هناك بديهية في علم الثرموداينمك تقول إن جسم أية مادة يميل إلى أن يكون مستقرا باتخاذه الشكل الذي يضمن وجود اقل ما يمكن من الطاقة السطحية لذا تجد إن أطلاق آية كمية من سائل معين يؤدي بها إلى آن تتخذ شكلا كرويا ( الكرة لها اقل مساحة سطحية لحجم ثابت عند مقارنتها بأي شكل هندسي آخر ) , وخير دليل تشكل الكواكب والمجرات بعد برودتها واستقراها على شكلها النهائي الكروي او ما يشبه الكرة بعد الانفجار الكوني العظيم .
هذه المقدمة الفيزيائية لم اسمعها من أصحاب نظرية الفوضى الخلاقة ولكنني اعتقد أنهم يميلون إلى تطبيق هذا المفهوم على الشعوب المأخوذة بالخرافة والغيبيات بحيث يحتاج إخراجها إلى عالم الواقع مئات من السنين ولنا في ذلك إن الأوربيين احتاجوا إلى أكثر من خمسمائة عام لينتقلوا الى عصر النهضة , بينما الأمريكان اختصروا المدة إلى مائتي عام قبل إن تقتنع مجتمعاتهم بالنظام السياسي الحالي مع فارق الاختلافات الثقافية الخاصة بكل مجتمع … واعتقد أيضا إن أصحاب هذه النظرية يؤمنون بأن مجتمع الشرق الأوسط بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص يحتاج إلى انفجار اجتماعي هائل تطلق معه كل قوى الشر شرورها وتطفح كل القوى الفاسدة إلى السطح ضمن اتفاق غير معلن بين هذه القوى الشريرة التي يزداد طموحها بشكل مضطرد إلى أن يصل الأمر بها الاصطدام مع بعضها بعد أن يأخذها الطموح الجارف نحو أعلى مراتب السلطة بعد أن تتشبع بالمال الوفير وتتعالى عن إمكانية القبول بالسلطة على حي سكني فقير أو مدينة معينة , إذن هذه الحالة لها ما يشبهها في العراق لذا كان لزاما أن نتساءل عن هذا الفوضى وهل ستؤدي إلى ما يخطط له منظريها .
أصبح تداول مصطلح (الفوضى الخلاقة) يقترن بانتقاد السياسة الأمريكية، وتحديداً مشروع الشرق الأوسط الكبير والازمات فيه كما في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا ومصر ونتائج الربيع العربي المتمثلة ب (أخونة ) اغلب البلدان المنتفضة بينما يرى الأمريكان من جانبهم مستقبلاً متفائلاً بتحول المنطقة إلى الديمقراطية حسب النموذج الغربي ، ويدافعون عن وجهة نظرهم من أن منح الحرية الكاملة لشعب لا يعد عيباً، أو أمراً كريهاً كما يروج أعدائهم الذين يرون أن حاجة شعوب المنطقة إلى الاستقرار، والأمن يتقدم على حاجتهم إلى مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، وهم يسعون إلى الحفاظ على أنظمة دكتاتورية تحافظ على الأمن الداخلي بواسطة القمع والترهيب، وهم (أنصار الدكتاتورية) يحاولون ردع الولايات المتحدة بالقول أن أوضاع المنطقة العربية لا تترك مجالاً آخر للاختيار بين الفوضى الشاملة وضياع الأمن، أو صعود الإسلام السياسي إلى السلطة وقد وجدنا البعض في العراق مثلا يقارن بين ديمقراطية اليوم ودكتاتورية الماضي ويعتبر الامن آنذاك مثالا لاستقرار الدولة وسيادة القانون بعد الفشل الكبير الذي منيت به الطبقة السياسية العراقية في ادارة الدولة , وهنا يأتي الرد على هذا الرأي على لسان كوندليزا رايس ((إن الوضع الحالي ليس مستقراً, وان الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي هي نوعاً من الفوضى الخلاقة التي تنتج في النهاية نظاماً أفضل مبادئه الأساسية الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية)).
ان هذا الرأي الذي قدمه المحافظون الجدد يخالف مبادئ الثورة الفرنسية التقليدية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة فأوجدوا الحرية الفوضوية حيث يعتقدون فيها إن الإنسان الذي أمضى مرحلة تاريخية طويلة من القمع والقهر, هو بحاجة ماسة إلى حرية منفلتة تُخرج إلى ارض الواقع كل إفرازات وسموم المجتمع المدفونة بواسطة القمع, إلى إن يستقر الحال به. حتى يجد إن الاستقرار والأمن والنزاهة واحترام القانون هي الخيار الأفضل لديمومة تعايش سلمي وبناء مستقبل أفضل.
البعض يقول: ما شأني بهذه السموم والأحقاد وحب السلطة والمال والشهوات؟ إنني بطبيعتي احترم القانون وأميل إلى ردع نزواتي المتمثلة بحب السلطة و المال. وهو على حق، لكنهم ( اصحاب النظرية ) يرون ان الوصول إلى النظام الأفضل يتطلب التضحية من قبل القلة القليلة من الأسوياء في المجتمع ويعتقدون إن الجميع يزعم انه يحترم المبادئ السامية هذه، لكن التاريخ اثبت عكس ذلك, لذا فعلينا جميعاً إن نصنع نظاماً يحتمل تعايش جميع المتناقضات ضمن قناعة أنتجتها تجربتنا المريرة في مجتمع (الفوضى الخلاقة) رغم ان هذه القناعة تعتبر سباحة ضد تيار عارم يسود مجتمع الشرق الأوسط الذي يستمع فقط إلى الاسطوانة المكررة نفسها المستندة الى نظرية المؤامرة فراحوا يلصقون هذه النظرية بمفكر يهودي مهاجر من روسيا هو (ناتانشارنسكي) الذي أصبح وزيراً في عهد (شارون) وله كتاب عنوانه (قضية الديمقراطية)، إذ يؤكدون حجتهم منان الرئيس جورج دبليو بوش معجبا جدا بأفكار هذا المهاجر الروسي فيربطون بينارائه و أطروحات بوش الداعية إلى استئصال الإرهاب من منابعه، والتي حسب رأيه لا تتم إلا من خلال إسقاط الأنظمة المستبدة التي تنشر ثقافة الكراهية للغرب حيث يعتقد الكثير من اصحاب هذا الراي في منطقتنا والعراق بشكل خاص ان الإدارة الأمريكية مخلصة لرأي (صاموئيلهانتغتون) وهو (ان الإسلام عدو حضاري للغرب) ويرون أيضاً ان الفوضى الخلاقة ستولد (سايكس بيكو) جديدة في المنطقة وظهور هيمنة للقوة العظمى الوحيدة (الولايات المتحدة ) على سياسات وثروات المنطقة.
في هذا المنعطف التاريخي, وإذا أجيز لنا اعتبار اننا نعيش في خضم هذه التجربة من خلال اخضاعنا كعناصر مختبرية في مشروع ريادي ( PILOT PLAN) لتطبيق هذه النظرية , فأننا نجد أنفسنا( أي العراقيين) وبعد زوال النظام الأكثر استبداداً, قد اجتزنا مراحلها الأكثر دموية وطائفيتها المقيتة، وكل إفرازات مجتمعنا، متمثلة بأفراده المندفعين بقوه نحو السلطة والمال والتقدم نحو الواجهة الاجتماعية والسياسية ، أجد فيما إذا صدقت الفكرة إننا على أعتاب مرحلة مفصلية في تنظيم عقدنا الاجتماعي الخاص بنا بصفتنا مواطنين عراقيين، مع الاعتراف ان هذه الأفكار قد تبدو هذياناً سياسياً في مجتمع يعتمد القيم الأفلاطونية القديمة القائلة:-
(ان المدينة التي تقوم على الحرية هي تمثل حكم الدهماء, وان اجتماع الناس في هذه المدينة جاء عرضياً ولا يربطهم أي رابط قيمي معروف ).