في ضوء خطابات ومقترحات وحلول رئيس الوزراء بات من المؤكد أن الرجل قد أفرغ كل ما في خزاناته من الوقود ولم يعد ينفع ضخّ المزيد لتحريك عربة الحكم المتهالكة . لكنّ المشكلة أنّ الرجل ما زال مقتنعاً بسلامة العربة ، وبإمكانية تحريكها سواء بالوقود المحلي أو بالوقود المستورد أو بالنفخ أو باستجلاب دافعين من الخارج . وهو في قناعته هذه على خلاف مع المتظاهرين الثوار الذين يحاولون منذ شهر إقناعه من دون جدوى بأن المشكلة في العربة ، وليست في الوقود فحسب ، فما بالك إذا كان الوقود مغشوشاً أصلاً . وجراء هذا الخلاف في الرؤى بين الفريقين فإن شباب الانتفاضة سيستمرون في ثورتهم ليس من أجل إصلاح العربة المعطوبة ، بل باستبدالها بأخرى جديدة وقادرة على اجتياز طرق المستقبل المتعرجة والمليئة بحفر الكائدين وأحجار المتآمرين . ومهما كان ثمن تلك العربة الجديدة ، فالشباب دفعوا أرواحهم – وليس أغلى من الروح – لتحقيق هذا الهدف ، وأن الأحياء منهم لن يعودوا إلى بيوتهم دون تحقيقه . ولعل تحقيق هدف التغيير الشامل يتحقق بواحد من السيناريوهات الأربعة :
ألسيناريو الأول : أن يتقدم رئيس الوزراء طوعياً بالاستقالة ، وتجنيب الوطن المزيد من الدماء والخسائر ، وهذا السيناريو يبدو أكثر السيناريوهات استحالة ، فالرجل لا يملك قراره بيده ، لأنه يبدو مرتهناً لقوى خارجية وداخلية تُملي عليه قراره ، فهو الواجهة المعطلة ليد خفية فاعلة ، ولا أريد أن أبخس الرجل حقه إذا ما قلت أن موقعه هذا أوجب للتعاطف والرثاء منه إلى الإدانة والاستنكار ، فحاله كحال الرئيس الجزائري السابق ( بوتفليقة ) الذي كانت الدولة العميقة تمسكه – بالرغم من شلله – بكرسي الرئاسة ، وتحكم من ورائه البلاد .
ألسيناريو الثاني : وهو سيناريو الإنقلاب العسكري ، وهو أسوأ السيناريوهات ، ومن حسن الحظّ أن احتمال تحققه هو الأبعد من بين السيناريوهات الأخرى في ضوء العقيدة العسكرية للجيش الجديد ، وحصر تدريب وتعليم قياداته بالأكاديميات والمعاهد العسكرية الوطنية مما يجعلهم بمأمن من الإطلاع على تجارب العالم الإنقلابية ، ويحول دون انفتاحهم على تاريخ الثورات الشعبية .
ألسيناريو الثالث : وقد تتعاطف وحدات أساسية فعالة من القوات المسلحة مع المتظاهرين ، وتتضامن معهم ضدّ ما يتعرضون له من قمع دموي بأوامر مركزية عليا ، مع ملاحظة أن هذه الوحدات هي أيضاً على المستوى الإنساني تعاني حالها حال المتظاهرين من النتائج الكارثية للفساد والنهب وانعدام العدالة وتكافؤ الفرص ، وكذلك من شيوع ظاهرة الإنفلات الأمني وهيمنة القوى الشبحية والخضوع للإرادات الخارجية . وقد ينجم عن حالة التعاطف أن تتماهي القوات المسلحة بكاملها مع الشعب ، وتُباشر عصيانها للقرار الرسمي ، والتوقف عن تنفيذ أوامر القمع ، وخروجها من صفوف القامعين ، والانضمام إلى صفوف المقموعين ، فاتحة بذلك طريق مسير الثوار باتجاه مراكز القرار ومواقع السلطة في المنطقة الخضراء ، مع احتمال أن تؤدي خطوة كهذه إلى تعاظم وتوسع بؤرة العصيان لتتحول نتيجة هذا السيناريو إلى ذات النتيجة الدموية لسيناريو الإنقلاب ، وكلاهما سيعيدان التذكير بتبعات الأحداث المؤسفة وغير المحسوبة لثورة 1959 . وقد يبدو هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً ، في ضوء يأس الشارع التام من احتمال تحقق إي اختراق في جدار الأزمة ، وفقدان الثقة بالحكومة وبالقوى السياسية الفاعلة ، وفي ضوء الإصرار على الخيار الأمني والقسوة المميتة في مواجهة الثوار .
ألسيناريو الرابع : وهو أن يُبادر رئيس الوزراء بنفسه إلى كسر قيوده التي كبله بها مرتهنوه ، وقيادة انقلاب مباغت ضدهم ، وضد حيتان الفساد الكبرى ، وضد الدولة العميقة ، مسنوداً بالجيش وبالمتظاهرين والعشائر والمرجعية ، وبكل قوى وفعاليات المجتمع المدني . وهذا السيناريو هو الأنجح والأسلم للبلد وللحكومة إذ سيعيد الثقة المفقودة بها ، ويرفع رئيسها إلى مصاف القادة التاريخيين . ولكن هذا السينارية في الوقت ذاته لا يعدو أن يكون احتمالاً طوباوياً صعب ، بل مستحيل التحقيق ، فليس من المعقول أن يثور رئيس الوزراء على نفسه ، وكذلك ليس من المعقول أن يثور على الذين نصّبوه في موقعه .
وما بين كل السيناريوهات المرئية والخفية يظلّ الثوار هم السيناريست الوحيد الذي سيكتب قصة الثورة ، وقصة نجاحها . أما القامعون والمتربصون والمتزحلقون على الأمواج فلن يُمنحوا فرصة أخرى لإعادة تمثيل دور جديد في سيناريو الحل الأخير .