في الوثائق التي تسربت بخصوص الدور الايراني في العراق، أو على الأقل تلك التي وصلت للمهتمين بالأمر، كان مثيراً للدهشة والغضب أنّ المسؤولين الايرانيين الذين يمسكون بخيوط اللعبة في الملف العراقي لم يكونوا يوجهوا أية أوامر الى القيادات العراقية (شيعياً وسنياً وكردياً) بل كانوا يطلبون بأدبّ جمّ من قادة المنطقة الخضراء إداء خدمات لصالح الجمهورية الاسلامية. اللهم إلا في حالة واحدة حدثت بعد انتخاب الدكتور حيدر العبادي رئيساً للحكومة إذ كانت لهجة سفير ايران لدى العراق )إيرج مسجدي( واضحة وحاسمة ضد العبادي معتبراً إياه عميلاً بريطانياً، دون أن يشير الى أية اثباتات تدين الدكتور العبادي. وهذا ليس بغريب عن السيد مسجدي الذي هو أحد رجال الحرس القديم وعميد في الحرس الثوري ونائب سليماني في فيلق القدس وينظر بشكّ وريبة الى كل المحايدين أو الخارجين على الوصاية الايرانية.
أما ما تبقى من الوثائق فتشير الى أن رجال المنطقة الخضراء كانوا يسارعون بمحض ارادتهم الى طلب “بركات” الوليّ الفقيه ورضاه. هذه ظاهرة تستحق الدراسة! من العادي أن تجد خونة يبيعون مصالح شعوبهم لقاء بعض الامتيازات، أو بسبب تعرّضهم الى الابتزاز من مخابرات دول أخرى، ولكن أن تكون الخيانة بهذا الاتساع وذلك الحجم في روح التطوّع ولا يُستثنى منها كبير ولاصغير فذلك أمرٌ خطير.
من الواضح أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي تبنّى سياسة انقاذ ما يمكن انقاذه من عهد سلفه بوش الابن وانسحابه السريع في ليلة ظلماء من العراق ترك الباب مواربةً للايرانيين لوضع اليد وحصاد الثمار التي اينعت بعد غياب الراعي الأمريكي.
ثمّة سؤال يتّم مناقشته في أوساط الباحثين في الشأن العراقي عن مقدار حظوظ السياسيّ العراقي وامكانيات صعوده الى قمة هرم السلطة في حال عدم وجود ظهير أجنبي داعم لذلك السياسيّ!
مما لاشكّ فيه أن السياسيين العراقيين الذين قادوا الحالة (ولا أستطيع تسميتها الدولة لافتقادها للكثير من اُسس الدولة) يحتاجون في الوضع العراقي المهزوز الذي يشبه الجلوس على قمة بركان قد يثور في أية لحظة، الى دعم خارجي مالي ومعنوي وعلى صعيد فتح الطرق التي لا يمكن إلا لجهات مخابراتية أن تفتحها. ولكن أن يتلقى السياسيّ دعماً من دولة أخرى شيء – ربما ضمن حدود تبادل المنفعة دون التفريط بمصالح البلد – وأن يتطوّع سياسيّ ما أو موظف كبير مدنياً كان أو عسكرياً لفتح كافة الأبواب لجهة أجنبية شيء آخر تماماً. راجع الفقرة الخاصة بمندوب اللواء حاتم المكصوصي (مدير الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع العراقية) الذين أبلغ مسؤولين ايرانيين في اجتماع عُقد في كربلاء 2014 أنّ رئيسه حملّه رسالة يقول فيها لهم: نحن في خدمتكم وأي شيء تحتاجونه سنوفره لكم…!
هل يعتبر السادة – والسيدات – الذين دشنوا مواسم الحجيج الى طهران أنّ ما فعلوه يتنافى مع الروح الوطنية؟ أو يتعارض مع شرفهم الشخصيّ أو الوظيفي أو العسكري؟
الآراء هنا ليست ذات قيمة، لأن القانون العراقي يعاقب بالاعدام على تُهم أقلّ من تلك المذكورة في الوثائق المُسربّة. والصفحات السبعمائة التي تمّ تسريبها ونشرها في موقع The Intercept وتشاركَ في نشرها مع صحيفة نيويورك تايمز في آن، لا تُشكلّ صدمة لمواطن الشارع العادي في العراق الذي تعوّد على معايشة النفوذ الأيراني في بلاده ورضيّ مرغماً – تحت عوامل عديدة منها خطر التعرض للتصفية الجسدية من ميلشيات متنفذّة تابعة لإيران إن تجرأ وتجاوز الخطوط الحمر واعلن معارضته العلنية لنظام الوليّ الفقيه.
ولكنها تشكل بلا ريب صدمة حقيقية لجميع اللاعبين الدوليين “الكبار” في الساحة العراقية، الذين أضاعوا الكرة واستفاقوا فجأة ليجدوا أن الفريق الخصم اشترى المحكميّن واللاعبين حتى أولئك الذين يجلسون منهم على مقعد الاحتياط.