ليس من السهل التنبؤ بما سيؤول إليه مسار انتفاضة تشرين، لما يتعرض له شبابها من عمليات قمع وحشي، على أيدي قوات الأمن “العراقية” ومليشيات الأحزاب، إلا أن ذلك يؤكد أن العراق أمام لحظات تاريخية فارقة، سيكون له أثر ليس على مستقبله وحسب، بل وعلى مستقبل المنطقة برمتها.
إذ تشير المعطيات على الأرض، إلى أن العراق بعد انتفاضة تشرين ليس كما قبله، ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب جوهرية، الأول يتمثل بأن غالبية المشاركين في الانتفاضة هم من فئة الشباب، وبالتالي فهم غير مؤدلجين كما تحاول الأحزاب ترويج ذلك بهدف تشويههم.
والسبب الثاني، أن الانتفاضة تتركز إلى جانب العاصمة بغداد في محافظات الفرات الأوسط والجنوب، والتي تعدّ الحاضنة الأساسية للأحزاب المتحكمة بالعملية السياسية.
أما السبب الثالث، هو خلو الانتفاضة من أي تمثيل للأحزاب، التي كان معظمها له مشاركات في تظاهرات سابقة، بل إن الجموع المنتفضة خرجت على الفساد الفاحش لهذه الأحزاب وما تسببته من انعدام كامل لكل مقومات العيش الكريم، في بلد يعد واحداً من أغنى دول العالم.
وثمة مقولة مفادها، إن تكرار الخيبات والخذلان يؤدي إلى الإحباط واليأس، لذلك اعتقد المتحكمون بالمشهد السياسي في العراق، عدم حصول انتفاضة ضدهم بهذا الحجم والمستوى العالي من الوعي، حيث إن شباب الانتفاضة أسقطوا هذه المقولة بانتزاعهم الخوف من قلوبهم، بعد أن شاهدوا شركاءهم في الوجع والضيم، وهم يُقتلون بدم بارد على أيدي القوات الأمنية ومليشيات الأحزاب، لذلك فلا عودة للعراق إلى المربع الأول بعد كل هذه التضحيات الجسام.
وإذا ما رجعنا إلى تاريخ قادة وكوادر الأحزاب المتحكمة بالمشهد العراقي اليوم، نجد أن معظمهم كانوا يعيشون في عواصم مختلفة من دول الاتحاد الأوروبي وواشنطن وغيرها، منهم مَن كان يعتاش على المساعدات من خلال امتيازات اللجوء، فيما عمل قسم آخر على التنسيق مع مخابرات بعض الدول للعدوان على العراق.
وحين تحقق لهم ذلك، سوقوا أنفسهم على أنهم البديل الأمثل للنظام السابق، رافعين شعار الديمقراطية والوعود الرنانة بإحلال الرفاهية والرخاء وسواها، لكن سرعان ما اتضح زيفها أثناء وجودهم في سدة الحكم، بدل أن ينقلوا تجارب إدارة الدولة من البلدان التي كانوا يعيشون فيها.
حيث كُشف فشلهم الذريع في إدارة البلد على الصعد كافة، كما تكشّف جشعهم وطمعهم في خيرات العراق حد التخمة، بينما المواطن يتضور جوعا على نحوٍ غير مسبوق، ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على هدم البنية المجتمعية للعراق وإرثه الثقافي والحضاري، حتى حولوا الدولة العراقية إلى دولة فاشلة، لا بل حولوها إلى اللادولة، وذلك من خلال نهجهم الذي اتبعوه طيلة ستة عشر عاما من اللصوصية ومافيا الفساد والطائفية والجريمة المنظمة عبر جيوش من المليشيات والقتلة، ليثبتوا للعلن أن لهم عداءً مع الوطن وليس مع النظام السابق.
وخلال انتفاضة تشرين، تعرف العراقيون على هوية من كان يقتلهم ويختطفهم وينكل بهم طيلة ستة عشر عاما، وإذ به الأحزاب الحاكمة ومليشياتها التي كانت مجندة على ما يبدو لمثل هذا اليوم.
واتضح ذلك جليا من خلال عمليات القمع الوحشي والمجازر التي ارتكبت في الناصرية والسنك والخلالي في بغداد، حيث مارسوا أبشع الجرائم تنوعت بين قنص وإطلاق الرصاص الحي المباشر، وآخرها عمليات اغتيال الناشطين بكاتم الصوت، وعمليات طعن وحشي بالسكاكين والمشارط الطبية، مورست ضد عشرات المنتفضين في مشهد لم يحصل حتى في أفلام الرعب الهوليودية، وقد تكون هناك جرائم مبيتة من نوع آخر في قادم الأيام، لتصفية عدد آخر من ناشطي الانتفاضة.
وبدل أن تعي الأحزاب الحاكمة حجم الكارثة التي تسببوا بها، ومدى رفضهم من قبل الشعب العراقي، يحاولون تمرير حزمة حلول ترقيعية، عبر تعديل قانون الانتخابات ومفوضيتها، معتقدين أن ذلك ربما سيقنع الشارع المنتفض، ويهدئ من غضبه، والمشكلة أن قادة الأحزاب لا يواجهون حقيقة أن النظام السياسي الحالي أصبح في حالة احتضار، ولم يتبقّ منه سوى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، رغم كل محاولات تأخير ذلك عبر ازدياد عمليات القمع المتبعة ضد الشباب السلميين.
اليوم بات العراق بحاجة إلى تغيير حقيقي وشامل بدءاً من البنية السياسية مرورا بالجانب الاقتصادي والفكري وصولا إلى تحقيق بنية اجتماعية تستمد قوتها من إرثها الطويل، من أجل الوصول إلى ديمقراطية حقيقية، ونظام وطني يحقق حياة حرة لمواطنيه، وهذا لن يتحقق في ظل وجود بيادق سياسية تعمل لصالح غير العراق ومليشيات مجرمة، بل يتحقق عبر رجال وطنيين همهم الوحيد أن ينعموا بوطن معافى من كل الأدران التي تسبب بها مَن جاء خلف الدبابة الأمريكية، ويبدو أن شباب الانتفاضة مصرون على تحقيق كل هذه الأهداف النبيلة، من خلال الثبات على مطالبهم المتمثلة بتغيير العملية السياسية برمتها، وإلغاء الدستور، وحل الأحزاب التي مارست أعمال الفساد ونهب المال العام وتجريمها، إلى جانب تفكيك وتجريم المليشيات التي ارتكبت أعمال القتل والبطش، وحصر السلاح بيد الدولة.