ليس ضرورياً أن يكون الأنسان عميلاً بالمعنى المعروف للعمالة كي يؤدي الخدمات المطلوبة، يكفي أحياناً نوعاً من الأتفاق الودّي لتبادل المعلومات كي يصبح أكثر أهمية من أكبر العملاء.. هذه العبارة ذكرها مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم، ولكي نفهم المنهاج العام للسياسة الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص علينا أن نفهم أصول اللعبة، تضم اللعبة مجموعة من اللاعبين كل واحد فيهم يحاول الفوز طبقاً للأحكام الأخلاقية المعترف بها بين الدول الداخلة في اللعبة، ففي العلن هم مع حرية الشعوب الكاملة في الأختيار وقمع إرادة الشعوب في تقرير مصيرها يعتبر مستهجناً، وفي السر لاقيمة للمستويات الأخلاقية المعترف بها في الأمم المتحدة واللعبة ميكافيلية بأمتياز، وعندما تكون اللعبة بين الكبار يجلسون على الطاولة والعالم أمامهم مثل رقعة الشطرنج وزعماء العالم الثالث ليس أكثر من بيادق يفوز فيها الأكثر ذكاءاً ومهارة، ومرة أخرى تتحول اللعبة إلى لعبة لصوص فقد يكون الحظ إلى جانب معتوه أو مختل العقل أكثر مما هو إلى جانب أمهر اللاعبين الأستراتيجيين، ففي كل لعبة توجد مناورة وخدعة ولكنها تزداد خطراً في لعبة اللصوص.
ولنضرب مثالاً حيّاً يقارب ما يحدث اليوم في العراق من مظاهرات هي قصة الأنقلاب العسكري على مصدق في إيران، ففي عام 1951م تم انتخاب مصدق رئيسًا لوزراء إيران من قبل الشعب الإيراني الساخط على الاحتلال البريطاني، وكانت أولى قراراته بعد شهر واحد فقط من توليه الحكم، هي تقليص صلاحيات الشاه وتحجيم سيطرته على مجريات الأمور، وتنفيذ قرار البرلمان بتأميم النفط الإيراني ونزعه من أيدي البريطانيين، غضبت بريطانيا أمام هذا التحول الجديد، وفورًا شنت حملة دولية ضد مصدق اتهمته فيه بسرقة ممتلكاتها وطلبت من المحكمة الدولية والأمم المتحدة أن يعاقبوه، وقامت بتجميد الأصول الإيرانية في الخارج، ولجأت إلى تحريك بوارجها الحربية إلى الخليج العربي، وفرضت حصارًا خانقاً أدى إلى تدمير الاقتصاد الإيراني فلم تسفر هذه الضغوطات عن نتيجة تُذكر، ولم تتغير سياسات مصدق أمام هذه الحملة الدولية، ووقف الشعب بجانب سياسات مصدق الوطنية، لأن مصدق أخبرهم منذ بداية الأمر عن الصعوبات التي ستواجه التأميم، سدّ الشعب الإيراني كل السبل البريطانية للتراجع عن قرار التأميم، مما ألجأ بريطانيا إلى التفكير في تدبير انقلاب عسكري تقليدي على مصدق، لكن مصدق استطاع أن يكشف خطة البريطانيين مبكرًا، فأغلق السفارة البريطانية في عام 1952م، ورحَّلَ جميع المسؤولين والدبلوماسيين البريطانيين من إيران ولم يتبق منهم أحد لتنفيذ الانقلاب.
حينها ضاقت السبل أمام بريطانيا فهرعت إلى العم سام من أجل التخلص من مصدق، وتقابل مسؤولون بريطانيون مع مسؤولي المخابرات الأمريكية المركزية CIA وتم الاتفاق على العمل المشترك من أجل الإطاحة بمصدق، على أن توزع ثروات إيران بين بريطانيا والولايات المتحدة بدلًا من استئثار بريطانيا بالحصص النفطية وحدها.
أرسلت الولايات المتحدة ضابط المخابرات كيرميت روزفلت، وهو حفيد الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت، لقيادة عملية الانقلاب على مصدق التي سميت بالعملية أجاكس وكان ضابط الأرتباط لـ CIA نورمان شوارزكوف والد قائد عاصفة الصحراء الجنرال نورمان شوارزكوف التي حررت الكويت عام 1991 وصل روزفلت إلى البصرة ومعه مليون دولار، ثم ركب سيارة تكسي وذهب إلى إيران سرًا تحت اسم مستعار (وات بريدج)، وعندما وصل إلى طهران كانت أول مهمة قام بها هي مقابلة الشاه لمناقشة تفاصيل العملية أجاكس، استخدمت ال CIA أسلوب الرشوة لشراء ولاءات معلقي الأخبار والصحفيين والسياسيين ورجال العسكر ورجال الدين المرتبطين بالشاه لأصدار فتاوى ضد مصدق وكل من يستطيع تحريك وتثوير الجماهير، وتشمل العملية أجاكس أربعة خطوط من الهجوم، أولًا: إدارة حملة إعلامية منظمة وبروباجندا متواصلة ضد مصدق في المساجد والصحافة والشوارع لتحجيم شعبية مصدق، ثانيًا: ستتحكم العصابات في الشوارع لإثارة الشغب والاضطرابات، ثالثاً: سيسلم الضباط العسكريون البيانات الملكية إلى مصدق لإزاحته من السلطة، رابعًا: توفير بديل لمصدق وهو الجنرال زاهيدي الذي سيرقيه الشاه إلى مرتبة رئيس الوزراء.
امتدت الحملة الإعلامية ضد مصدق إلى كافة ربوع الدولة الإيرانية، وفي بداية آب 1953م كانت طهران تشتعل، نظمت العصابات المدعومة من المخابرات الأمريكية بعد أن زرعت عملائها معهم مظاهرات مؤيدة لمصدق، وعلى امتداد المظاهرات كان هؤلاء العملاء يقومون برمي الحجارة والتعدي على الممتلكات الخاصة والمساجد وعلى رجال الدين، كما أوعز روزفلت إلى كبير الأشقياء في طهران وقتذاك شعبان جعفري بالسيطرة على الشارع، وإطلاق الهتافات التي تحط من هيبة مصدق وحدثت اشتباكات عنيفة في الشوارع وحرقت المساجد والصحف وخرج آلاف المتظاهرين من أجل نهب المحلات، وسرقة الممتلكات الخاصة، وإطلاق الرصاص على المدنيين، وانضم الشيوعيون والقوميون المتحمسون إلى تلك المظاهرات وخلفت الأشتباكات ما يقرب من 300 قتيل، وكان الغرض من هذا الأمر هو إظهار مصدق بصورة الرجل العنيف الذي يحارب الدين والحريات، وتعميم شعور الضجر بين الشعب الإيراني جراء أحداث الشغب لعدة أيام متواصلة، وخلق انطباع جمعي أن طهران قد خرجت عن السيطرة وأن حكومة مصدق لم تعد قادرة على التحكم في الوضع.
بعدها تم تقديم طوق النجاة لإيران في صورة عودة الشاه عبر حشد شعبي ضخم في اليوم الرابع لمعارضة مصدق وحكومته، وهذا ما حصل بالفعل، ففي يوم 19 آب عندما رأى المواطنون المظاهرات المؤيدة للشاه لا تنهب الممتلكات ولا تخرب المحلات، تعاطفوا معها ورأوا فيها أناس محترمين أفضل من غوغاء الأيام السابقة، فانضموا إلى المظاهرات، ومن عجائب التخطيط الأمريكي في ذلك اليوم هو أن المظاهرات المؤيدة للشاه بدأت بعروض استعراضية من الرياضيين والمصارعين والبهلوانات والمشعوذين والمهرجين، كل ذلك من أجل جذب المارة، ثم أُزيلت الاحتفالات الكرنفالية ورُفعت شعارات تأييد الشاه وبدأت العصابات في الهتاف باسم الشاه.
وفي خضم هذه الأحداث الملتهبة تم اقتحام بيت مصدق وحكم عليه بالسجن، وعاد الشاه إلى دياره بعد أن كان هاربا في إيطاليا، وعمت الاحتفالات شوارع إيران ابتهاجًا بانتصار الحرية والإرادة الشعبية، كلَّفت عملية الأنقلاب فقط 750ألف دولار وأعاد روزفلت 250 ألف دولار المتبقية من المليون إلى CIA، وصار لأمريكا نصيب الأسد من النفط الأيراني بعد أن كان لبريطانيا نصيب الأسد.
لعبة الأمم كانت وما زالت وستبقى منهجا يتجدد في السياسات الخارجية للدول العظمى، ويعتبر العراق أولها وأكثرها إغراءاً لأنه دوله أنهكتها الحروب وذو حكومة غير محبوبة، بسبب الهوة الكبيرة بين طبقتين الأولى أقلية تتمتع يالمال والسلطة تحكم الفئة الكثيرة التي أعيتها الحرب وأفقدتها حقوقها في بلدها العراق.
وأعتقد ليس المطلوب ان لا يكون العراق جزءا فعالا في السياسات الدولية ،بل أن يوظف الظروف الدولية لصالح الهوية الوطنية الواحدة المفقودة طيلة عقد ونصف مضت ، وهناك من يسعى لأن يلعب العراق دوراً إقليمياً تتضارب فيه مصالح دول معروفة، وتحويله الى مناصرة طرف على طرف اخر، في معادلة الغالب والمغلوب ويعتمد هذا على حسابات غير عراقية، ولا تصب بالضرورة في خانة مصالحنا الوطنية، ولربما تجعل من العراق كياناً هشاً امام استحقاقات كبرى لا مناص للخروج منها باتجاه المصلحة الوطنية، لكن هذا التحليل في حسابات اجندات الأحزاب، ومعطيات المواجهات التي حصلت مع الإرهاب الداعشي ، تجعل بوصلة السياسة العراقية تأخذ اتجاهات دون أخرى، فيما تاريخ العراق القريب والبعيد يؤكد وكذلك تحذير المرجعية الدينية من لعبة أمم جديدة في عراق.