إن أبرز ما جاء به التغيير الكوني في 2003 هو استعادة الذات العراقية المستلبة بفعل التسلط المقيت الذي مورس لعقود طويلة من الزمن كادت أن تمّحي فيه شخصية العراقي في داخل البلاد فضلاً عن وجوده. وأشك أن اثنين يختلفان في ما تمتع به العراقي من حرية، كان يائساً من تحققها لدرجة الخنوع، حينما تهاوت أصنام الطغيان، معلنة عصراً جديداً، ظنناه إلى عهد قريب عصر النور والحرية والخير والرفاه والرقي والتقدم… وأول ما مارسه العراقيون من كل ذلك هو الحرية.. الحرية الحلم البعيد المستحيل.
فالحزب الواحد أصبح بفضل الحرية جمعاً غفيراً من الأحزاب المتناقضة والمتفقة والمتحاربة والمتآلفة، والمنشورات السرية بليلة وضحاها تحوّلت إلى مئات الصحف والجرائد والمجلات المتنوعة الاهتمامات والموضوعات، والممنوع أصبح مباحاً، والرقيب صار أباً يبارك الحراك الثقافي، ويدعم التجمعات والمؤتمرات والندوات، تعال وقل، قل ما شئت وإن لعنتني، وافعل ما شئت وإن فقأت بأصبعك عيني. وكل ذلك من نعم الحرية ومن بركات الديمقراطية الوليدة في بلد اعتاد السوط وألِف المقاصل… وكل ذلك تقبّله العراقيون بشئ كبير من الفرح وقليل من الخوف والقلق. وارتضوه لأنه قل أو كثر، فاض أو انحسر، كان بعيداً عن الدم. الدم الذي غشّى نواظرنا لونه المعتم، وأصمّ آذاننا هديره الصاخب.
والفضائيات العديدة واحدة من نِعَم الحرية.. فقد وفرت للناس التعرف على وجهات النظر المختلفة، من خلال ما تعرضه من تقارير وأخبار ولقاءات وتعليقات وتحليلات. وأصبح للعراقيين اكثر من وجهة نظر في الموضوع الواحد، كما أصبح لهم متبنيات ومواقف مختلفة، لم نشك أنها ستثري الحراك السياسي والثقافي في بلد اعتاد أن يرى كل شئ واحد.. فالرب واحد والقائد واحد، والموقف واحد، والرأي واحد، والمنطلق واحد والمنتهى واحد. نعم إنها من نِعَم الحرية.. أن تتعدد الأشياء، و” اختلاف أمتي رحمة “……. و ” ما يزالون مختلفين “.
كل ذلك حسن.. لكن أن يصل الاختلاف للدم والقتل، وبيع الأرواح في دكاكين الفضائيات، ليس حسناً.. وليس معقولاً.. وليس من الحرية.. وليس من الوطنية.. وليس من القومية، وليس من الدين ولا من الإنسانية.
وبعض الفضائيات العراقية للأسف الشديد مارست ذلك تحت شعار حرية التعبير، متجاهلة تماماً ما يمكن أن تؤدي إليه مداخلاتهم وتعليقاتهم وتحليلاتهم غير البريئة. في استدراج متعمد ومقصود للشعب المقتول ، ليُقتَل من جديد في فتنة عمياء طاحنة، لا أشك أنها لن يربح بها أحد، حتى من أيقظها. نعم إن الإعلام يعتاش على الوقائع الجارية.. ونعم أن الوقائع فيها شئ من الطائفيات، ونعم أن بعض القادة السياسيين في بلدنا، يحاولون استغلال الوقائع الطائفية لإنجاز مكاسب سياسية.. نعم ونعم.. لكن ما دور الإعلام في ذلك؟ هل واجبهم أن يمهدوا ويصعِّدوا. وهل هذه هي رسالة الإعلام الإنسانية الشريفة؟
أن الفضائيات التي تركز على الجانب الطائفي في الخلافات السياسية هي فضائيات عوراء، تنظر بعين واحدة، ليست غافلة، بل متغافلة عن الجوانب المضيئة والمشرقة في حياة المجتمع العراقي اليوم، على كافة الأصعدة، فضلاً عن الصعيد الأثني. وأعتقد أن وعي الشعب العراقي وحبه للتعايش كفيل بإسقاط كيد الفضائيات، وقطع حبال الفتنة التي تلفها هذه الفضائيات على رقبة العراق والمنطقة.
[email protected]