يشكل خطاب القاص (ربيع عودة) وفواعله ومعطياته النصية في مجموعته (بيت العصافير)* محاولة في العودة إلى الأمل والحنين إلى ما فاتَ ، والمفتقد في الراهن الضاري، الذي هو ليس زمن قيم وتوجهات ما قد مضى ، ويتشكل ذلك من خلال اهتمام (ربيع عودة) بالنثر (المهموس) الذي اجترحه ووضع بعض سماته ومحدداته واستثمره الشاعر (حسين مردان)، ونَظر له أستاذنا الراحل د. علي جواد الطاهر في كتابه ( الحبكة المنغمة بالاشتراك مع القاص عائد خصباك. كما تناوله وكتب عنه الناقد عبد الجبار عباس. ومع أن(ربيع عودة) وضع على عنوان مجموعته الرابعة (قصص.. ونصوص) فهي لا تقع على وفق المحددات الحداثاوية للقص، فثمة انعدام في متونه للآخر ومهيمناته ومنها : الراوي بكل أشكاله وتوجهاته التي تم التنظير لها عالمياً ومحلياً، وكذلك الحبكة والحوار وفي الأهم منها السرد في معانيه المعروفة، إذ له أساليب عدّة, تكون لدى السارد بما يشبه الأدوات بين يديه ، والسارد يعمد في اختياراته الأداة والمنحى الذي يناسب ما يطمح لإظهار توجهاته الفكرية والحياتية، وما يشعر به ويسعى لتقديمه، مستثمراً ما يراه مناسباً من تقنيات فنية. والأسلوب عادة كما متعارف عليه هو السرد.فالسرد هو من الأساليب المتّبعة في القصص والروايات وكذلك المسرحيات و اليوميات والمذكرات وهو ينسجم مع طبع الكثير من الكتّاب وأفكارهم وذلك لمرونته وكشف مقدرة الكاتب وتوجهاته الفكرية وقدراته الفنية, والسرد هو أداة للتعبير, ويقوم الكاتب من خلاله وبواسطته بترجمة الأفعال وردودها والسلوكيات الإنسانية والأماكن بأسلوبه الخاص وعلى وفق إمكانياته الفنية- الفكرية ، وبذلك يكون الكاتب قد قام بتحويل المحكي وترتيب الأحداث في نصه مع الانسجام بين توجهاته وأفكاره عبر اللغة التي تطرح تلك المعاني. وفي السرد الفني تنعدم الحاجة لتقديم المواعظ والحِكم , وذلك لأن السرد يظهر كل ما هو ممكن ومتخيل، وإن حصل ما هو عكس ذلك فهو زيادة وحشو يضعفانه ويؤثران سلباً في بنية المسرود و ينشأ من هنا الضعف في تركيبته. وللسرد صيغ متنوعة فيمكن أن يروى شفهياً أو كتابة أو حواراً أو أن يكون عن طريق الصور والإيماءات وقد يقع أيضاً بصيغ فنية مبتكرة أخرى، سينمائياً ومسرحيا..الخ.فحسب رولان بارت السرود لا حصر أو عدَ لها. مجموعة ربيع عودة ، التي قدم لها القاص ” قصي الخفاجي” تتألف من قسمين ، ضم القسم الأول(12) موضوعاً و هذه يمكن أن تقع في منطقة القصة القصيرة جداً. لكنها تتجه إلى المتلقي بسهولة ودون توازن في هذا النوع. فعبر الحبكة المنظمة والومضة المفتوحة يمكن خلق قصة قصيرة جداً. والثاني(6) وتقع في ما سماه عودة بالـ(نصوص)، و هي اقرب لمدونات يومية مشغولة بما تراه وتتفاعل معه ذات المُدون، دون رؤى إبتكارية. وعلى العموم فان(بيت العصافير) بلغتها المبسطة لا تبدو قريبة من منطقة القص الفني بل هي تقع في منطقة المنثور مع أنها تحمل ثيمات يمكن أن تتطور بشيء من الجهد والتعب والفطنة وعبر الانتقالات الفنية المنظمة و دون سرعة نفض اليد عنها،لما يعرف بالقصة القصيرة جدا، حتى أن ربيع عودة أحياناً لم يوضح الإشكال في ما يذكره في البداية ويقر في النهاية عكسه، ففي نصه (موديل)،مثلاً، يرد في الصفحة( 18) :” مثل بجعة يدفعها الأثير، ممسكة ابنتها الصغيرة التي تجاوزت- الحلم- بقليل ” لكنه في الصفحة(20 ) يذكر كونها “امرأة عصرتها عنوسة السنين، أسقطت من بين أناملها – قلم شفاهها الأحمر”، دون معرفتنا لمن وجه وعنى به خطابه الأخير، أما القسم الثاني فهو أشبه بالسير لبشر مزقهم الاستبداد والظلم الاجتماعي واللاعدالة وقسوة واقعهم، فذهبوا حالمين بحياة مليئة بالأحلام إذ يتحول كل شيء عندهم إلى الممكن عبر الحب الشخصي. (بيت العصافير) انعكاس متماثل مع حياة وتوجهات القاص (ربيع عودة) والمعروف في الوسط الثقافي البصري بالبساطة والطيبة والدماثة والابتعاد عن المثاقفة التي لا معنى أو جدوى لها أو منها، ونصوصه تحاول الإفلات من وضعه الاجتماعي القاسي ومعاناته التي يتجاوزها عبر لغة نثرية بسيطة و جميلة، لكن دون تعقيد الأفكار والرؤى وحمولتهما. وضع القاص (قصي الخفاجي) في مقدمته للمجموعة عوالم (ربيع عودة) تحت المجهر وقام بتشريحها، ومنها أن (ربيع) “منغمر في انشغالاته على الصوغ المنهمك بتشكيل الجملة المشتعلة بسطوة الجمال”. لكن، الخفاجي، يحسب ربيع عودة قريب من جيل الستينيات ، الذي تميز بثورته على الموروث الأدبي والفني والسياسي وحتى الأخلاقي، دون أن يبحث في الظروف والأوضاع العامة والخاصة التي كانت خلف ذلك. ونرى أن الفنان سواء أكان قاصاً أم شاعراً أم تشكيلياً أم مسرحياً، لا يقاس ما يطرحه بزمن ولادته وانما بتنوع قدراته وإمكاناته الفنية والفكرية- الخاصة في ما يقدمه من نتاجات، مهما كان عمره. كما يؤكد الخفاجي أن ربيع عودة” ليس معنياً بالسرد السائد حداثياً”. ويذهب الخفاجي في مقدمته لتحليل الجملة القصصية لدى ربيع عودة فيرى أنها تعود “إلى ما قبل الريادة العراقية والعربية، وهي في (بيت العصافير) تنتمي إلى بدايات عهد النهضة الفنية التي بزغت على الساحة العربية في مصر ولبنان والعراق”.لكن جملة (ربيع عودة)، تنفرد بكونها تنتمي إلى تلك الروح المفعمة بالتوجه الرومانسي المفقود في زمن الضواري الراهن الذي يطبق على حياتنا. في بعض نصوص (بيت العصافير) ثمة ما يطلق عليه (بالبورتريه) في التشكيل من ناحية التجسيم وايلاء السمات الخاصة اهتماماً مخلصاً في تأكيد خصوصية المُهدى له النص كما في(جلَّ…نار) الذي يهديه إلى القاص(ناصر قوطي) وكذلك(طيور) و المُهدى إلى القاص (ياسين شامل). والمجموعة بكليتها تشعل الحنين إلى زمن لن يتكرر و تسرب منا ، من خلال إهدائها إلى أستاذنا القاص الرائد محمود عبد الوهاب. محتويات (بيت العصافير) تقدم نفسها عند لحظة كتابتها، ولم يسعَ (ربيع عودة) لإعادة النظر فيها ثانية وتشذيبها أو الإضافة لها، وهي محاولة لاستعادة زمن مضى ولن يستعاد قطعاً، و تحاول مراقبة ضياع الإنسان وقيمه بندم وحسرة ولوعة ومرارة، و ما تفتقده (بيت العصافير) هو عدم الاهتمام بحياة القاع الاجتماعي وتطلعاته الإنسانية البسيطة المشروعة، والذي يعيشه ويواجهه وانبثق منه بتحدٍ، القاص (ربيع عوده) والذي هو الراوي الوحيد والعليم في (بيت عصافيره).
* دمشق- 2013 / اتحاد أدباء وكتاب البصرة- الغلاف: ياسين شامل