18 ديسمبر، 2024 9:17 م

فقراء أور والخبز الكرواطة

فقراء أور والخبز الكرواطة

للمدن الغارقة في زحمة الاساطير ذاكرة كونية ، ولها صنفان من انتماء البشر إليها . صنف تتنوع في المراتب .الملوك والوزراء والكهنة وقادة جيش والأثرياء . والصنف الاخر الفقراء فقط . الفقراء قد لايكتبون ولا يقرأون ولكنهم مصدر الهام للصنف الاول ليكتب ويحارب ويحكم وينادم الالهة بالطقوس والادعية .
كانت موائد الصنف الاول متنوعة ، من الخراف المشوية الى كفيار يقدم للملوك الذي ياتون به بطلب خاص من بلاد البحر على جهة قزوين العيلامية ، وحين يعطش يشرب من ماء جوز الهند الذي تجيء به مراكب نهرية من جهة مسقط وزنجبار وبومباي . واقل من الملك في لذة الطعام والشراب يأتي ماهم ادنى منه .

موائد الفقراء التمر سيدها واللبن ، واطيبها خبز ( الكرواطة ) وهو الخبز الاكثر احتراقا في افران الطين والذي يتحول لونه الى بني غامق ويصبح صلبا يابسا لتلوكه اضراس الفقراء بلذة وسعادة وكأنهم يرددون قولا لقائد الثورة البلشفية فلادمير لينين : يا كرواطيو العالم اتحدو…
لكنهم في أور يخافون من الاتحاد ، وحين علم الملك بهذا النداء اجبر شعبه على اكل الخبز وهو عجين فأمتلئت بطون الناس بالغازات فأنزعج الملك من هذا واصدر مرسومه الملكي باعادة شي الخبز بالافران ولكن ( نص ستاو ).

وهكذا صار كرواط الخبز من المحرمات وتنتقل بين محبي التكروط بالسر والخلسة وذلك عندما اخبر العسس الامهات بأن ثمة من يراقبهن وهن يخبزن في تنانيرهم .

ولا ادري إن كان الكرواط اول هواجس الاحساس بالمقاومة عند البشر وربما هو التفكير الاول لدى الانسان السومري بضرورة ان يشارك الملك وحاشيته لذة التذوق ، وكلما شعر الملك بهذا ورأى الخفي الرافض في اجفان رعيته اصابه عسر الهضم وارسل مبعوثا الى شركة باير الالمانية في مقرها الرئيسي في ليفركوزن وطلب منها شراب يريح المعدة …

كان الفقراء يعتقدون أن الملوك لايصابون بالجالي ، ولكنهم الان يكشفون ان عسر الهضم آت للملوك من هاجس الخوف والقلق من تأثير كرواطة الخبز في بطون الفقراء ، فزاد اصرارهم لابقاء الخبز فترة اطول في الافران لتصبح كرواطة ، وحتى العسس الذين تم تكلفيهم بالرقابة على التنانير وهم ينتمون الى طبقة الفقراء صار رشوتهم برغيف خبز يتكروط امر سهل وشائع …

أحتار الملك وشعر ان قضية كرواط الخبز بدأت تتفاعل فأرسل على كبير الكهنة وعرافيه للاخذ بنصائحهم والخطوات الواجب اتباعها حتى ليتحول الكرواط الى ثورة فيسحل في الشوارع او يصلب على افواه المدافع او ينفى الى قضاء الكحلاء ليقضي حياته راعيا لجواميس المعدان .

كانت نصيحة الكهنة أن يجمع الملك اهل أور في الساحة العامة امام شرفة القصر ويكروط الخبز امام شعبه ليشعرهم انه يشاركهم مائدهم وما يحبوا ان يكروطوه .

قال الملك: ولكني لااطيق طعمه ، انه طعام لايصلح سوى لمعدة الفقير وأنا ملك معدتي لايصلح لها سوى الكافيار ونساتل المارس والباونتي والغزال المشوي.

قال كبير الكهنة عليك ان تتحمل يا مولاي فربما ذات يوم لاتجد حتى كرواطة الخبز لتأكلها حين يأخذ الناس بعبارة لينين.
قال : ولكني لااتحملها لقد ولدت وملعقة الذهب في فمي فكيف ابدلها بالكرواط .

قال كاهن آخر : سنغمسها لك بالحليب والعسل فتصبح لذيذة ، سيكونون بعيدين ولا يشاهدون سوى الرغيف البني وستكروطه امامه وانت تبتسم ، فيشعرون ان جلالتكم اصبح مثلهم ، فيحبوك ويعودوا الى بيوتهم هادئين مسالمين ، وبين حين وحين اخرج لهم يامولاي وانت تكروط امامهم الرغيف المعسل ، وهكذا تنطلي اللعبة عليهم.

وافق الملك . وكان يوما قائضا في ظهيرة تموزية عندما تم جمع فقراء اور امام شرفة قصر الملك ، واخبروا الناس أن الملك لديه مفاجأة ليثبت لهم انه اصبح يأكل مثلهم.

الفقراء لم يقتنعوا بالكلام ،لكنهم ارادوا ان يشاهدوا الملك كيف يأكل مثلهم وتساؤلوا إن كان الكفيار والانناس ونستلة المارس تتكروط ، لكنهم كانوا يعرفون أن الذي ينضج في تنور الطين وحده من يصبح كرواطه ، وبالرغم من هذا ذهبوا ،وتحت لهيب الشمس الحارقة وقفوا ليطل عليهم جلالته ببدلته المزركشة ويخطب بالناس قوله : يا ابناء رعيتي .لقد اكتشفت ان الخبز المكروط اطيب ما يؤكل في المادة وصار غذاء محببا اليَّ.

صاح صبي شجاع من بين الجموع : وكيف نعرف ذلك يامولانا الملك ؟

قال : ستروني وانا اتناول رغيفا مكروطا امامكم . هاتو لي رغيفا ..

جاءوا بالرغيف المكروط في ماعون مصنوع من الذهب الخالص .رفعه بيده وقضمه امام الناس وبلذة . وقضمه مرة اخرىى وهو يلوك ويبتسم والناس متعجبة ، وفجأة وبسبب الحرارة الشديدة سال العسل على لحية الملك وجعلها تلمع .ثم صار العسل يقطر من لحيته على صدره .فتجمعت عليه اكوام الذباب تلطع بالعسل من لحيته وصدره فعاد مذعورا الى داخل قصره .

ضحك فقراء أور وانسحبوا عائدين الى بيوتهم وهم يرددون : كنا نعرف ان الملوك لاتأكل الخبز الكراوطة.