أنا العراق ُلساني قلبهُ ودمي *** فراتهُ وكياني منهُ أشطارُ
1- مدخل إلى رحاب الجواهري :
بعد تدقيقنا الدقيق ، وتحقيقنا الحقيق ، بما لا لبس فيه إلا التصديق ! إنّ شاعر العرب الأكبر محمد مهدي بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ عبد علي بن الشيخ محمد حسن المرجع الديني الكبير في عصره (1)، والشهير بـموسوعته الفقهية (جواهرالكلام ) ، وإليه ومنها يعود نسب العائلة الجواهرية الكريمة ، أقول ولد شاعرنا العبقري في السادس والعشرين من تموز عام 1899م / 1317 هـ (2) ، في محلة العمارة بالنجف الأشرف ، وأوصلت المعلومة إليه عن طريق صهره الأستاذ صباح المندلاوي في أواخر عمره المديد ، وعلى ما قال لي أنه أقرّها ، لذلك انتشرت من بعد ، وكلّ من ذهب إلى غير تاريخنا لميلاده المدون – على أغلب الظن – لم يحالفه الصواب ، وذهب مذهب جواهرينا في إصراره على التصغير ، والكبير كبير ! ، ثم ماذا؟!! وأنا أتجول في صحن السيدة زينب بريف دمشق الشام غروب يوم الأحد 27 تموز 1997م ، فجعت بسماع نبأ وفاته ، وكانت فجر ذلك اليوم؛ بل صدمت ، لا من حيث ما ستقوله لي : إن الموت حق ٌّ ، وحكم المنية في البرية جارٍ ِ، وقد بلغ من الكبر عتيا ، لا تحرجني عزيزي ، أنا أتفهم هذه الأمور ، ولست بغافل عنها وعنك ؛ وإنّما لأن الرجل” مالىء الدنيا، وشاغل الناس ” قرنا من الزمان، بضجّه (الضمير للقرن) وضجيجه ، وعجّه وعجيجه ، وبؤسه ونعيمه ، وقضه وقضيضه ، أيّ أنه عاش في هذه الحياة ما يقارب ضعف ما قضاه المتنبي ابن كوفته فيها ( 303هـ – 354 هـ / 915 م – 965 م ) ، وأكثر من ذلك عمراً شعريا ، ونتاجاً أدبيا ، ولو أن المقارنه تعوزها الدقة العلمية ، والنظرة النقدية – كما تعرفون وأعرف – لكن استعارتي لمقولة ابن رشيق القيرواني في (عمدته ) عن المتنبي في حق الجواهري ليس عبثا ، وليس أيضا من السهولة بمكان، أنْ يحلّ محله – أي محل الجواهري – إنسان ، أوشاعر فنان في آخر هذا الزمان ! إلا ما شاء الله … نعود إلى الصحن ، والعود أحمد ؛ أخذت برهة أتأمل أحوال الدنيا وأحداث العصر، ومصير الإنسان، الغافل الولهان، إذ يتربص به الموت ، ويلاحقه القدر، وهو سرحان ، لحظات فلسفية عابرة ، وما الفلسفة كلـّها إلا ” تأملا للموت ” على حد تعبير آفلاطون ، وراود ذهني حينها بيت الجواهري الرائع، وحكمته البالغة في الرصاقي بعد أن استحال إلى تراب (3) :
لغز الحياة وحيرة الألبابِ *** أنْ يستحيل الفكر محض ترابِ
وربطت البيت بقصيدة المعري الشهيرة الخالدة في رثاء أبي حمزة الفقيه ( غير مجدٍ..) ،خصوصاً البيت التالي ، وأنا أسير على أرض مقابر قد دثرت ، ثم كسيت :
خفـّفِ الوطء ما أظنُّ أديمَ الأرض ِ إلا من هذه الأجسادِ
خففتُ الوطء ، وردّدت مع نفسي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ثم رفعت رأسي إلى السماء , كمن لا يريد أن يتجرع هذا المصير المؤلم – في حساباتنا – للإنسان ، وعادت بي الذاكرة إلى سنة 1971 م ، ووقفت مع مكابرة الجواهري ، وهو يرثي عبد الناصر :
أكبرت يومكَ أنْ يكونِ رثاءا *** الخالدون عرفتهم أحياءا
الله أكبر و أكبر على كل حال ، والجواهري نفسه لاريب من هؤلاء الخالدين ، وله خصوصية مميزة في وجدان العراقيين ، ونفوس المثقفين منهم ، فهو محل فخرهم ، وعنوان أصالتهم،وعنفوان فروسيتهم :
أنا العراق ُلساني قلبهُ ودمي *** فراتهُ وكياني منهُ أشطارُ
وبلا شعورأخرجت ورقة كانت بجيبي ، أحتفظ بها للحظات الفكرالخاطفة الهاربه، وسللت القلم الحسام، وهمهمت وحدوت وحسمت الأمر بـ (الكامل ) ، وبأبيات ارتجالية ثلاثة :
عُمْرٌ يَمُرُّ كَوَمْضَـــةِ الْأحـْـــــلَام ِ *** نَبْضُ الْحَيَاةِ خَدِيْعَة ُ الْأيَّـــــام ِ
هَلْ نَرْتَجِي مِنْ بَعْدِ عَيْش ٍخَاطِفٍ ***أنْ نَسْتَطِيلَ عَلَى مَدَى الْأعْوَام ِ
أبَدَاً نَسِيْرُ عَلَى مَخَــاطِر ِ شَفْرَة ٍ *** حَمْرَاءَ تَقْطِرُ مِنْ دَمِ الْآنـَـــــام
ِ
تم ذهبت إلى شقتي في ضواحي مدينة دمشق الزاهرة، وعملت القهوه ، وبتُّ ليلتي ، ودخّنتُ عدة سكائر ، وواصلت مشوار قصيدتي مستلهما شعر الجواهري ، وذكرياتي والأيام ، وما في اللاوعي من ( أفلام )! ، وأكملتها بعد يومين أو ثلاثة ، بعد تجوالي في شوارع الشام الفسيحة ،وساحاتها الفارهة ، وحدائقها الغناء منفردا ، فتمّ لي منها اثنان وثمانون بيتا ، ودُعيت للحفل التأبيني الذي أقامه المثقفون العراقيون بدمشق في الثاني من شهر آب ( 1997م) ، وكانت القصيدة العمودية الفريدة المشاركة ، وشارك فيه كل من الباحث هادي العلوي ، والدكتور عبد الحسين شعبان ، والكاتب عامر بدر حسون ، والشاعر زاهر الجيزاني ، وختم الحفل نجل الفقيد الدكتور فلاح الجواهري نيابة عن العائلة الكريمة ، وكان عريف الحفل الشاعر جمعة الحلفي ، ونشرتها عدة صحف عربية وعراقية بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته, منها( تشرين ) السورية ، و( الوطن ) العراقية الصادرة من دمشق وغيرهما ، ثم نشرت في العديد من المواقع الكبرى والرصينة.
نكتفي بهذا القدر الوافي من المدخل للجواهري الشافي .
2 – الجواهري … على أعتاب ذكرياتي ….
عجيبٌ أمركَ الرجراجُ *** لا جنفــــــاً ولا صددا
تضيقُ بعيشــــــةٍ رغدٍ *** وتهوى العيشةَ الرغدا
وتخشى الــزهدَ تعشقهُ *** وتعشـــقُ كلَّ من زهدا
ولا تقوى مصـــــامدةً *** وتعبـــــدُ كلَّ من صمدا
لا أستطيع استيعاب الجواهري بأجمعه ، ولا الإلمام بكليته ، هذا محال…!! ،آلا وهو الجواهري و الجواهري – أنت سيد العارفين – قضى قرناً من الزمان في هذه الحياة ، القرن العشرين كلـه – أو كاد – من ألفه إلى يائه ، ووضع نيفاً وعشرين ألف بيتٍ من الشعر ، وأنا القائل : ( عشرون ألفاً صُفّفتْ أبياتها ) ، ثم ماذا ؟ لا يوجدعندي – الآن في غربتي – مجموعة ديوان الجواهري سوى ( ذكرياته ) ، الجزء الأول ، وذكرياتي عنه ، ومما قرأت منذ طفولتي المبكرة حتى شيخوختي المتأخرة !!، وأزعم معظم ما كتب عنه وأكثر !! وأيضاً مما حفظت من أشعاره، وهذه الشبكة العنكبوتية جنبي بغثـّها وغثيثها! ، المهم أنني أسير على سواحل محيط الجواهري العملاق ، عملاق بمتانة إسلوبه ،وقوة بيانه ، وحباكة ديباجته ، وسمو بلاغته ، ووضوح عبارته ، وحيوية نبضه ، وشدة انفعاله لحظة سكب خوالجه وعوالجه ، وبروز ظاهرة (الأنا) الفنية العالية المحببة سيان بتحدياتها الصارخة، أو عند سكب آلامها النائحة في شعره ، وشعره غزير الإنتاج حتى أنّه بلغ قمة عالية بين شعراء الأمة على امتداد تاريخ أدبها ، فإذا تجاوزنا الشعر الجاهلي الذي دون بعضه القليل بعد قرنين من ظهوره – ولا أقول ولادته ونشأته – ، فما – مما وصلنا – في عصري صدر الإسلام والأموي ما يستحق عنده الوقوف للمقارنة نتاجاً بنتاجه ، إلا أنّ الفرزدق (ت 114هـ ) له حوالي (7235 بيتا) ، وجرير ( أيضا 114هـ)، وله (5640 بيتا) ، فخلفا لنا مجلدات ديوانيهما الرائعين ، نعم ! في العصر العباسي ترك لنا أبو نؤاس شعرأ غزيرا ( ما يقارب اثني عشر ألف بيت ) ، بالرغم من قصر الفترة التي عاشها في هذه الحياة ، على أغلب ظني بين ( 142- 200 هـ ) ، ولا أميل لأي رواية أخرى ، وابن الرومي ( 221 – 283 هـ) ، وصلنا شعره سليماً معافياً أقرب إلى التمام ، فسبق الأولين والآخرين في كثرة النظم ، فبلغ قمة القمم (30515بيتاً) ، وهو غزير ممتع أي إمتاع ، فالرجل قضى حياته شاعراً شاعراً لحظة لحظة ، فما حياته إلا الشعر ، وأسرّكم – من السرّ والسرور !! – والكلام بيننا ، والحديث شجون ، بقى شعره بتمامه ، لأن الرجل كشخصية على قد حاله ، لم يهتم ولم يبالِ به ولا بشعره أحد ، فوصل إلينا أقرب للتمام ، والحمد والشكر لرب العالمين على لطفه الخفي !! و للمقارنة السريعة من بعدُ ، ومن بعدِ جاء المتنبي (ت 354هـ) ، له ( 5578 بيتاً) ، فالشريف الرضي (ت 406 هـ)، له (13832بيتا) ، ومهيار الديلمي (428 هـ )، له ( 22525 بيتاً ) ، وأبو العلاء المعري ( 449 هـ) ، وأبيات شعره ما يقارب (13515 بيتاً ) ، ثم في العصر الحديث ، ونأخذ تاريخ الوفاة بالميلادي ، للظروف المرحلية ، لأحمد شوقي (ت 1932م) حوالي ( 11336 بيتاً) ، وخليل مطران (ت 1949م)، وله (23187 بيتاً ، لم ندرج الشعر التالف أو المتلوف ، ولا شعرالملحمات الدينية ، أو الأرجوزات التعليمية، فالجواهري – مما يتضح على الأغلب – يأتي ضمن الأسماء الخمسة الأوائل في غزارة الإنتاج من بين كل شعراء العرب منذ عصرهم الجاهلي إلى يومهم هذا .
3 – ” ذكرياتي ” بين يدي …!!
مسكت الجزء الأول من كتاب (ذكرياتي ) لجواهرنا الجواهري ، وقلبت ورقتي العنوان فإذا به صدر ذكرياته بمقولة لحكيم صيني تقول :” وُلدوا فتعذّبوا فماتوا ” ، لابدَ أن هذه الفكرة راودته فترة طويلة ، بل تخمرت في ذهنه ، وزُرعت في دمه حتى آمن بها قناعة لا تتزعزع ، فجعلها الكلمة الأولى لكتابه الموعود ، ولكن… جزما ، أبعاد المقولة ، واتجاهاتها الفكرية ، وفلسفتها الحياتية، متابينة في عقلي الرجلين ، فالتطابق محال ، ومدلولها واسع على أية حال ، وله أن يحلل أبعادها كما يشاء ، و (ابن الرومي ) ( ت 283هـ / 896م) ، قد سبق الرجلين بما ذهبا إليه :
لِما تؤذن الدنيا به من صروفها ****يكون بكاء الطفل ِساعـة ّ يولدُ
وإلا فما يبكيـــــــه منها وإنـّها **** لأفسحُ مما كــــــان فيهِ وأرغدُ
إذا أبصر الدنيا أستهلَّ كأنّـــهُ******بما سوف يلقى من أذاها يهدّدُ
وللنفسِ أحوالٌ تظلّ كأنـّــــها ***** تشاهدُ فيها كلَّ غيبٍ سيشــــهدُ
المهم وُلدوا نعم وُلدوا ، وإنما الولادة هل هي قدر محتوم ، مقيدة في سجل معلوم ، أم عقبى ملاقحة عابرة لمصادفة غابرة ؟ ، فالرجلان تركا لغز وجود نائب الفاعل في المبني للمجهول لتعليل العقول ، والعقول حقول ! ، وعلى العموم ، الحياة لم تعطِ عهدا للحكيم الصيني ولاللشاعرالعربي ، ولا لغيرهما ، كيف ستكون ، ولا تبالي بأحدٍ كي تقول له : ممنون !! سُعد أم تعذب ، والمسألة فيها نظر ، فالحياة لذة وألم ، صحة وسقم ، رخاء وعدم .وصاحبنا هو الأدرى بذلك ، ففي قصيدته (سجين قبرص) ، يطل علينا بقوله :
هي الحياة ُ بإحلاءٍ وإمرار ِ*** تمضي شعاعاً كزند القادح ِ الواري
أمّا في حكمته الصينية ، فواضح لي ولك ، ما أراد من المفرادات الثلاث إلا ( فتعذبوا) ، لماذا ؟ لأنه – بغريزته الفنية – رام ما لا يُستطاع إليه سبيلاً ، جمع النقيضين اللذة والثورة ، الحنان والرفق بالخاصة، والحقد والألم من أجل العامة ، وطلب من زمنه – كمتنبيه – ” ما ليس يبلغه من نفسه الزمن” ، فوقع في صراع الأضداد ، وطغى على شعره التشاؤم ، والكآبة ، وعدم الرضا ، والتبرم :
عجيبٌ أمركَ الرجراجُ *** لا جنفــــــاً ولا صددا
تضيقُ بعيشــــــةٍ رغدٍ *** وتهوى العيشةَ الرغدا
وتخشى الــزهدَ تعشقهُ *** وتعشـــقُ كلَّ من زهدا
ولا تقوى مصـــــامدةً ***وتعبـــــدُ كلَّ من صمدا
ومنذ ثورة النجف على الأنكليز ( 1917م ),وحصارها الشهير – وثورة العشرين من بعدها – ، وكان حينها شاباً يافعاً ، ارتسمت في ذهنه صورة لا تـُمحى، تخيلها شاخصة بعين الآخر ، وعكسها إلينا من فوران دمه الذي لم يبرّده غليله ، ولو بعد عشر سنوات منها ، اقرأ معي ما يقوله في قصيدته ( الدم يتكلم ) :
لو سألنا تلك الدمــــــاءَ لقالت ** وهي تغلي حماسة ً واندفاعــا
ملأ اللهُ دوركم من خيـــــــالي *** شبحاً مرعباً يهزُّ النخــــــاعا
وغدوتم لهول ما يعتريـــــــكم *** تنكرون الأبصار والأسمـاعا
تحسبون الورى عقاربَ خضراً ** وترون الدروب ملآى ضباعا
والليالي كلحاءَ لا نجمَ فيـــــها *** وتمرُّ الأيـــــام سوداً سراعا
هل هذه الرؤية المتشائمة ،هي رؤية الإنسان الجلاد المرتعب الخائف للإنسان الثائرالمنتفض المستشهد – والعكس صحيح في معادلة صراع الحياة – أم نظرة الجواهري السوداوية المستديمة المتأملة والمتألمة للحياة كلّها على طول الخط ؟ القضية تطول , وما انا بدارس , ولا باحث في حياة الجواهري ، وشاعريته وشعره ، وإنما نظرات عابرة على أعتاب (ذكرياته) ، وأعني عدّة أوراق ، سبقت فصوله المفصلة , مهما يكن من أمر, ما تنتظر منه أن يرى الدنيا بعد مصرع أخيه جعفر في معركة الجسر ( 27 كانون الثاني 1948م) ، غير ما ذكره عنها موريا بكلمة (جسر ٍ) من النكد في (تنويمته للجياع ) ، التي نظمها بعد ثلاث سنوات ( آذار 1951م) من الحدث الجلل ؟ :
نامي فما الدنيا سوى *** “جسر ٍ” على نكدٍ مقام
ِ
و أترك إليك محيط الجواهري لتغوص فيه مراراً وتكراراً ، لقد خلفنا الموت خلفنا ناسين أو متناسين، والموت حقٌّ لا ينسانا ، قدم إليهما، فاستقبلاه مرغمين طائعين ، أو كما يقول جواهرينا :
وأنَّ الحياةّ حصيدُ الممات *** وأنَّ الشروقَ أخو المغربِ !
وقفا الرجلان عنده حيث وقف العقل المحسوس المحدود من قبل ، وكان يعنيان شأن الحياة الدنيا ، وما عساهما أن يفعلا غير ما فعلا ، الجواهري – ولا أدري بالآخر – بطبيعة الحال يكثرمن ذكر الله في شعره ، وتـُعدُّ قصيدته عن الإمام الحسين (ع) من أروع الشعر العربي ، والرجل ليس بحاجة إلى شهاداتنا، ولا يحفل بها ، فلماذا الإطالة ؟!! الآن صرخ في أذني ببيتين من الشعر ، هازّاً بيديه مستهزئاً ! :
دعِ الدهر يذهبْ على رسلهِ***وسرْ أنتَ وحدكَ في مذهبِ
ولا تحتفـــلْ بكتاباتـــــــــهِ *** أردْ أنتَ مـا تشتهى يُكتبِ !
ثم أردفني هامساً مع نفسه ببيت قاله في ثمانياته (نيسان 1986م) ، ومضى إلى رحمة ربّه :
اللهمَّ عفوكَ إننّي برمٌ *** ولقد يُدسُّ الظلمُ في البرم ِ
إذاً رجاء اقلبْ ورقة الحكمة ، واقرأ الإهداء الذي كتبه الشاعر بخط ّ يده اعتزازاً وتقديراً واهتماماً وحبّاً : ” أُهديه إلى من هم أعز علي من صفو الحياة إلى كلِّ مَن ودعّني من أهل بيتي وإلى كلِّ مَن اقام ” .
وضعت لك خطـّاً تحت الجملة التي أروم التأمل فيها (بين هم والحياة ) ، فالشاعر رغم التشكي والتبرم والتشاؤم ، بل حتى الكآبة المرسومة على تقاطيع وجهه ، هو رقيق الطبع جداً ، كشاعر مرهف الحسِّ ، يفيض قلبه بالحنان والحب ِّ، والعاطفة الصادقة :
جربيني منْ قبل ِأنْ تزدريني *** وإذا ما ذممتني فاهجـريني
ويقيناً ستندمين علــــــى أنّكِ *** منْ قبلُ كنتِ لــمْ تعـرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي *** وتقـــاطيعهِ جميعَ شــؤوني
أنا لي في الحياةِ طبـعٌ رقيقٌ*** يتنافى ولونَ وجهي الحزينِ
ومن الطبيعي أنْ يكون أهله الأقربون أقرب إليهِ من حيث معاملتهم بالرّقة واللطف والحب ، فهم الأغلون، ففكرة (الإهداء) مختزنة في وعيه لأهله ، ووردت في مقدمة ديوانه المطبوع عام (1961م) ، حين كتب قائلاً : ” إلى قطع متناثرة من نفسي هنا وهناك …أهدي ديواناً ، هو خير ما أهديته في حياتي كلـّها ، وقد لا أقدر أن أهدي إليهم شيئاً بعده ” ، و ( صيغة الإهداء ) – أيضاً – ليست بجديدة على ذهنه ، وكان قد ضمنها في قصيدته (بريد الغربة ) ، التي نظمها (1965م) ، وأرسلها إلى أهله في العراق :
ويا أحبابـــي الأغليـــن***منْ قطعوا ومَن وصلوا
ومن هم نخبةُ اللــذات***عندي حيـــــــن تنتخلُ
هُمُ إذْ كلُّ من صــافيت *** مدخــولٌ ومُنتـــــــحَلُ
سلامٌ كلـّــــــــــهُ قبـــلُ ***كأنَّ صميمــــــها شغلُ
وشوقٌ من غريبِ الدارِ***أعيــتْ دونـهُ السّـــــبلُ
ولهذه الإشكالية المعقدة بين الخاص والعام ، وأعني بين خصوصياته العائلية الأصيلة والمتينة بروابط حبها الجارف من جهته على الأكثر ، وعلاقاته الإجتماعية المتميزة و المتماسكة لمنزلته الأدبية الرفيعة ، وبين المهمات الصعبة الملقاة على عاتقه عرفاً وطبعاَ لإثارة العقل الجمعي الواعي … كم يجب تقدير وتثمين مواقفه الجريئة ، وتضحياته الكبيرة إبان شرخ شبابه ، ونضج كهولته ، ولكن في شيخوخته – من سنة 1972م – أُثيرَ موضوع صمته واغترابه، لأغراض عديدة ، ودوافع متعددة ، اغتاض منها فردَ عليها – والشاعر ليس بكاتم غيض – متحاملاً على من تحامل ، ومعللاً بتخريجات عامة على من تساءل ، والعجيب أن ردوده تحمل في طيّاتها الانتقادات الواضحة والمباشرة، للمواقف المتخاذلة دون ذكر الأسماء ، وينتقد ! وتعجبني من ردوده (1977م) هذه الأبيات الرائعة :
قالوا سكتَّ وأنت أفظعَ ملهـبٍ *** وعي الجمــوع ِ لزندها، قـدّاح ِ
فعلامَ أبدل وكـــرَ نسر ٍجامـح ٍ*** حردٍ بعشِّ البلبــلِ الصـــــدّاح ِ
فأجبتهم :أنا ذاك حيثُ تشابكتْ ***هامُ الفوارس تحتَ غابِ جناحيِ
لكنْ وجدتُ سلاحهمْ في عطلةٍ ****فرميتُ في قعرِ الجحيم ِ سلاحي
وقد يعذر من يعذل ، ومن التفتَ وحلـّل بواطن (أعز علي من صفو الحياة ) ، يدرك أنه – إبان الحروب العبثية والمجانية – كان يخشى على المتعلقين به ، والمخصوصين لديه من أفراد أسرته ، داخل العراق وخارجه ، بل حتى على نفسه ، من سطوة نظام لا يعرف للرحمة معنىً ، وشيخنا لم يرَ من حقـّه أن يتجاوز الخطوط الحمراء لأرواح ومصائر غيره ، وبلا ثمن ، ثم ما جدوى التهليل لهذا أو ذاك من المتحاربين أوالمتصارعين ، قال الأبيات التالية – وفيها إشارة إلى أبنائه – من قصيدة ساخطة على الأوضاع ، داعية للوحدة الوطنية ولمِّ الشمل على سبيل مقارعة الظلم والإرهاب ، وجهها إلى صديقه السيد جلال الطالباني في (10/12/ 1980 م) ، أي بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية بثلاثة أشهر ، إثر رسالة من الأخير إليه، يحرضه فيها على التغني بالنضال :
يا صاحبي – ويموت المؤمنون غداً – ***وخالدٌ صدقُ قــــــولٍ ناصفٍ زَمِنِ ِ
حتـّى كأنّي – وأشبـــالي – بعيدهـــــمُ *** عُفـْرُ الأضاحي من المنحورةٍ البُدُن ِ
وكنتُ منهم كمصلوبٍ على وثـــــــن ** ضحى على ربّــــــــهِ يوماً ولم يدن ِ
فلـــنْ أغني بأعـــــراس ٍ مهلهلــــــةٍ *** ولنْ أنوحَ علــــــــى موتى بلا ثمن
ِ
والبيت الأخير واضح ومبين، فلا تضحية بلا ثمن ثمين ، يعود مردوده للشعب والملايين ، هذا رأيه , وربما لك رأي , لا أطيل عليك , والإطالة إفادة ,إذا كان الوقت لديك يتسع , فالحديث عن الجواهري ممتع ، رويدك – يا صاحبي – ما بقى لديَّ في هذه الحلقة إلا قصيدته ( برئت من الزحوف )، نظمها الشيخ المشرف على التسعين في حزيران براغ سنة (1985م) ، إذ صكَّ سمعه أخبار منتقديه ، بل شاتميه , لموقفه الصامت من الحرب الرعناء ، وتعالت حواليه الأصوات المنتمية من هذا وذاك ، وهاجت عليه الأقلام المسيسة من هنا وهناك ، وهرعت إليه سائلة عن سرِّ سكوته على هؤلاء وأؤلئك، فأجابها بإنسياب قافية شجية :
وســــائلةٍ أأنتَ تـُـسبُّ جهراً ** ألسـتَ محجَّ شبان ٍوشيــبِ؟
ألستَ خليفة َالأدبِ المصفـّى ** ألسـتَ منارةَ البلدِ السّليب!؟
أيسرحُ شاتموكَ بــلا حسيبٍ **وتسمعُ من هناكَ بلا نسيبِ!
أقولُ لهـــــا ألا أكفيكِ عبئـاً ** ألا أ يكِ بالعجبِ العجيــبِ!؟
لقدْ هجتِ اللواعجَ كامنــاتٍ ***وقدْ نغـّرتِ بالجرحِ الرغيبِ
برئتُ من الزحوفِ وإنْ تلاقت **تسدُّ عليَّ منعطفَ الـدروبِ
زحوفُ “الرافدين”فقدْ تهزّتْ **بهنَّ مزاحـفُ البلــدِ الغريبِ
برئتُ من الزحوفِ بدونِ حول*سوى قـُبُلِ الحبيبِ على الحبيبِ
لتسلمهُ إلى وبش ٍخسيس ٍ****ومرتكبٍ ومشـــــبوهٍ مــريبِ
إلى صُحفٍ تسفُّ بلا ضميرٍ** سوى ما دُسَّ منها في الجيوبِ
برئتُ من الزحوفِ مجعجعاتٍ ***تخلـّفُ سكتة ّالموتِ الرهيبِ
مباحٌ عندهنَّ دمـي لذئـــبٍ *** ولا أسدٌ يبيـــحُ دمـــــــاً لذيبِ
وأُنبَذ ُ بالعــراءِ بلا نصير ٍ***** نبيل ٍأو أديـــبٍ أو أريـــــــبِ
بيت القصيد المفيد ما قبل الآخير ، وخلاصة القول ” ولا أسدٌ يبيحُ دماً لذيب ِ” ، هل اقتنعت يا قارئي الكريم ، أم أنّك تهزُّ رأسك حائراً بين الرفض والقبول ، لك ولي ما نقول ، وله : أعزُّ عليَّ من صفو الحياة !! وإلى الملتقى ، فالموضوع ما انتهى سبيلا….وكفى بالله وكيلا!
4 – الجواهري بـ “ذكرياتي” بين إجابة قلبه وزبد صدره…!
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
ودّعتك على أمل اللقاء بك وعداَ ، ووعد الحرِّ دينً عليه ، سأواصل المسيرة ، وهذا مشوار العمر أخيره ، ولو أن العين ضريرة ، لكن الذاكرة بصيرة ، ليست هذه بشكوى ، وإنّما هو التّحدي لأي نائبة من نوائب الدهر صغيرة كانت أم كبيرة ، ولعن الله كلّ من باع ضميره !!!
هذا ” ذكرياتي” بين يدي ، قلبت ورقة الإهداء، فإذا بصورة الجواهري إبان مطلع شبابه تصافح عيني ، بجبته وعباءته ونحافته وعمّته ، واقفاَ باعتدال قامته الشامخة ، سابلاّ يده اليمنى على كرسي بجواره، وواضعا يده اليسرى عليها ، لا تبدو على ملامحه نظرات التحدي ، وتعبيرات التصدي ، وإن كان في شعره غيره في صورته ، مما يعطيك انطباعاً ، أن الرجل في الأصل طبعه الهدوء والسكينه والوداعة والألفة الطيبة ، والعلاقة الحميمة ، وما الثورة والتمرد والهيجان إلا حالات عابرة تنتابه بين حين و آخر ، إثر موقف جماهيري، وصدمة قوية ، أو عقبى انفعال شديد وحادث جلل ، وغالبا ما يسكبها شعرا مبدعا ،أو يكتبها نثرا رائعا ، وعندما يأتيه الإلهام الشعري ” أشبه إلى الوحي” فيضاً ، ينعزل منفردا ، ويغضب على من يأتيه قاطعا ، حتى أنّ أروع قصائده ( يا دجلة الخير ) نظمها في ليلة براغية واحدة !! .
وقبل أنْ أقلب ورقة الصورة المعممة ، تأملت قليلا متسائلا عن سرِّ اختيار هذه الصورة من بين آلآف الصور التي أخذت له كشخصية شهيرة ، طيلة عمره المديد ، ألم يقل ذات يوم بحقها ؟! :
قال لي صاحبي الظريف وفي الكفّ ***ارتعاشٌ وفي اللسان انحبــاسه :
أين غــــادرتَ “عمّة ً” واحتفاظــــاً ***قلت : إنّي طرحتها في الكناسه
عضضت على شفتي ، وقلت ربما الأمر عابر ، وورد على باله خاطر ، لا بأس الصورة معبّرة و عابرة ، وله ما يشتهي ويتشهّى ، غلقت الكتاب ، فوقع نظري على غلافه الأخير ، فإذا بصورة ثانية للجواهري المعمم تحتله كاملاً ، وهذه المرّة واضعا نظارته على عينيه ، واقفا بشموخه المعتاد ، ويبدو أكثر هيبة ووقارا ، وأكبر عمرا ، قلت مع نفسي لآتصفح الكتاب ، فوجدت صورة ثالثة على الصفحة 173 تشغل حيزها تماما ، إذاً الأمر مقصود لرغبة نفسية جامحة عارمة ، تنطلق من اللاوعي المكبوت، وربما يدعمها وعيه بحدود ، ولا اعرف بالتأكيد ما كان يدور في مخيلته إبان طفولته المبكرة ، إذْ تتراكم العقد في العقل الباطن للإنسان ، فهل كانت العمامة لديه ترمزالى وقار أبيه ، أو علم جده صاحب الجواهر،أو جذور عائلته ، أم انّها تمثل عمائم عمالقة الشعر ، عمامة المتنبي العظيم ، وعمامة العبقري الخالد ابن الرومي ،وعمامة أبي العلاء الشاعر الفيلسوف العتيد؟ ولم أذكر عمامة الشاعر الشاعر الفنان المبدع البحتري ، لعلمي أنّ الجواهري يعشق شعر الأخير، لريشته الفذة ، وزجالته الرائعة ، ويكره شخصيته لإنتهازيته الفجة ، المهم لا يهمني كثيرا ما قال ، أو ما لم يقل الجواهري بهذا الشأن ! فانا لا أعيد ” ذكرياته” ، وإنّما أسجل انطباعاتي على أعتابها ، ولكن بالتأكيد هذا التغيير في لباسه ، سيان لعمامته بطاقيته ، أوغترته – الوشاح الأبيض الطويل الذي ارتداه إبان فترة سجنه – أم لعباءته و جبته بطاقمه ورباط عنقه … لا يعبرعن دهاءٍ سياسيٍّ ، ولا عن نفاق ٍ اجتماعيٍّ ، ولا هم يحزنون، لأن ببساطة القول الشاعر العملاق لم يخلق لهذه الأشياء ، فهو أكبر منها ، وأعرف بها ، والبيتان اللذان قالهما في مدح الملك فيصل الأول، ليشير فيهما إلى حسن تمرسه في السياسة ، و ألمعيته في الدهاء – وهما يحملان الضدين المدح والقدح – لا ينطبقان على الجواهري نفسه ، بأي شكل من الأشكال ، أو حال من الأحوال ، اقرأ معي وتمعن ! :
لبّاس أطوار ٍيرى لتقلب الأيّــــــــام ِ مُدّخراً سقاط ثيابِ
يبدو بجلبابٍ فإن لم ترضْه **ينزعْهُ منسلاً إلى جلبـابٍ!!
لم تفتني الأبعاد المجازية ، والصيغ البلاغية للبيتين ، كما تتوهم ، بل ألعب اللعبة نفسها ، رجاء تابع معي ، الرجل خلع عمامته ، لا كرهاً لها ، ولا سخطاً عليها ، ولا تخلصا منها ، وله أن يطرح صورتها المزيفة في الكناسة بجلسة عبثية ، وإنـّما ابتعادا عنها ، نشداناً لحريته ، وتكيفاً لبيئته ، واحتراماً لخلفيته ،وإلا فهي مخبؤة في دمه ، مزروعة في وجدانه ، فاعادها إلى مقامها ، وارجعها إلى هيبتها، متباهيا بها ، فهي الشعر وإصالته ، والتاريخ ومهابته ، والكلام وبلاغته ، هذا ما تقوله لي أعتاب ” ذكرياتي” ، وإنْ خُفيت الأمور على الجمهور :
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
الآن قلبت ورقة الصورة ،ووصلت إلى ورقة تحمل عنوان ( المقدمة ) ، والبيتين الموجعين :
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
البيتان من قصيدة ما بعدها قصيدة في الروعة !! فإنْ كانت (يادجلة الخير ) رمزالحنين والشوق ومناجاة الأوطان ، و(أخي جعفر) عنواناً لجرح الشهيد، ودم الثائر …، أمّا هذه فهي منتهى صدق ما تبثُّه النفس البشرية من مكنونات أليمة مكبوتة ، تقطع نياط القلب ، بجرأة متناهية في عصر ٍلا يرحم ! قال عنها الجواهري نفسه هنا ( الجواهري ينتصر للجواهري ) ! وكتب إلى مجلة الديار اللبنانية ، التي نشرتها في عددها المؤرخ (15 – 21 أذار 1976) ، قائلا : ” آخر ما لدي، ومن أعزُّ قصائدي إلي ” ، حصل من خلالها الشاعر على جائزة ( اللوتس ) العالمية لسنة 1975م , فاقامت جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف حفلاً تكريميا له بالمناسبة ، وذلك مساء الخميس ( 2 / 11 /1975م) في قاعة الاجتماعات التكريمية ، وألقى الشاعر قسماً منها ، فعدد أبياتها (124) بيتاً ، فإليك عدّة أبيات ونعقب :
ولا تحفلْ فشــقشـــــقة ٌ**مشتْ لكَ أنْ تجيش غدا
ولا تكبتْ فمِــــن حقبٍ *** ذممتَ الصبرَ والجــلدا
أأنتَ تخافُ مـــن أحدٍ *** أأنــــــــتَ مصانعٌ أحدا
أتخشى الناسَ أشجعهمْ ***يخافك مغضبـــــاً حردا
ولا يعلــــــوكَ خيرهمُ *** ولستَ بخيـــــرهمْ أبــدا
ويدنو مطمحٌ عجـــبٌ *** فتطلبُ مطمحا بَـــــــعدا
ويدنو حيثُ ضقتَ يداً ** وضعتَ سدىً وفاتَ مدى
أفالآنَ المنى منــــــحٌ *** وكانتْ رغـــــــوة ً زبدا؟
وهبكَ أردتَ عودتــها ***وهبكَ جُهــــدتَ أن تجـدا
فلستَ بواجدٍ أبـــــــداً ***على السبعين مــــــا فقدا
صفق الجمهور هنا كثيرا ، ودعوا له بطول العمر، أريدُ منك أنْ تتساأَل معي، وتساعدني على الإجابة, لماذا كان يكبت الجواهري، ويصبر حتى ذمم صبره والتجلدا؟! وممنْ كان يخاف شيخنا فيصانعه حتى سكب لوعته مستنكراً حرداً على نفسه؟! ومن هو أشجع الناس الذي كان يخاف الجواهري إذا غضب؟! ومن هو خيرهم الذي لا يعلو شاعرنا منزلة ؟!!
والقصيدة طويلة ، ولا أريد أن يغلب شعرُهُ مقالتي، وينجرف القارىء الكريم معها ، ويتركني منفردا ، وينسى في غمرة النشوة لذة الفكرة ! ديوانه متوفر وافر ، والقصيدة من مجزوء الوافر ( مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) ، عروضتها صحيحة ، وضربها مماثل لها ، ويعتري أبياتها جوازات الوافر ، ومعظمها من زحاف القضب ، وهو حسن ، تتحول فيه ( مفاعلـَتن) الى ( مفاعلـْتن) ، بإسكان الخامس ، فتصبح التفعيلة (مفاعيلن) ، واختار الجواهري ، أو انطلق – على الأصح – من اللاوعي ، هذا – أو من هذا – البحر السريع المتلاحق – يأتي في المرتبة الثانية بعد الكامل في سرعته – لبث همومه المتراكمة كسيل جارف للأحقاد و الإعلام الزائف ، وما ألف إطلاق قافيتها الاّ دليل الشموخ والانطلاق للمارد العملاق !
أزحْ عن صدركَ الزّبدا***وهلهلْ صادحاً غردا
وخلِّ البـــومَ ناعبــــة ً ** تقيء الحقدَ والحسدا
بمجتمــع ٍ تثيرُ بـــــهِ *** ذئابُ الغابـــةِ الأسدا
بهمْ عــــــوزٌ إلى مددٍ ***وأنتَ تريدها مــــدد
ا
كفى من القصيدة مددا ، وبعد انتهاء الحفل العائلي النجفي ، والتكريم المعنوي ، وكعادة أهله الأصيلة ، ورفقته العريقة ، دهدى بيتين من الشعر، كأنهما عند سامعيه جوهرتان من الدرّ:
مقــــامي بينكمْ شكرُ **ويومي عندكمْ عمرُ
سيصلحُ فيكمُ الشـّعرُ** إذا لـم يصلح ِالعذرُ
ونحن نعتذرإليك،ونرجو أن يصلح الأمر ، ففي الإطالة مللٌ ، وفي الترقب أملٌ ، والجواهري لا يمُلُّ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم النجفي ، ولد في النجف الأشرف بحدود 1192هـ / 1778م (تختلف الروايات في سنة ولادته)، وتوفي فيها سنة 1266 هـ / 1850م ، ودفن في مقبرتهم الشهيرة قرب الصحن الحيدري الشريف ، تزعم الحوزة ، وكان المرجع الأعلى للطائفة الامامية في جميع أنحاء العالم , اشتهر بموسوعته الفقهية الاستدلالية ( جواهر الكلام ) ، أنجب من الذكور ثمانية ، كلهم خلفوا إلا الشيخ حسين ، إذ توفي شابا قبل الزواج ،والعائلة الجواهرية ترجع بكنيتها ، ومجدها وشهرتها إليه.
(2) هنالك روايات تجعل ولادته في 17 ربيع الأول سنة 1317 ه ـ لذلك عزفت عن ذكر الشهر واليوم لعدم تيقني تماما من صحتهما.
(3) توفي الرصافي 1945م ، وقال الجواهري بيته في ذكرى الرصافي 1959م .