديد عندما تتركز الجهود نحو علمنة المجتمع والثقافة وكذلك تصل إلى الوعي وتطرح مسألة تفكير الأفراد في وجودهم في العالم وتدبير حياتهم الخاصة14[14].

في هذا الإطار يتم إخراج مسائل الهوية والتربية والسلطة والثقافة والفنون من دائرة التأويلات الدينية ويقع التعامل معها من حيث هي رموز حضارية تتنزل ضمن المجال العادي وتتخذ جملة من الأحكام الدنيوية.

من جهة ثانية لا تنحصر العلمنة في المجهود الذي تبذله من أجل تمدين التراث الديني وعقلنة الوعي التاريخي بل تتسع من أجل إعطاء الكلمة إلى النظرية الاجتماعية من أجل إجراء حوارات عميقة مع الواقع والتدخل في قراءة المجتمع وحسم الصراع المجتمعي حول مضمون التحضر واتخاذ القرار حول المصير المحتوم الذي ينتظر الكوكب وبلورة مشروع انسي مركب يراعي التعددية ويتعقل الأحداث. لكن بأي معنى يوجد تناظر بين جهتي العلمنة ؟ وألا تحتاج العلمنة في مستوى الوعي الى العلمنة في المجتمع؟

لقد مست العلمنة جميع شرائح المجتمع وخاصة النساء والشباب في المدن والأرياف بالنسبة للشرائح الثرية والفئات المفقرة ولكن الطبقة الصناعية المنتجة من العمال قد مثلت بنيتها الاجتماعية الاقتصادية. بناء عن ذلك يجوز الحديث عن علمنة شاملة وعن عولمة العلمنة من خلال امتداد القوى الماسكة والفاعلة في مسار العلمنة لكي تغطي العالم بأسره وتصل للمجتمعات التقليدية والثقافات القومية المحافظة15[15].

لقد قامت القوى الميسرة لعملية العلمنة بإخراجها من مستوى الحضور الداخلي في الوعي المدني إلى السياق المؤسساتي لكي تظهر في السلوك اليومي وتقوم بتنظيم الإجراءات الترتيبية للإدارة وتهيكل الدولة.

بهذا المعنى ليست العلمنة هي محاكاة النموذج المتقدم وتحقيق المزيد من التبعية للمركز عبر الغربنة16[16] بل تعول الوسائل الديناميكية التي توفرها الرأسمالية الصناعية والانتاجات الفكرية والثقافية والفنية للطبقة البرجوازية التي تتمظهر في أساليب الوجود وأشكال الحياة من حيث هي تقليص كبير من نفوذ الإيمانيين.

فعل العلمنة الذي يمكن الانخراط فيه والقيام به بالنسبة إلى المجتمع المدني والدولة لا يجدر تسويغه بتوجه إيديولوجي ولا حالة سياسية تعيشها المؤسسات وإنما هو ظاهرة تاريخية تدفع إليها عدد كبير من العوامل.

لا يمثل المخزون المادي من التراث الديني البنية التحتية للعلمنة ولا تشير الينابيع الروحية والاعتبارات الغيبية إلى البنية الفوقية للتجربة وإنما القاعدة العملية للحياة الاجتماعية والوظيفة التربوية والإيديولوجية.

بهذا المعنى يحتل الجدل حول العلمنة مكانة رئيسية في الدراسات الدينية والعلوم الاجتماعية والثقافية والقانونية والتفكير الفلسفي وتتنزل ضمن النقاش حول مشروعية تصميم العالم الحديث على الانعتاق التام من الموازين الثقيلة التي يمثلها الإرث الديني والتعويل على المراجعة النقدية العلمية والنظرية السياسية والثقافة الأدبية والتعبيرات الفنية والتفكيك الفلسفي من أجل تخطي النزاع التاريخي بين القوى التحديثية والمؤسسات الكونية التي تهتم بصيانة الرسالات السماوية وتسهر على طرق تفسيرها وشرحها للمؤمنين.

لقد حازت العلمنة على دلالتين تعكس التحولات التي حدثت في المعرفة والمجتمع وتتمثل في الإشارة إلى رفض الامتثال لأي مقياس للتقييم سواء كان صادر عن سلطة ماورائية أو نابع من قرار السلطة الدنيوية، ثم الاحتكام إلى الطابع الموضوعي الذي تتميز به اللغة القانونية بحكم انبثاقها عن القدرة التشريعية للعقل.

من هذا المنطلق يشتق اللفظ في الأصل من لغة قانونية و” يعود مصطلح العلمنة إلى نزاع معلن أو خفي بين عالم روحي وعالم أرضي، وكذلك في مجالات الحياة المدنية وفي مجالات الحياة الفردية “19[17].

لقد ترتب عن تفعيل هذه عملية العلمنة تحويل الخيرات الدنيوية من وصاية المؤسسة الدينية إلى حماية المؤسسات الخاصة وحيازة الأفراد وملكية الأجهزة المدنية والإقرار بالأدوار الحقوقية للمعابد في ميدان الحماية الاجتماعية والتربية الدينية وحقوق اللاّمتدينين في تبديل قناعاتهم وتبني تصورات فكرية مختلفة.

فما المقصود بعلمنة الفلسفة ؟ وكيف يجب المضي نحو اتمام علمنة العلمية الفلسفية في الفترة المعاصرة؟

ما يميز المشهد التربوي الراهن هو اندراجه ضمن سياق اجتماعي متقلب يعرف هو بدوره حراك شبابي وصناعة ثقافية وطفرة فنية تركز على ثقافة الترفيه وتنمية القيم النسوية ونقد الموروث الذكوري والأبوي وتوجه رسالة تعليمية تتسم بالتقطع والعمومية والسطحية والاختزالية وتشجع على التسلية والاستمتاع واللعب والاختباء وتحاول إشباع الايروس اليومي ضمن الأروقة الاتصالية ووفق الأساليب الافتراضية.

التركيز على التصوير وعلى الصياغة الرقمية والتكميم والمقاربة التوجيهية كان نتيجة محاولة لمواكبة السمات الأساسية التي يتصف بها الواقع المعولم وبحثا عن اللحاق بالعالم المتطور والمشاركة في التحضر ولكن المحاكاة تظل منقوصة وفاقدة للروح الإبداعية التي تتضمنها وتحولت إلى استنساخ آلي وعدة مسوخ مشوهة للتجارب وتطبيق آلي للنماذج دون إحاطة بالعواقب ودون مراعاة الخصوصيات وبلا فرز علمي.

وا

أحدث المقالات

أحدث المقالات