19 ديسمبر، 2024 1:18 ص

نشعر بضيق شديد حين تجيش الافكار في رؤوسنا لكنها لا تجد منفذاً يعرضها لضوء النهار حيث يقرأك الاخرون من خلال هذه الافكار
فنحن مضطرون في كثير من الاحيان الى اظهار وجوه غير وجوهنا والتكلم بلسان غير لساننا و التكتم على ما نؤمن به وهذا ما يرسخ فينا عقدة الخوف ان نخاف من طرح افكارنا و رؤانا لأنها قد لا تلائم محيطنا ان نخشى ان نقول ونُظهر ما يجيش في صدورنا و ما يدور في عقولنا وحينها سنصبح معاقين نولد اجيالاً من معاقين وحينئذ سيتخشب المجتمع ويعيش نسقاً صورياً جامداً يتوارثه بفعل الخوف والخشية.

لا يمكن ان تولد حضارة دون حرية فكر دون حرية نظر و دون حرية بحث ، حياة أية حضارة تنبع من هذا الاساس القوي و متى تقوض هذا الاساس تقوضت الحضارة فعامل الموت لأية حضارة هو حينما تتقوض حرية الفكر وحرية البحث وكلما ازداد هامش الحرية في اية حضارة ازدادت نضجا ً ومقدرة على البقاء والعكس صحيح.

المجتمعات التي تؤمن بالحرية كقيمة من القيم العليا تمنح افرادها مساحة للتعبير عما يرونه ويؤمنون به ولذلك نجد ان هذه المجتمعات لا تعاني من العقد لأن افرادها متصالحين مع انفسهم يقولون ما يؤمنون به دون خوف او مواربة ففي هكذا مجتمعات يمكن للانسان ان يعبر عن ذاته بكل وضوح وحينها سينمو هذا الانسان وسينمو هذا المجتمع ويتقدم.

اذن لنا ان نتساءل ماذا لو بقيت افكارنا حبيسة لا نستطيع ان نظهرها سنضطر حينئذ الى العيش بازدواجية نقول و نفعل ما لا نؤمن به وحينها سيضطر البعض الى الهروب من هذا الواقع والى الانزواء عن المجتمع و الانفكاك عن علائقه الاجتماعية او سيتعايش مع ما لا يؤمن به وتذوب تدريجياً افكاره ثم يعتقد انه يؤمن حقيقة بما يظهر لمجتمعه وبذا تتبلد افكاره وتغيب حواسه.

الحقيقة ان الاقوياء هم من سيتغيرون وفقاً لما يؤمنون به وهم مضطرون الى دحض الوهم الذي يتملكهم و يتملك محيطهم الاجتماعي ويعيشون الحقيقة حيث يتصالحون مع انفسهم و هذا التغيير سيضطرهم الى قطع السلسلة التي تشدهم الى مجتمعهم الذي يعيش اوهامه وحينها سيكونون وحيدين وسيشعرون بوحدة عميقة تتملكهم فالاختيار ما بين عالم الحقيقة وعالم الوهم خيار صعب اذ حين تختار العيش في عالم الحقيقة هذا العالم الذي تؤمن به سيتوجب عليك الشروع بقطع علائقك الاجتماعية و التركيز في ايمانك بذاتك دون مقدمات ومعطيات وهي مرحلة صعبة و شروطها صعبة ايضاً ولا تتوفر دون درجة من الوعي.

فحين تعي ذاتك بعمق وحين تعي ما يتملك محيطك الاجتماعي وحين تعي مسار مجتمعك واهدافه الظاهرة او المضمرة حينها ستشعر انك تملك الخيار ، ذلك الخيار الصعب الذي يجعلك بين امرين اما ان تساير المجتمع بأوهامه او تعيش ما تؤمن به وحينها ربما ستتعرض للعزل او تنعزل اجتماعياً من تلقاء نفسك لأنك ستكون في مواجهة مع المجتمع .

اولئك الذي يكسرون طوق الوهم وقيوده هم من يستشعرون انسانيتهم بعمق وهم من يشعرون بفرادتهم بعمق وهم من لا يقبلون ان يكونوا نسخاً عن اسلافهم ولا سبورة يكتب عليها الاخرون ويملون عليها افكارهم و رؤاهم .

فمتى ما نفضت غبار الاوهام الموروثة وانتفضت لذاتك وافكارك و رؤاك ستكون مطمئناً ومبتهجاً وكلما قطعت علائق و تركات التلقين الاسري والتربوي والاجتماعي الذي كنت معبئاً به و اعدت ترتيب افكارك و رسمت مساراتك من جديد كلما شعرت بحال افضل وهو طريق صعب وليس متيسر لكل احد ولكنه سيجنبك الكثير كما سيوقعك في كثير.

ومتى ما يُفرض علينا ان تكون افكارنا مكتومة و رؤانا محرمة سيكون الصمت ابلغ تعبير وسيكون الاعتزال خير فعل حتى ينبلج الفجر ويثمر الشجر.