18 ديسمبر، 2024 11:23 م

قوس دينية من موروثات الأساطير الرافدينية

قوس دينية من موروثات الأساطير الرافدينية

“أقيمي المراثي أيتها المروج أقيمي المناحة.. أقيمي العزاء.. ولتذرف عيناي
الدموع على المروج مثل أمي ولتذرف عيناي الدموع على المروج مثل أختي الصغيرة”

هذه الكلمات الرثائية الحزينة يتجاوز عمرها الـ 4000 سنة وقد نقلها لنا شاعر
سومري عن لسان إله الخصب وراعي الزراعة والمزارعين (تموز / ديموزي) والذي يعني إسمه (الإبن المخلص) وهو زوج إلهة الحب والحرب والجمال (عشتار/ إنانا) .

هناك العديد من الألواح الطينية التي وثقت إسطورة تموز وعشتار والتي لا تختلف
في مضمونها سوى ببعض التفاصيل والجزئيات البسيطة التي فرضها الإسلوب السردي والضرورات الأدبية على الكاتب.

الإسطورة كما هو معلوم تتمحور حول سعي عشتار للسيطرة على العالم السفلي (عالم
الأموات واللا عودة أو الجحيم) وهذا دفعها للنزول الى العالم السفلي بهدف مواجهة شقيقتها (أرشكيجال) والتي كانت إلهة العالم السفلي، بيد إن عشتار فشلت في مسعاها ووقعت أسيرة في العالم السفلي ولم تتمكن من العودة الى عالم الأحياء إلا إذا إفتداها شخص من عالم الأحياء
وهبط محلها الى الجحيم .. ووقع الإختيار على تموز ليكون هو الفادي المخلص كونه لم يبدي حزنه وألمه على فراق عشتار حين هبوطها الى عالم الأموات، مما دفعها الى الإنتقام منه وإخياره ليكون هو الأضحية الفادي المخلص .

بعد نزول تموز الى العالم السفلي شعرت عشتار بتأنيب ضمير وحزن ومرارة على
فقدان زوجها لذا سعت الى تخليصه واتفقت مع شقيقتها (أرشكيجال) على أن يقضي تموز نصف السنة في العالم السفلي والنصف الآخر يقوم من عالم الأموات ويعود الى الحياة وتكون عودته في فصلي الربيع والصيف وتحديدا في يوم الإعتدال الربيعي 21 آذار/ 1 نيسان من كل عام، حيث تقام
الأعياد والاحتفالات والابتهالات الدينية بهذه المناسبة … وهو يصادف نفس الفترة التي يحتفل بها (بعض) الطوائف المسيحية بعيد القيامة .

فهل هي صدفة ان يقوم الإله الوثني تموز بنفس اليوم الذي يقوم به الميسح الرب
و إبن الرب السماوي؟

هنا لا أتحدث عن أسباب وأهداف القيامة بين الحالتين وإنما عن فكرة الطقس
الديني وإسلوب إحيائه.

هذه الإسطورة تتضمن طقس ديني أخر لايزال أبناء الرافدين حريصين على إحيائه
بنفس الاسلوب الكيفية التي كان يتبعها أسلافنا السومريين والبابليين وهي الندب والحزن واللطم وإقامة مواكب العزاء ونظم القصائد الرثائية بحق تموز ومصابه الأليم الذي سبب رحيله الأسى في نفوس الناس حيث ان فقدانه تسبب بالقحط والجفاف وهلاك الحيوانات وموت المحاصيل الزراعية
كونه كان الإله الخصوبة الراعي للمزارعين والمبارك في زرعهمكما أشرنا سلفا.

فكانت تقام مواكب العزاء كل عام وبإنتظام لمدة 12 يوما حيث يبدأ المهرجان
بمسرحيات تراجيدية (تشابيه) تحاكي عذابات تموز وفجيعته الاليمة، وتدب حالة هستيرية من الحزن والبكاء واللطم يشارك بها حتى الملوك وتمد الولائم في الشوارع وتقدم النذور وتنحر الاضاحي للمعابد والكهنة تضرعا للآلهة لإعتاق تموز واعادته من العالم السفلي .. وتتصاعد حالة
الحزن لتصل أوجها في اليوم العاشر ، حيث تخرج العربة فارغة من أمام معبد إلاله مردوخ بأشارة الى إعلان موت تموز، ويستمر هذا الحزن الى اليوم الثاني عشر والذي يصادف يوم 21 آذار حيث يقوم تموز ويعود من العالم السفلي لينقلب مهرجان الحزن الى كرنفال إحتفالي وتمارس به
طقوس الزواج المقدس وتعلن الافراح والاعياد في عموم البلاد.

يتبين مما تقدم في إسطورة تموز وعشتار إن أبناء الرافدين قد حافظوا على موروثاتهم
الثقافية التي تمتد الى آلاف السنين وكيفوها مع تغير الأزمان والأحداث لتتوافق مع تطور أفكارهم و رؤاهم ومعتقداتهم ليجعلوا منها طقوس دينية يحرصون على إحيائها رغم اختلاف وتنوع أديانهم ومللهم.