عندما ألف وزير الخزانة الاميركي هنري مورغنثاو ، كتابه الشهير (ألمانيا هي مشكلتنا ) عام 1945 كانت غايته منع المانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية من التصنيع وتحويلها الى مجرد مجتمع زراعي ضعيف منقسم على نفسه فحسب كي لا تقوم لها قائمة بعد الحرب إطلاقا ، ولاقى كتابه إستحسانا كبيرا لدى صناع القرار من أعداء المانيا كلهم حتى أنهم أوصوا بطباعته وتوزيعه مجانا بملايين النسخ لأن النهضة في أي بلد حول العالم إنما تقوم على أسس ثلاثة هي الصناعة ، الزراعة ، التجارة و فقدان أي ركن من أركان هذه الثلاثية الخالدة يعني أن الدولة باتت ضعيفة جدا تعتمد في مأكلها ومشربها وملبسها وتسليحها على من سواها ما يسهل تفكيكها واستعبادها والتحكم بقراراتها السيادية بما فيها إختيار رؤسائها وتعيين وزرائها وكتابة دستورها وتشريع قوانينها لاحقا والملاحظ ، أن ” الطرف الثالث ” سعى ومنذ الوهلة الأولى التي أعقبت الغزو الاميركي الغاشم 2003الى تدمير هاتيك الثلاثية مجتمعة فبعد تفكيك المصانع وحوسمتها بأيدي الرعاع والسوقة بمباركته وتحت انظاره عمد الى إغراق الاسواق المحلية عمدا بالمستورد الأجنبي من غير تقييس ولا سيطرة نوعية ولا ضرائب أو رسوم جمركية تزامنت مع وقف الدعم الكلي للمصانع المحلية من وقود وكهرباء وقطع غيار ومكائن وصيانة دورية ودورات تأهيلية ، ومن ثم باشر ” الطرف الثالث ” بالتوجه الى الزراعة لتدميرها هذه المرة فأغرق الأسواق المحلية بفائض من المنتجات والمحاصيل المستوردة من دول الجوار بما لم تكن البلاد المعروفة بأرض السواد لكثرة محاصيلها الزراعية وجودتها بحاجة الى عشر معشارها فعليا فيما أوقف استصلاح الأراضي ، مكافحة زهرتي النيل والشنبلان ، دعم المزارعين بالبذور والأسمدة الكيماوية ، المبيدات الحشرية ، البيوت البلاستيكية المخصصة للاستزراع الشتوي ، وقود المضخات والمكائن الزراعية ، ناهيك عن حرق المزارع دوريا وقت الحصاد بحوادث تدون في العادة ضد مجهولين ، تهجير العوائل الفلاحية من مئات المناطق الريفية والقرى الزراعية ومنع اهلها من العودة اليها في ديالى ، أطراف كركوك ، شمالي بابل ، حزام بغداد ،صلاح الدين وبعض مناطق الأنبار ، بغية إحداث تغيير ديمغرافي فيها ، صاحبه تجريف متعمد للبساتين وحرقها فضلا عن تحويل جنس الاف الدونمات منها الى أراض سكنية بدلا من زراعية بغياب السدود والقنوات والبحيرات والأحواض اللازمة لخزن المياه ، وتلاشي أية خطط خمسية ، أوعشرية للنهوض بالواقع الزراعي الذي يمثل الأمن الغذائي للبلاد ، تحويل مجاري الأنهار مع الدول المتشاطئة لتصب في أرض المنبع من دون المصب ،القاء المخلفات الصناعية والنفطية والمياه الثقيلة في النهر قبل معالجتها أو تدويرها ، الأمر الذي أدى الى زيادة ملوحة الأرض ونقص المياه بشكل مخيف ، ما أسفر بمجمله عن هجرة الفلاحين وهلاك مواشيهم وزروعهم وتركهم أراضيهم ،علاوة على تسميم أحواض الأسماك للقضاء على الثروة السمكية ،نشر الاوبئة المتعمد في حقول الدواجن والحظائر المخصصة لتربية المواشي وإهمالها بيطريا بوجود أعلاف رديئة مستوردة من مناشئ عالمية مجهولة وأدوية ولقاحات مضروبة مخصصة لعلاجها أردأ من سابقتها ، ليتحول الطرف الثالث هذه المرة وبعد كل الخراب الذي ألحقه في صناعة العراق وزراعته عن سبق إصرار وترصد ليستولي على الركن الثالث من مصفوفة النهوض والاكتفاء الذاتي الا وهي التجارة بكل مفاصلها بدءا بالموانئ ، مرورا بالمنافذ الحدودية والنقاط الجمركية ، المصارف التجارية ،مزاد العملة ، عقود الاستيراد والتصدير وكل ما يتعلق بالتجارة لتكتمل خطته في تدمير البلاد وإجاعة العباد التي أضاف لها إغراق العراق بالديون الربوية الدولية ، وبيع النفط في جولة التراخيص الى الشركات الاحتكارية بثمن بخس من دون السماح للأيدي العاملة المحلية بالعمل فيها حتى ، ما خلف ملايين العاطلين عن العمل وتركهم من دون مصدر رزق واحد يعيلهم وذويهم على شظف العيش وهذه واحدة من أسباب اندلاع التظاهرات العارمة ضد العملية السياسية وأحزابها الفاشلة المتعاقبة التي جاءت وعلى ما يبدو من ثمارها طيلة 16 عاما أنها ما جاءت الا لمحو “ميزوبوتاميا ” من الخارطة الجغرافية والحضارية للبشرية على سواء !
“البطالة بداية كل الشرور” هكذا قالها وبكل صراحة أديب الكابوسية والسوداوية ، التشيكي فرانتس كافكا ، لأن البطالة تدفع للسرقة ، للانتحار، للاكتئاب ،لإدمان الخمور والمخدرات ، للطلاق ،للتفكك الأسري ، للحسد ، للحقد ، للكراهية وسواها من الآفات والرذائل، بل وللوقوع في حبائل الارهاب والحركات الضالة وعصابات الجريمة المنظمة أيضا ، ولا حل سوى بإعادة الحياة الى المصانع الوطنية فورا ومن دون إبطاء وإحياء القطاع العام والخاص والمختلط وفتح باب الاستثمار المنضبط بشروط لتنشيط الواقع الصناعي ، إضافة الى إحياء القطاعين الزراعي والتجاري وتعريقهما بدلا من أيرنتهما أو أمركتهما وهذان الأخيران هما أس بلاء العراق وسبب تراجعه على مختلف الأصعدة ، شاء من شاء وأبى من أبى وهما بإختصار وأذنابهما ” الطرف الثالث” الذي يتحاشى ذكره الجبناء والمخنثون والاذلاء التابعون !
المطلوب إحياء الصناعة ، الزراعة ، التجارة ، الوطنية أولا بأناشيد شعبية وقصائد جماهيرية تلهج بها الجموع اذ ما أجمل الأناشيد التي تُكبر العمل وتثني على العمال وتشجع الصناعات الوطنية لعل من اجملها أنشودة ” يا حلاوة الإيد الشغالة ورونا الهمة يا رجالة ” لشريف المهدي ، كذلك رائعة بيرم التونسي ” دوور يا موتور يا للي بتلعب أعظم دور ، مصر الحرة ولو تتعري ما تلبس نسيج من برة لا حرير بمبة ولا كستــور ..دوور ” ، وما أجمل الاغاني التي تتغنى بالفلاح والأرض الزراعية الطيبة وأشهرها “ياعشك الكاع ” وأغنية ” ياعشكنا ” لفؤاد سالم وشوقيه العطار ، ولاشك أن حملة دعم المنتج الوطني التي عمت ساحات وميادين التظاهر السلمي فضلا عن الصفحات والكروبات الإلكترونية المفتوحة منها والمغلقة وتخصيص بازارات لها يحول ريعها لدعم المتظاهرين خطوة أكثر من رائعة تدل على وعي جديد بدأ يتشكل في ساحات الاعتصام يتخطى كل الحدود والعراقيل التي وضعها الطرف الثالث لنهضة هذا البلد الزاخر بالخيرات وهذا ما أتمناه من الآن فصاعدا زد على ذلك ضرورة التغني بالمنتجات المحلية عبر الملصقات ، الاعلانات ، الوثائقيات ، اللوحات ، المسرحيات ، المسلسلات ، البوستات ، المطويات ، لأن تشجيع المنتج الوطني يعني مقاطعة المنتج الاجنبي ، يعني تأهيل وإعمار وتشغيل المصانع المعطلة الحكومية منها والأهلية وعددها يربو على 25 الف مصنع ، يعني تشغيل ملايين العاطلين ، يعني عودة الآف الكفاءات والخبرات المهاجرة ، يعني تنويع مصادر الدخل وعدم الإعتماد على النفط كليا ، يعني عودة العراق الى الأسواق العربية والآسيوية كما كان والى وقت قريب وبقوة ، يعني إحياء المشاعر والهوية الوطنية ، يعني الاعتداد بالهوية والصناعة المحلية ، يعني الحفاظ على السيولة النقدية والعملة الصعبة وضمان عدم تسربها الى الخارج بل والحصول على المزيد منها عبر التصدير بدلا من الاستيراد العبثي ، يعني تشجيع رؤوس الأموال للاستثمار في الداخل بدلا من تبديدها في الخارج ، يعني إحياء القطاع العام ونظيريه الخاص والمختلط !
وأقولها بصراحة بأن الاقتصار على المطالب السياسية والانتخابية فحسب في التظاهرات دليل على قصور في الوعي الجمعي والمطلبي لما يزل قائما اذ سرعان ما سيتم إحتواؤه بسراق جدد وقوانين شكلية ” مفوضية انتخابات + قانون انتخابات +تعديلات دستورية طيارية + انتخابات بعد عام من الان تعيد ذات الوجوه الكالحة + كلاوات وأحزاب سياسية معهودة ..الخ ” ، فيما الانتقال الى المطالب الاقتصادية والوطنية الكبرى أمر ملح جدا وأولها إلغاء جولات التراخيص النفطية ووقف الاقتراض من البنك الدولي ،إخراج جميع القوات الاجنبية الغربية والشرقية من العراق واغلاق قواعدها ، إعادة الأموال والآثار المهربة والمنهوبة ، إستعادة جميع عقارات الدولة وطرد شاغليها من الاحزاب ولو بالقوة ، ايقاف مزاد العملة ، تشجيع المنتج الوطني ، مصادرة السلاح وحصره بيد الدولة ،ملاحقة العصابات والفصائل المنفلتة ، لها وقع آخر ، وبعد آخر تماما!
ومن مظاهر وأساليب دعم المنتج الوطني التي يتوجب الشروع بها ، أن ” تلتزم جميع السفارات ، القنصليات ، الملحقيات الثقافية والعسكرية العراقية في كل أنحاء العالم بتأثيث مقارها بالأثاث العراقي حصرا ، يتحتم أن يكون ديكورها محلي فلكلوري خالص ، لوحات جدرانها عراقية ، ملابس السفراء وازواجهم عراقية ، الطعام والشراب المقدم الى الضيوف في المناسبات الوطنية والدينية وغيرها يجب أن تكون (صنع في العراق ) حصرا ومن ألوان المطبخ العراقي تحديدا، حتى الزهور في أرجاء السفارة والقنصلية لا بد من أن تكون عراقية لها مدلولاتها التراثية ” يعني ما معقولة ” نتغنى بالورد الجوري والياسمين والبنفسج والنرجس والقداح والرازقي في موروثنا الشعبي والأدبي والثقافي بما يعرف بالأزهار الوطنية التي يتغنى بها الشعراء والكتاب ” ثم تأتينا جنابك لتضع لنا زهرة غريبة تنتمي لبلد آخر وتجسد ذائقته الفنية وربما العقدية والتأريخية ايضا ، لا تأتيني بالكالا الأثيوبية ولا باللوتس الفرعونية ، الساكورا اليابانية ، الاوركيدا السنغافورية ، التوليب التركي ، الاقحوان الروسي بل ائتني بالياسمين العراقي ” وأي سفير او قنصل يرفض تعريق السفارات ويصر على تشريقها او تغريبها ، فعليكم بإعادته من حيث أتى وبالأخص انه لا يجيد فضلا عن جهله المطبق بالإتيكيت وفنون الدبلوماسية ، أية لغة حول العالم بما فيها اللغة العربية !! أودعناكم أغاتي