المواجهة الإعلامية بين دول الخليج، وبين الدول العربية المصطفة في جبهات متقابلة ومتخاصمة، تشبه مواجهات الصبيان أثناء فورة غضبهم، لا يبقون ولا يذرون شيئا، حيث ينغمسون في الوصول إلى النصر وتحطيم الآخر. فضلا عن الصبيان الغاضبين، فإن الشعوب البدائية أيضا تشترك في هذه الخصلة. فربما كلمة واحدة تؤدي إلى حرب دموية يفنى فيها خلق عظيم. وقد يكون الشاعر الأموي نصر بن سيّار محقا في تصويره لهذه الحالة النفسية للعرب بقوله:
أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
في الواقع، فإن طبيعة العرب والشرقيين عموما، عادة ما تخضع لهذه الحالة النفسية التي لا تأبه بالكوارث العظيمة، من أجل تحقيق التشفي من العدو، خصوصا إذا كان العدو من بني الجلدة، إذْ يكون الخصام جورا والخوض فجورا. ومن هنا فإن كلمة واحدة قد تتسبب في كارثة كبيرة، وقد تذكي النيران أو تخلق حرباً شعواءا. والأمثلة في الواقع العربي كثيرة. مثلا، ردُّ خميني، مرشد الثورة الإيرانية في عام 1979، على رسالة تهنئة من العراق، بأسلوب فظ وغليظ، وما ذكره الرئيس العراقي السابق صدام حسين حول تصريح منسوب إلى الكويتيين بحق نساء العراق، والشريط الصوتي من قبل حاكم خليجي وصل إلى يد صدام حسين، والكلام في الشريط يدور حول صدام نفسه، والشريط الصوتي الذي كشفه القائد الليبي الراحل معمر القذافي، حيث يتحدث حاكم خليجي عن دولة خليجية أخرى الخ؛ كل هذه الأمثلة أدت إلى كوارث حقيقية أو تفاقمت بسببها الأوضاع والأمور، انتهت بحروب أو مصائب كبيرة. إذا كانت نفوس العرب خاصة والشرقيين عامة بهذه الدرجة من الحساسية، فمن الواجب على العقلاء أن يُهدّأوا من غضب وهيجان بني قومهم، لا أن يتمادوا معهم يبتغون التشفي وروي الغليل.
الإعلام وسيلة مهمة وخطيرة في عالمنا المعاصر. مع الأسف الشديد، إن الإعلام العربي برمته واقعٌ في يد كادر بئيس، لا تتعدى أحلامهم، أحلام الدجاج، في أقصاها: علفٌ وحبوب مع المفارقة في النوع. لكَمْ تمنيتُ أن أجد علامة فارقة في قنوات الشرق ومحطاته الإعلامية، نحو فكر أعمق و رؤى أرقى وأنبل، ولكن لطالما تعمقتُ في التفكر، وجدتُ جيلنا أشأم جيل في تأريخنا، فعطفتُ على الإعلام وأهله معذرةً بجهلهم، فلا يُرام الماء من الحجر الصلد. ويا للعجب، أن لا تجد من عدد كبير يتم تسويقه كـ “مفكر” و “محلل إستراتيجي” و “خبير في قضايا …” في هذه القنوات الإعلامية، من أن يقول للجميع: مهلا، ما هكذا تورد الإبل، وأن ما تقولونه مبدأ حرب يكون وقودها جثث وهام، وحرق لمستقبل الأنام و تدمير للأجيال والأوطان. كل ما نشاهد ونقرأ يوميا، تراشق إعلامي هابط، ومسبات وهجوم لاذع متبادل بين هذه الدول عبر قنواتها الإعلامية. والملاحِظُ لعقلية هؤلاء، يستنتج أنهم ماضون في حربهم حتى الفصل النهائي، إما منتصر وإما مهزوم.
وحين يكون كادر من هذا النوع يدير الإعلام (العالم الإفتراضي البديل للواقع)، فإن فرصة تقديم النصيحة والمشورة للحاكم و السياسي تقع في وهدة النسيان و التجاهل. وفي هكذا حال، تصبح الدولة والسياسة والإقتصاد والوطن والمستقبل، أضحوكة الأطفال، ويأسَ المتسكّعِ المتشرِدْ الذي طلّق الحياة ثلاثا بثلاث. فلو نظرت إلى واقع دول الخليج، ناهيك عن الدول العربية الأخرى، وبعضها قد انتهى بجلطة رباعية، مثل اليمن وسوريا والعراق، لترى حقاً، سيراً جماعياً طوعياً نحو الإنتحار والدمار. فأمريكا و الغرب من ورائه، يشلّحون هذه الدول العربية، بطريقة غير خاضعة لأعراف السياسة والدول والعلاقات الدولية. فأمريكا تبقي على علاقاتها مع الكل، وتهاجم الكل وتخوّفُ بعضهم ببعض، ثم تنهبهم جميعا. فالسعودية قبل عامين دفعت لأمريكا في صفقة واحدة 200 مليار دولار، وفي صفقة أخرى 460 مليار دولار، ماعدا أموال أخرى هنا وهناك. بينما قطر لوحدها دفعت قبل حوالي ستة أشهر، 185 مليار دولار لأمريكا، و 8 مليارات لقاعدتها العسكرية في الدوحة. وهكذا الأمر بالنسبة للإمارات و البحرين والكويت، كلٌّ يدفع بسخاء كالنهر الدافق. والعجيب أن هذه الدول وهي صغيرة ماعدا السعودية، تشتري الأسلحة بكميات كبيرة، وهي لا تملك حتى عددا كافيا من البشر لإستعمالها، لكنها مع ذلك توقع على المزيد من الصفقات!
إن الغرب ماضٍ في الركوب على ظهور دول الخليج، ونهبها بشكل جنوني. ويخدم الغربَ الواقعُ المزري بين هذه الدول والعوائل الحاكمة، حيث الأحقاد والضغائن بينها تفور بإستمرار. ولا يستكين الغرب مهما تنازلت دول الخليج، ومهما تودت إليه وركعت له، لأن سيكولوجية الإنسان الطاغي الظالم هي أن يهين الضحية أكثر فأكثر، لأن في ذلك لذة الهيمنة والسطوة وهي التي تسمى بالسادية. اليوم، يتعرض العالم العربي والإسلامي إلى أبشع فوضى، وأشرس دمار. وتقريبا، لا توجد فوضى تذكر في العالم إلا في منطقتنا. وشعوبنا هي الأكثر نكبة وهبوطا وخرابا. هناك اليوم تكالب عالمي غير مسبوق علينا، من قبل قوى وثقافات متنافرة، يجمعها العدوان والحقد على المسلمين والعرب. ويتعرض المسلمون في الهند وفي بورما و أفريقيا الوسطى وفي سوريا وفي بلاد الغرب، إلى حملات منظمة عسكرية وإعلامية وسياسية تستهدفهم، وتستهدف وجودهم وثقافتهم. هذا في حال، تجد المسلمين والعرب الأضعف، ماديا وعسكريا ومعنويا أيضا. ومازالت قوارب البحر تمضي بالألوف المؤلفة، من يائسيهم وبائسيهم نحو مجاهيل البحار، والمحيطات ومناياها. إن قطر لا تقدر على محو الإمارات والسعودية. والسعودية والإمارات لا تقدران على محو قطر. على أقل تقدير، إن الدول العالمية لا تسمح بذلك، لأن بازارها يتطلب الإبقاء على التوازنات، ومثال العراق مع الكويت خير دليل. وحرب ليبيا دليل آخر. والإبقاء على سفاح سوريا، وإطلاق يد إيران وروسيا هناك، أدلة لمن يبصر و يعتبر. إن قوى و دول كثيرة خاضت عداوات وحروب، لكنها لم تلبث أن وجدت أن ما خاضتها، لم يكن سوى عبث وخراب وخسران. فتفاوضت وأعادت علاقاتها كما كانت، متحسرة على ما مضى من جنون. إن دول الخليج اليوم بحاجة إلى صوت العقل ونداء الضمير البصير، المفكر في المستقبل المخيف حقا. إن أطفال المسلمين في الهند وفي كشمير وفي بورما وفي أفريقيا وفي سوريا، يتعرضون للإغتصاب والحرق بشكل منظم ومدروس. بينما القوى المتغطرسة، تنهب بلاد العرب وثرواتها بشكل غير مسبوق، ولا تأبه بالمجازر الجماعية التي ترتكب بحقهم هنا وهناك. إن قنوات الإعلام في دول الخليج لا تعكس مفاهيم وأركان ديننا وتراثنا وثقافتنا، بأن تحث الحكام على الدخول في التفاوض والصلح فورا دون تأخير، لأن الأعداء يستهدفونهم جميعا، ولا يفرقون في إزدرائهم وكرهم لهم بين هذا وذاك. إن أي حاكم خليجي يبادر في ركوب طيارته أو سيارته، ويزور الحاكم الذي يناوئه ويخاصمه، في زيارة مفاجئة ودية، سوف يحقق هدفين أسميين. الأول، سيخلّد إسمه في التأريخ لامعا، وتقدره الشعوب العربية أيما تقدير. ثانيا، سينهي كل هذا العبث والفوضى والأحقاد، لأن طبيعة العرب والشرقيين هكذا، حتى إذا بلغت عداواتهم أنهارا من الدماء، إلا أن زيارة واحدة، أو وفد يسعى من أجل الصلح، سينهي كل ما سبق. إذا كانت السيكولوجية العربية هكذا، وما لدينا من تراث مجبول بهكذا مفاهيم يؤازرنا، وإذا كانت مصلحة الأمة في الصلح وإنهاء هذا العبث الهستيري، فَعَلامَ خبراء القنوات ومحللوها ومتخصصوا إستراتيجياتها، لا يشيرون بإتجاه الصلح والوئام. وهل من مستفيد لقرع طبول الأحقاد والضغينة، غير من يهينكم و ينهبكم، و يتربص بكم الدوائر!
إن بقاء دول الخليج على النحو الذي هي عليه الآن، سيجعلها هي و الدول العربية الأخرى، بورما المستقبل القريب!
وحينئذٍ ستكون أحقادكم وطبولكم وضغائنكم هباءا منثورا، لا أثر لهن، غير الواقع الإفتراضي في أمسكم الذي ضيعتم فيه أنفسكم في رقصات الجنون الهيستيري المشبّع بالأحقاد ومدافن الشر!