التبريرات والأقوال التي اوردها المؤرخون وكتاب السير كثيرة. ولكن دعونا نبحث عن المرتكز الرئيسي الذي حدا بالإمام الحسن بن علي (رضي الله عنه وعن أبيه) لإتخاذ قراره التاريخي في التنازل عن الحكم والخلافة؟، وهل ثَمّة خيارات أخرى؟، أم كان هذا هو الخيار الصحيح والوحيد امامه؟.
1- قالوا: ﺇن بعضًا من عِلية القوم القريبين منه، لم يكونوا خالصي الولاء له، بل غالبا كانوا عبئاً عليه بدل أن يكونوا مؤيدين وناصرين، كانوا مذبذبي المواقف، لا يُعتمد عليهم. لايرضون عن اي والٍ، ولا أي قائد، ديدنهم الجدل والاعتراض. وهذا شأنهم من قَبل مع أبيه علي ابن ابي طالب (رضي الله عنه) بل ومع الولاة في زمن عثمان (رضي الله عنه). ونقول: هذا السبب منطقي، ولكن أمير المؤمنين ألآن وقد تسنم منصب السلطة. فهو المسؤول عن ﺇصلاح ألأوضاع، فان كان هؤلاء من حاشيته فعليه تلافي الخلل واصطفاء الأخيار، والعمل على تنقية وتطهير الحاشية ممن ليسوا أهلاﹰ للثقة. قبل الإقدام على اي خطوة عسكرية مصيرية، فيما لو كان يبيت الحسم العسكري.
2- وقالوا: ان أهل العراق (الكوفة) قد بايعوه بيعة لا ﺇخلاص فيها،. فهم أهل باطل أصحاب نفوس متمردة، (والحديث هنا عن واقعة تاريخية محددة وليس التعميم). وإنما بايعوه نكاية بأهل الشام ليمنعوهم من مبايعة معاوية، بعد ان خلا منصب الخلافة باغتيال امير المؤمنين علي. ونقول: ان كان هذا هو المراد فإنه لم يتحقق لهم ما أرادوا طويلًا، لكثرة خلافاتهم، ومخالفتهم لأمرائهم. وكان الأجدى بهم الرضى بنعمة الله التي وهبها لهم في تولية ابن بنت رسول الله، الصحابي الجليل ذو الحلم والرأي الرشيد.
أمّا ان كان الحسن (رضي الله عنه) لا يثق في اتباعه ومبايعيه من أهل العراق، فكان الأولى به التحول عنهم والعودة بالعاصمة الى حَمَلَة الراية الحقيقيين في المدينة منطلق هذا الدين. أو ربما الى مكة، او اليمن، وسيجد قطعًا الناصر والمعين المُحِب المُخلص.
3- وقالوا: ان الخوارج كانوا خطرًا متربصًا بالخلافة، ولن يتوانوا عن مهاجمة العاصمة والاستيلاء عليها. ان سنحت لهم الظروف. او ربما عمدوا الى اغتيال الخليفة نفسه، كما فعلوا في اغتيال ابيه من قبل. وأنّ إنشغال أمير المؤمنين بهم، له عواقب وخيمة، وهدر لطاقات الأمة التي يفترض ان تُوفَر لمواجهة أهل الشام. فهل ينشغل بهم ام يتحد مع خصمه السياسي؟. فأي الخيارين امامه أسلم وأحكَم؟. فاختار الحسن أخف الضررين. أو افضل الخيارين.
4- وقالوا: ان نسبة كبيرة من جنده ليسوا موضع ثقه ولم يكن يثق في ولائهم له، ولا يمكنه الاعتماد عليهم في مقاتلة خصومهم من أهل الشام. ولصفاتهم هذه، كره جنده ومقتهم ورغب في الخلاص منهم. وهذه السبب له وجاهة. ولكن كان بإمكانه ﺇصلاح ألأوضاع. فان كان هنالك خلل في جيشه فعليه اعادة الهيكلة، والعمل على تنقية وتطهير جيشه ممن ليسوا أهلاﹰ للثقة. أو على الأقل عدم اصطحابهم معه للقتال.
كما كان بإمكان الإمام التمهل قليلًا في مواجهة اهل الشام ريثما يتم غرس العقيدة القتالية في مذبذبي جيشه، واصطفاء قطعات النخبة المخلصة. فدولته كبيرة ممتدة في الشرق والغرب ولن يضيره مرحليًا تمرد اهل الشام المنحصر داخل حدودهم ما داموا لم يبادروه بقتال.
مصداقًا لوجود قطّاع من جنده ليسوا موضع ثقة. تأمل هذه الحادثة والمعاناة التي واجهها الإمام من عسكره هؤلاء في أجواء الاستعداد للحرب والمواجهة مع جُند الشام:
كان قيس بن سعد بن عبادة ومعه اثني عشر الفًا من المقاتلين، على الطليعة المتجهة الى الشام متقدما على القطعات الأخرى للجيش، التي يقودها امير المؤمنين الحسن، والتي عسكرت قرب المدائن في طريقها الى الشام. فأحس بعض العساكر، ان حمية القتال لدى الإمام فاترة، وليست كما يشتهون، وانه قد يلجأ الى السلم والصلح مع جند الشام. فأطلقوا (شائعة) ونادى مناديهم في العسكر: ان القائد قيس بن سعد قد قتل!. فنفروا!. ولكن كيف؟. والى أين؟. لقد نفروا على انفسهم في فوضى عارمة. وعادوا الى طبيعتهم في التمرد والتذبذب. فانتهبوا متاع بعضهم البعض. وهجموا على قائدهم أمير المؤمنين واجتاحوا سرادقه (خيمته) وجردوها من كل محتوياتها وسرقوا متاعة ونازعوه حتى على البساط الذي تحته. فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا.(1)
اشاعت الشائعة هزة وتفلت في قطاع من الجيش. إذ من الواضح ان هدف البعض من عسكره ليس الدين والحق والمبدأ. وانما مضوا في الجيش سعيا للمغانم المادية والنهب والسرقة. وآل الأمر انهم إستحلوا دم الإمام، وحاولوا إغتياله حينما شعروا انه لاقتال ولا غنائم، واتهموه بالضعف والخور، فترصد له احدهم (الجراح بن سنان الخارجي) واصابه في فخذه بجرح بليغ. ولكن الله نجّاه. فدخل يحتمي بدار الامارة في المدائن. والتي كان فيها كذلك من يتآمر على خيانته ويفكر في بالقبض عليه وتسليمه الى خصمه معاوية. فازدادت قناعته بعدم المضي مع مثل هذا الجيش ولا مع هؤلاء الأتباع. إذ لا يمكن ان ينتصر بهم في قضية وحق.
كان يقول: “أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهدًا أحقن به دمي، وأومن به في أهلي خير من أن يقتلوني؛ فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلمًا، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير”.(2)
خيارات الحرب، وسجايا الإمام الخُلُقيّة:
أولاً: لقد كان يستطيع المضي بالمشوار العسكري الى منتهاه مهما كانت النتائج والتضحيات. فهنالك العديد من القطعات الكبيرة في جيشه مخلصة له وتأتمر بأمره ومستعدة لتنفيذ ما يأمر به الى أبعد مدى، وعلى رأسهم قوات القائد قيس بن سعد (وكانوا قد بايعوا ابيه على الموت). وهي تطالبه وتحثه باستمرار على مواجهة الشام. وكان تعداد القوات المسلحة بقيادة الامام أربعين الف،(3). وفي بعض الروايات خمسين الف مقاتل أو أكثر،. حتى روي عن الحسن قوله عن قواته: (كانت جماجم العرب بيدي تحارب من حاربت وتسالم من سالمت) (4). فكثير من القطعات مخلصة له. وهو غير هياب ولا متردد ولا قليل عدد. ومع ذلك لم يغتر بما معه من جيوش جراره انما فضّل تجنب اراقة الدماء لأنه اراد الخير للاسلام والمسلمين
ثانيًا: انطلاقه بجيشه وكتائبه فعليًا باتجاه الشام. فقد كان عازما على اخضاع الشام لسلطته، واكمال مسيرة الشهيد أبيه (رضي الله عنه وارضاه)، فلو كان ضعيفا وجيشه مهزوز لما فعل، فقد كانت جبهته قوية وهذا يدحض مزاعم الذين قالوا أن الحسن كان ضعيفاً ومكرهاً على الصلح. فليس هنالك شيء يجبره على الصلح والتنازل، فهو الخليفة الشرعي الشجاع ومعه قوة عسكرية لا يستهان بها. وخيار الحرب والسلم كان بيده.
صراع العقلاء الأقوياء:
روى البخاري عن الحسن البصري في وصفه جيش الحسن فقال: (استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال). وأن معاوية وعمرو بن العاص أبدوا انبهارهم بحجم وقوة الكتائب التي قدم بها الحسن (رضي الله عنه). حتى قال عمرو (إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين “أي معاوية خير من عمرو”: أيْ عَمْرُو إنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَن لي بأُمُورِ النَّاسِ مَن لي بنِسَائِهِمْ مَن لي بضَيْعَتِهِمْ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِن قُرَيْشٍ).(5)
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) ان عدد مقاتلي الحسن كانوا في مجملهم أقل عددًا من مقاتلي معاوية. ولكنه أكّد قدرة الحسن على المواجهة فقال: (كان بمقدور الحسن رضي الله عنه أن يقاتل معاوية رضي الله عنه بمن كان معه … ولكن الحسن رضي الله عنه كان ذا خلق يجنح إلى السلم، وكراهة الفتنة، ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة)(6). وكان تعداد قوات معاوية ستين الفًا. (7)
كل هذه توجهات واسباب موضوعية، أكدت له صحة عزمه ورغبته في الصلح. ولكنها تبقى أسباب مساعدة على درجة عالية من الأهمية، كونها عجَّلت من خطوته الإستباقية، باتخاذه الموقف الحازم في التخلي عن السُلطة.
الدافع الأساسي للتنازل عن السُلطة:
مع عدم اغفال ماتقدم من أسباب موضوعية، هنالك سبب اساسي وجوهري لا يمكن اغفاله يتعلق بشخصية الإمام ذاته. فهو لم يكن شخصية سلبية تؤسره الأحداث، ولا ممن ينصاع بلا رأي للمحيطين به. إنه شخصية قيادية فَذّة، حكيمة وفاعلة. لا تنقصه الشجاعة في المواقف الحاسمة. وقد اثبت شجاعته وإقدامه في احلك اللحظات، وعلى سبيل المثال حين وقف وأخيه الحسين (رضي الله عنهما) بكل إباء وشمم، شاهران سيفيهما يدافعان، مع بضعة من الأقران، عن امير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يوم ان حاصره آلآف من المتمردين في داره، سنة 35هـ. واستبسل الحسن في الدفاع عنه حتى اشفق الخليفة عثمان عليه وعلى اقرانه الذين معه وطالبهم بالعودة الى بيوتهم والكف عن الدفاع عنه.
فقرار التنازل عن السلطة، يجب ان يتمركز الحديث فيه أولا وقبل ايّة اسباب موضوعية أُخرى، عن شخص الإمام ذاته، ودوافعه الخُلُقية، ونبل سجاياه. ثُمَّ يأتي بعد ذلك النظر في الظروف الموضوعية المحيطة به.
مرتكزات الخيار التاريخي الشجاع:
1- الفطرة والنشأة: كان الحسن في نشأته منذ البداية محبا للسلم ميالاً ﺇليه، ولهذا نجده كان يخاطب أباه علياً (رضي الله عنه): وهو يتجهز لحرب اهل الشام فيقول له: (يا أبت، دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال)(8). وعاد مرة اخرى لمخاطبة ابيه وهو في الطريق باتجاه البصرة قائلاً (لقد نهيتك فعصيتني، تقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك)(9).
2- التربية النبوية الشريفة: لطالما شعرالحسن بالأسى لِما حلّ بالأمة من خلاف وانقسام، وما أصابها جراء القتال في السنوات الخمس الماضية، وقد تشبع وجدانيًا منذ صِغَرِهِ بوعد جَدّه (عليه الصلاة والسلام) له، بانهاء الخصومة. فهو يأمل توحيد كلمتي الخصمين من جديد، ورصّ صفيهما. ولذا فهو يتحين الفرصة، لتنفيذ مشروعه الإصلاحي بعزيمة صادقة لعل الله يصلح على يديه بين الفئتين العظيمتين من المسلمين، كما وعده جده (عليه الصلاة والسلام). وإن تطلب منه تقديم تضحية جسيمة كالتنازل عن الخلافة.
3- نية التصالح في صفقة البيعة: لقد وضع احتمالية السلم نصب عينيه منذ البداية. وخطواته التكتيكية التالية توحي بذلك. فقد روى المؤرخ الطبري عن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب؟.(10). وفي الكامل في التاريخ لإبن الأثير فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، ومايريد هذا القتال (11). إذاﹰ، فمنذ البداية تتضح معالم التمرد في نفسية القوم الذين يخاطبهم. فقد استشعروا من البيعة ميله للسلم وليس القتال.
4- تحجيم دعاة الحرب: كان قيس بن سعد اول من بايعه وكان الحسن يدرك تماما ان قيس لا يوافقه الرأي في عزمه على الصلح. فقد كان قيس يحثة على القتال، فلذا نحاه الحسن عن القيادة الميدانية العامة للجيش، وجعله على الطليعة فقط مع اثني عشر الف مقاتل. وعين بدلاً منه عبيد الله بن العباس.(12) وهذه علامة من علامات ارادته للصلح منذ البداية.
5- الظروف الخارجية المحيطة: وهي الملابسات والأسباب الموضوعية العديدة التي أحاطت بأمير المؤمنين الحسن، ساعة توليه الخلافة، والتي تمت الإشارة اليها في صدر هذا البحث.
6- الرغبة في المفاوضات وايثار الآخرة على المغانم الدنيوية: سار معاوية بعساكره، وسار الحسن، حتى التقيا غرب الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة ما معه من الجند وهم في دروعهم يستعدون لضرب أقرانهم من أهل الشام، وما سيترتب على ذلك من دماء غزيرة ستهدر. فهي معركة ليس فيها منتصر. وكيف يطاوعه ﺇيمانه والفريقان مسلمان، فخشي (رضي الله عنه) أن يأتي القتلى (من أي طرف كان) يوم القيامة تشخب أوداجهم، كلهم يشتكي الى اللّه، فيم هريق دمه؟؟، قَالَ ابْن عَبَّاس : سَمِعت نَبِيكُم (صلى الله عليه وسلم) يَقُول: (يَأْتِي الْمَقْتُول مُتَعَلقا رَأسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ ، متلببًا قَاتله بِالْيَدِ الْأُخْرَى ، تشخب أوداجه دَمًا ، حَتَّى يَأْتِي بِهِ الْعَرْش ، فَيَقُول الْمَقْتُول لرب الْعَالمين : هَذَا قتلني ، فَيَقُول الله عز وَجل للْقَاتِل : تَعَسْتَ ، وَيُذْهب بِهِ إِلَى النَّار)(13) ومثل هذا الموقف قطعا يرعب التقي النقي الصالح الحسن بن علي (رضي الله عنه)، فستهدر دماء غزيرة، وهو قادر على ان يحول دون وقوع ذلك، فرغب يقيناﹰ من كل قلبه في حقن الدماء، وايثار الآخرة على الدنيا، حتى ولو على حساب حقه الشخصي، وآثر أن لا يَقدِم على الله تعالى وبرقبته دم لمسلم، فقد تعلم من رسول الله ان حرمة دم المسلم اشد من حرمة هدم الكعبة. فَلِمَ لا يبادر إلى طلب الصلح، ان كان فيه صلاح الأمة.
جاء في البخاري أن معاوية (والي الشام)، هو الآخر تنبه أيضاً الى هذا الأمر حين رأى كتائب الحسن فبادر بطلب الصلح، وقال: (إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم)(14) فبعث إلى الحسن رجلين من قريش هما عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز، يفاوضانه على الصلح. وسواء أكان الحسن من عرض الصلح اولاﹰ أم معاوية، فان هذا يؤكد أن الطرفين كانا غير راغبين في سفك الدماء، وعلى اي حال فكلاهما مجتهد يطلب الحق.
هل كان مكرها ؟.
نجحت المفاوضات وتنازل الحسن، لاعن ضعف وقلة عدد. ولكن عن قوة وعزة نفس، وعن طيب خاطر. فلو لم يكن في طبيعته مسالمًا محبًا للسلم نابذًا للعنف، لذهب في خيار الحرب بلا توانٍ. ولكنه تنازل عن أعلى منصب في الأمة. وترك الخلافة لمن هو قادر على معالجة المرحلة. فكان بحق سيداﹰ كما وصفه رسول الله، فبعمله هذا وحّد صفّ الأمة وحقن الدماء وحقق نبوءة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) التي اعلن عنها يوما حين كان الحسن صغيرا فقال مادحا ومستبشرا به: ( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ )(15) فما قام به الحسن يرضي الله ورسوله. فعلام يمتعض البعض من موقفه التاريخي الخالد هذا؟. ولماذا لا يفخر ويقتدي بموقفه هذا كل حاكم وسياسي ومسؤول؟. ان موقفه هذا انما هو نقلة نوعية هائلة في الإنتقال السلمي للسلطة، وهي بحق خطوة متقدمة على كل الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية.
لماذا تجهز للحرب وهو ينوي الصلح:
وهنا يثار سؤال: ان كان لايفكر بالحرب ولايريد القتال، فلماذا سار بجنده فعليًا باتجاه الشام؟. والجواب على ذلك، مابينه ابن كثير حين قال: (ولم يكن في نية الحسن ان يقاتل احدا، ولكن غلبوه على امره)(16). فلم يكن الحسن متفردًا ولا شموليًا في قراراته وانما كان يؤمن بالشورى والحوار. فالبعض من القوم، وقيادات من الجيش، وخاصة قيس بن سعد (وهو قطعًا من المخلصين، وكان قائدًا مخلصًا لأمير المؤمنين علي) كانوا يُلِحّون على التجهز والمواجهة. بمعنى ان الصوت المرتفع يوم ذاك، كان صوت قرع طبول الحرب. وعلى أي حال، لم يكن في وسعه وهو في أول أمره، ان يواجه اهل العراق وقادة جنده بمشروعه وخطته الإصلاحية. فهو لا يأمن ردة فعلهم، وهو الخبير بهم والعارف بتهورهم وسرعة تقلبهم منذ زمن ابيه. فلم يكن امامه أزاء ذلك إلّا الإستجابة والمسير الى الحرب. وهذه الإستجابة هي في الواقع حركة لتقييم مقدار قناعات جنده واتباعه بما هم قادمون عليه. وهي خطوة منه لتضعهم على المحك، وبها سيستكشف مقدار صدق الموالاة، ومدى انضباط السلوك العسكري لدى اهل العراق.
ثقافة الحرص على الكرسي والسُلطة:
لقد قدم الحسن بن علي (رضي الله عنه وارضاه) للتاريخ من نفسه، نموذجا رائعا لإنهاء الخلاف بين ساسة الأمة، وتنازل عن حقه الشخصي من أجل المصلحة العامة للوطن والمواطن. وجعل الحكم بيد والي الشام معاوية، حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد، وتحقن بهذا التنازل دماء الشعب.
فأين انتم ياساسة المحاصصة!، من القائد الأُسوة والقدوة. لقد كان (رضي الله عنه وارضاه) مستعدًا للتضحية بمنصبه في الحكم من أجل مصلحة الأمة ووحدة الصف. انه المثل الأسمى للحكام في ترك الصراع على السلطة في الدنيا، و طلب ما عند الله محتسبًا الاجر والثواب في الآخرة. إنه اول حاكم في الإسلام يتنازل عن الحكم عن طيب خاطر، ومن موقع قوة. فالكرسي والجاه والسلطة لن تخدع الحسن. فهو أرفع من ذلك وأجَل. انه خير سَلَف وخير مثال، لمن تولوا المناصب من بعده، والى يومنا الحاضر.
الإنتقال السلمي للسلطة، والتنازل الطوعي عنها، ثقافة سياسية حكيمة لمن اراد السير على خطى الصالحين. هذه الثقافة ينبغي ان تكون دستور حياة ودستور وطن. لقد كان الحسن خير معلم للأجيال في الزهد في الجاه والسلطان والملك حين يحقق الزهد صلاح الأمة، ويصون وحدتها، ويحفظ كرامتها، ودمائها. وأي عمل أرجى وأجل وأكرم للمواطنين من حقن دمائهم، وتأمين كرامتهم، والحفاظ على ضروريات حياتهم ومعاشهم! .
المراجع:
1- تاريخ الطبري ج5/159 والكامل 3/5 وابن كثير ج8 ص 14 مكتبة المعارف بيروت سنة 1992.
2- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص9 ط منشورات الشريف الرضى.
3- الكامل في التاريخ لإبن الأثير الجزري 3/271. ط دار الكتب العلمية – بيروت 1987م
4- الحاكم في المستدرك مع التلخيص للذهبي/ كتاب معرفة الصحابة/ ج3 ص 170 ط دار المعرفة بيروت.
5- صحيح البخاري 2704 البداية والنهاية لابن كثير 6/ 219 مكتبة المعارف بيروت سنة 1992.
6- منهاج السُّنة 4/ 536.
7- سير اعلام النبلاء للذهبي ج4 ص75.
8- البداية والنهاية لابن كثير7/230 ط مكتبة المعارف 1992 والكامل في التاريخ لابن الأثير 3/204.
9- البداية والنهاية لإبن كثير 7/234-235.
10- تاريخ الطبري ج5 ص 162.
11- الكامل في التاريخ لإبن الأثير ج 3 ص267. ط دار الكتب العلمية – بيروت 1987م
12- تاريخ الطبري ج5/ص158 وابن كثير ط قطر ج7ص616.
13- رَوَاهُ المنذري في الترغيب والترهيب3/278 واخرجه الالباني في السلسلة الصحيحة 2697.
14- فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني المجلد 16 ص 530/ 92 كتاب الفتن/باب 20/ ح7109،7110.
15- رواه البخاري في باب الصلح 2754 وفي المناقب 3629 وفي فضائل الصحابة 3746 وفي الفتن 7109.
16- ابن كثير البداية والنهاية 8/14 ط مكتبة المعارف بيروت سنة 1992.
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]