الموازنة المالية لأي بلد كما هو معروف ، هي عبارة عن أداة تخطيطية يتم من خلالها تخمين الإيرادات ومصادرها وأوجه الإنفاق وما تحققه من منافع للبلاد بما يساعد الإدارة في تحقيق الأهداف ضمن مدة محدودة غالبا ما تكون سنة تبدأ بتأريخ معلوم وتنتهي بعد مرور عام ( في العراق تبدأ السنة المالية في 1/1 وتنتهي قي 31/ 12 ) ، وتختلف الموازنة عن الميزانية في إن الأولى تتعلق بالتخمينات للمدة القادمة في حين إن الميزانية تعكس الفعاليات التاريخية لما تم تحصيله وإنفاقه بالفعل خلال أمد محدود ، بمعنى إن الميزانية تعكس الأحداث الفعلية للموازنة ، والموازنة بهذا المعنى تهتم في التقدير بينما الميزانية تفيد في القياس ، وواحدة من أهم شروط الموازنة أن يكون إعدادها قبل بداية مدتها الزمنية وان تكون الأقرب في تقديراتها للأحداث التي ستقع بالفعل ، ولكي تكون الموازنة كفوءة وفاعلة وتمنع الهدر في الإنفاقات والاستفادة القصوى من الإيرادات فقد تم إيجاد عدة أنماط في إعداد الموازنات ، ومنها موازنة الأبواب التي تجزا إلى أقسام وفصول ومواد وموازنة البرامج وموازنة المشاريع والموازنات التعاقدية والموازنات الصفرية وموازنات الأهداف وغيرها من الأنواع ، والموازنة التي يعتمدها بلدنا منذ أعوام هي موازنة إل Copy – Paste التي تعني استنساخ موازنة العام السابق للعام اللاحق بتغيير الأرقام وكأنها بطريقة إملاء الفراغات ، ورغم إن بعض الملاكات المحلية والأجهزة المعنية بإعداد الموازنات لها قدرات مقبولة في إعداد موازنات خارج الطرق المتكررة في العراق منذ عقود وأعوام ، إلا إن متخذي القرارات او من يمثلهم يمارسون الضغوطات بإشكال مباشرة او غير مباشرة لإعداد موازنات تخضع لاملاءات عامل الزمن وضيق الوقت والتسويات السياسية ، ورغم كل مساويء الإعداد فإنها غالبا ما تصدر بعد انتهاء تاريخ نفاذها وبشكل يستنزف الكثير من أهداف وأمنيات إعدادها وإصدارها نظرا لفقدان جزءا من مورد الوقت ، وهذه الحالة ليست وليدة اليوم وإنما حالة متوارثة منذ عام 2004 رغم إن كل تطلعات الشعب كانت تتجه للتخلص من غياب الموازنة او قصورها ، وهي الحالة التي كانت سائدة قبل عام 2003 باعتبار إن الإدارة المالية كانت تدار بالطوارئ والمكرمات أثناء سنوات الحروب وفرض الحصار .
ورغم ان الموازنات المالية للسنوات 2005 – 2019 تختلف نوعا ما من حيث حجم ونوع الإيرادات والإنفاقات إلا إنها تتشابه في مشتركات متعددة منها اعتماد معظم إيراداتها على مبيعات النفط وضعف قدرتها في تحقيق التنمية المستدامة وعدم قدرتها على التحرر من النفقات الحاكمة وعدم اعتمادها على أسس موضوعية تستند لبيانات وإحصاءات حقيقية في توزيع الموارد وتحقيق العدالة وضعف تأثيرها في معالجة مشكلات السكان وحل الازمات عدا بعض الاستثناءات ، فرغم إن نفقاتها تتجاوز سنويا تريليونات الدنانير إلا إن اغلب مردداتها غير واضحة بدليل انتشار العديد من الحالات والظواهر الواضحة للعيان والتي لا تحتاج إلى تعداد ، ولعل ضعف الأداء الإداري والمجاملة في مواجهة القصور والتقصير وعدم استقرار الوضع الأمني ووجود الخلافات والاختلافات السياسية والانشغال بالدفاع عن الوطن من الاعتداءات والتدخلات الخارجية وانتشار الفساد وضعف أداء اغلب أجهزة الدولة وغيرها ، تعد من الأسباب التي كانت ولا تزال من معوقات تحقيق التنمية وبلوغ الرفاهية والسعادة للمواطنين ، ووصف بهذا المعنى من شانه أن يجعل موازنة 2020 لا تختلف عن سواها من الموازنات لان العام المفترض لإعداد الموازنة ( 2019 ) قد مر بإحداث مهمة ، منها عدم قدرة الحكومة على إثبات تنفيذها لبرنامجها الحكومي وتصاعد التظاهرات الشعبية الداعية للإصلاحات وقبول استقالة رئيس مجلس الوزراء وعدم قدرة رئيس الجمهورية بتكليف أحدا يتولى تشكيل الحكومة القادمة ، وقد رافق ذلك الاختلاف في وصف الوضع القائم هل انه تصريفا للأعمال أم حالة من الفراغ وخرق الدستور ، وان عدم وضع نهايات لهذه الأحداث ينبأ بجعل البلد بحالة من انعدام الموازنة الاتحادية لتكرار ما حصل عام 2014 عندما وأدت الموازنة ولم يعلن عن الفاعل بعد .
وحسب تصريحات أعضاء اللجنة المالية في مجلس النواب وهي اللجنة المسؤولة عن الإعداد لمناقشات الموازنات بعد ورودها لمجلس النواب من رئاسة الوزراء ، فقد نشرت وكالة ( المعلومة ) تصريحين مهمين بهذا الصدد ، أولهما عن بلوغ نسبة النفقات المدرجة ضمن مسودة قانون موازنة 2020 نحو 163 تريليون دينار في حين إن الإيرادات لا تتعدى 110 تريليونات دينار وإن مسودة الموازنة لا تزال لدى وزارة المالية التي تعمل على معالجة او تقليل نسبة العجز فيها ، والثاني تأكيد اللجنة المالية النيابية أن مجلس النواب سيستلم مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2020 من مجلس الوزراء خلال شهر نيسان المقبل ، و حسب ما قالت عضو اللجنة سهام العقيلي ، إن إرسال الموازنة متوقف على حسم منصب رئيس الوزراء خلال الأيام المقبلة ، وأضافت أن حسم منصب رئاسة الوزراء خلال هذه الأيام وتشكيل الحكومة الجديدة خلال شهر واحد سيلزم مجلس الوزراء إرسال الموازنة بداية نيسان المقبل ، وفي هذا اليوم ( الثلاثاء ) أكد النائب شيروان الدوبرداني للوكالة ذاتها إن مجلس النواب مستعد للتصويت على موازنة العام الجاري حال تشكيل الحكومة الجديدة لان مشروع قانون الموازنة مكتمل ويمكن إرساله لمجلس النواب .
ورغم تفاؤل اللجنة المالية في مجلس النواب بوصول الموازنة حال تشكيل الحكومة إلا إن حسابات الواقع تشير إلى عدم إمكانية تحقق ذلك ، لان الحكومة القادمة يفترض بها أن تكون مستقلة ولا تتبع الأحزاب الحاكمة او المهيمنة والمتظاهرون ومن يناصرهم يتطلعون لبزوغ حكومة تكنوقراط لكي تسعى للتأسيس إلى انجازات كانت ولا تزال من استحقاقات الجمهور والتهيئة للانتخابات المبكرة ، وحكومة من هذا النوع لا تقبل تمرير موازنة تحتوي على عجز بمقدار 50 تريليون دينار لان ذلك سيشكل المهر المعجل للحكم على فشلها ، كما إن الإنفاقات المحددة بالموازنة الحالية وتوزيعها حسب الأبواب ربما يتناقض مع برنامجها الحكومي الذي ستقدمه لمجلس النواب كتزكية لمنحها سمة العبور ، ويعني ذلك حاجة الحكومة القادمة إلى إجراء تعديلات جوهرية في مشروع موازنة 2020 المعد حاليا بقصد التغيير بما يتماشى مع تطلعاتها وهدافها وبما يرضي الناس ويفتح أبوابا للأمل بعد انتظار طويل ، وهذه الموازنة تتطلب إعادة الإعداد بشكل موضوعي كما إنها سوف لا تمر مرور الكرام عند عرضها في مجلس النواب فالأغلبية التي تصوت على تكليفها قد تتقاطع معها في موضوع الموازنة ، وهي حكومة ليست لها الأغلبية لتمرير مشاريعها لذلك فمن المتوقع تأخر إقرار الموازنة لأشهر أخرى إلا أذا حصلت مفاجآت او ( معجزات ) ، وفي كل الأحوال سيكون هناك طريق طويل للموازنة في القراءة الأولى والثانية والتصويت والمصادقة ثم النشر في الوقائع العراقية وإصدار تعليمات تنفيذها وغيرها من الإجراءات البيروقراطية التي اعتاد الناس على سماعها فيما سبق من الأعوام ، وفي حالة صدورها في نيسان وتنفيذها في حزيران من العام الحالي ( مثلا ) سيكون قد مضى على عمرها ستة أشهر وبذلك ستفقد جزءا مهما من اللون والطعم والرائحة ، لأنها قد فقدت أهم مقوماتها الأساسية في كونها تخمينية وتهتم بالتخطيط ( للقادم ) الذي سينقضي منه نصف عام ، وبذلك سيتكرر السؤال كما هو الحال في كل عام وما فائدة الموازنة عندما تكون خارج التوقيتات ألا يكفيكم ترقيعا خلال هذه الأعوام ؟؟ ، فأي موازنة وفي أي زمان وهدف ومكان تفقد العديد من جدواها وجودتها عندما تكون خارج التوقيتات لان الموازنة الحقيقية هي التي يتم إعدادها قبل بدايتها بأشهر او أسابيع على الأقل ومن المؤسف أن تواجه الحكومة الجديدة هذا التحدي في بدايتها ، إن تشكلت بالفعل .