ليس هناك من شخصية فرنسية.. بعد الجنرال ديغول .. سجلت حضورا سياسيا حيويا ومثيرا ، مثل جاك شيراك .
هو الفتى الباريسي .. الفارع بقامته ، الوسيم في طلعته ، البسيط في علاقاته .. لم يكن مؤمنا بالايديولوجيات .. بقدر ايمانه بالسياسة الواقعية ، كان برغماتي في عقيدته ، و ليبرالي في توجهاته .
بدا ظهوره السياسي في مطلع الستينيات عندما كان عمدة لباريس لثلاث مرات ..
وكان من المع الشباب الذين انخرطوا في عالم السياسة ، وقد تبنى وقتها الخط الديغولي ، وكان يحلم ليكون وريثا للديغولية .. دون ان ينسى فضل الرئيس جورج بومبيدو على تكوينه السياسي .
لم يكن اختياره لمدة 18 سنة متتالية في خدمة مدينته باريس ، التي ولد فيها شيئا طارئا .. بل هو اختيار ، واختبار جدي لقدرة السياسي على الخوض في فن الادارة .. يمكن ان يكون سياسيا مقنعا ، وخطيبا فواها ، و مثقفا ليبراليا .. لكن ربما ليس اداريا ناجحا .
بعد منصبه كعمدة لعاصمة النور .. اختير لوزارة الزراعة ، ثم لوزارة الداخلية ، مؤكدا طاقة استثنائية ، وحيوية ادارية ، قل نظيرها .
وتاتي المهمة الاكبر عام ١٩٧٦ .. حين اصبح رئيسا للوزراء في عهد الرئيس جيسكار ديستان .
لكن الفتى الباريسي صاحب المزاج الصعب ، لم يتاخر كثيرا في تقديم استقالته .. بسبب عدم انسجامه السياسي والفكري مع الرئيس ديستان .
وحال خروجه من خيمة ديستان ، أسس له حزبا جديدا .. لا هو في أقصى اليمين ، ولاهو في أقصى اليسار ، اطلق عليه اسم ( التجمع من اجل الجمهورية ) و بأسم التجمع الجديد هذا اطلق العنان لنفسه ، واستطاع ان يخوض اشرس المعارك السياسية ، وأصعب الحوارات الانتخابية .. وعندما قرر ترشحه لرئاسة الجمهورية ، ضد منافسه الزعيم الاشتراكي القوي فرنسوا متران .. كان يعرف ان المهمة لم تكن سهلة ، والفوز ليس هينا . لكنه مضى في طريقه صلبا وشجاعا .
لم يستطع شيراك من ازاحة متران ..و قبل ان يكون رئيسا لوزرائه ..وقتها تحدثت الصحف الفرنسية عن مصطلح جديد هو ( المساكنة ) والجوار .. بين اليمين و اليسار .
لكن شيراك ، لم يهدأ له بال .. وظل يشحن من طموحه المعهود ، غير راضٍ .. وهو يرى اليسار بقيادة متران مهيمنا على دفة الحكم في فرنسا من عام 1981 الى عام 1989.. حتى رشح نفسه للمرة الثانية .. ثم تدق ساعة الانتخابات الحاسمة ، في توقعات غامضة .. لكن الخبر لم يتاخر كثيرا ، ليصبح جاك شيراك رئيسا للجمهورية الفرنسية ، بعد خوضه تجربة صعبة لإزاحة الاشتراكيين من رئاسة الدولة الفرنسية .
اما المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان .. فقد اصبح رئيسا للوزراء في نظام رئاسي يعطي صلاحية رسم السياسات لرئيس لجمهورية .
هذه البرغماتية الديناميكية ، المفعمة بروح التحدي ، التي كان يتمتع بها جاك شيراك .. مكنته ليكون / عمدة باريس لثلاث مرات ، ورئيسا للوزراء مرتين ، و 12 عاما لرئاسة الجمهورية .. لكنه في النهاية تراجع امام شاب سياسي طموح هو نيكولا ساركوزي الذي اصبح رئيسا للجمهورية سنة 2007 .. وحتى في خسارته لم ينس شيراك حس المداعبة التي كان يتمتع به ، فقد علق وهو في صورة تسليم السلطة لمنافسه الطموح ساركوزي قائلا :
( سياتي اليوم الذي يسأل الناس به .. من هذا الرجل الطويل الذي يقف مع ساركوزي .. ) طبعا كانت مداعبة تحمل حسا نقديا لطموح شاب قصير القامة ، لم يفك طلاسم السياسة ، ولَم ينتبه لتحليلات الصحافة ، فقد كان مندفعا .. الى ان انتهى خاسرا متعثرا .
كان جاك شيراك .. قد أعلن عن قرارات جريئة في عهده.. حل الجمعية الوطنية لأغراض انتخابية ، والغى التجنيد الإلزامي ، وأعاد التجارب النووية .
على الضد من الرؤوساء الفرنسيين الذين كانوا يتباهون بصداقاتهم لاسرائيل ، كان شيراك يعلن صراحة صداقته للعرب والوقوف الى جانب القضية الفلسطينية .
وكانت له علاقات متميزة مع العراق و بالرئيس صدام حسين ، وكانت تمثل ذروة العلاقات الناجحة بين فرنسا والعرب .. حتى ان الرئيس العراقي حمل معه السمك العراقي الحي .. من شواطيء شارع ابي نؤاس الى عاصمة النور باريس .. وقدم لشيراك طبقا من السمك المسكوف في بيت السفير العراقي .
بعدها زار جاك شيراك العراق .. وأعجب بالتجربة السياسية العراقية .. وتجول في المناطق الاثرية .. وقد توجت هذه العلاقة بزيارات ماروتونية ، بين المسؤولين العراقيين والفرنسيين .. وأعلن وقتها عن توقيع انشاء المفاعل النووي في بغداد ، والذي قصفته اسرائيل قبل اكتماله في مطلع الثمانينيّات .
ولعل اهم موقف لجاك شيراك.. تجاهله لنداء جورش بوش الابن ، الذي طلب اشتراك فرنسا في الحرب على العراق / وكان الوحيد الذي اعترض ، واطلق صرخة مدوية / لا لحرب ثانية ضد العراق .
وبفضل هذه العلاقة المتطورة بين العراق وفرنسا والتي استمرت عقدين.. كنت قد اجريت مع جاك شيراك لقاء صحفيا ، تحدث فيه عن اهمية العلاقات بين العراق وفرنسا ، واهمية صداقته المتميزة مع الرئيس العراقي الذي شبهه بالجنرال ديغول .. كما انتقد بقوة سياسة اسرائيل في الشرق الأوسط .. واصفا رئيس الوزراء انذاك ميناحيم بيغن بالسياسي الاحمق .
وقد نشر الحوار على صفحات مجلة ( الوطن العربي ) التي تصدر في باريس ، وعلى صفحات جريدة ( الثورة ) البغدادية .
وآثارت تصريحات شيراك وقتها ضجة في الأوساط السياسية والاعلامية المؤيدة لاسرائيل .. حتى ان صحفيا فرنسيا اتصل بي ، طالبا التسجيل الكامل للمقابلة الصحفية .
مات جاك شيراك .. صديق العراق ولبنان والبلدان العربية .. وستظل ذكراه عطرة في الأوساط السياسية العربية الى الابد .. وهذا الرجل يستحق منا ان نضع اسمه على ساحات ، وشوارع المدن العربية ..