” القوة الناعمة ما هي إلا تكتيكات إستراتيجية… عبرها تركن الدول الكبرى قدراتها العسكرية وتستبدلها بتأثيراتها وتعزيزاتها الأيديولوجية لتدمجها في النوعيات وتحولها إلى أقمار صناعية تدور ملتحمة في فلكها !!!”
رغبة منها في تخفيف مخاوف دول منطقة اسيا الوسطى ومن مكانتها ووزنها الديموغرافي والاقتصادي الكبير صعدت الصين بشكل واضح من اختراقها الإنساني لتلك المنطقة وبمساعدة القوة الناعمة، لانها عدت وتعد منطقة آسيا الوسطى واحدة من أهم المناطق الحدودية الرئيسة الهامة لضمان الأمن وتزويد موارد الطاقة، وإنها وان دخلت في حالة صراع افتراضي أو حقيقي مع الولايات المتحدة وتم إغلاق مضيق ملقا، الذي يتم من خلاله تسلمها النفط عبر منطقة الخليج العربي، فهي تتوقع وتسعى ضمان أمن الطاقة لها من خلال إمدادات طاقوية مصدرها منطقة آسيا الوسطى وروسيا، وكما ترتبط أهمية آسيا الوسطى بنظرها بموضوع ضمان ألامن الداخلي لجمهوريتها نتيجة لقربها من منطقة شينجيانغ الويغورية المضطربة، فضلاً عن احتمال زعزعة استقرار المنطقة نتيجة للفوضى ألافغانية وأعمال الحركات الدينية المتطرفة، وإن حالة عدم الاستقرار وظهورها على الحدود الغربية ستكون محفوفة بتصديرها إلى أراضي الصين نفسها مما يمكن لها أن تشكل مرتعا للتوتر لسنوات عديدة قادمة, لذلك ولمصلحة حكومتها فعليها بعدم السماح لانهيار الهياكل السياسية والإدارية الدولية والمحلية القائمة في منطقة أسيا الوسطى، كما عليها تحديد أهمية آسيا الوسطى بالنسبة لها عبر عوامل أخرى متعددة كتوافر أسواق البيع واحتياطيات المعادن الخام وتطوير مشاريع النقل وتوفير الحزام الاقتصادي جنبا إلى جنب مع فكرة طريق الحرير المزمع انجازه في القرن الحادي والعشرين نحو أفريقيا والشرق الأوسط والذي أصبح اتجاهًا مهمًا لسياستها الخارجية وأحد الأهداف الرئيسة لـلقوة الناعمة لجمهوريتها الشعبية.
كان قد ابتدأ ساستها في العقدين الزمنيين الأخيرين بالتفكير والعمل بوجوب الحاجة إلى استخدام وتوظيف إمكانات القوة الناعمة والتي هي على النقيض من القوة الخشنة والصعبة, والتي دفعها لذلك وأدى بها إليها هو النمو الكبير في إمكاناتها الاقتصادية والتعزيز الوجودي لتجارتها واقتصادها بمختلف مناطق العالم والذي أدى هو الأخر بها إلى إدراك أنه ليس من السهل واليسير تحويل قواها إلى نفوذ سياسي يجتاح الدول الضعيفة، حينما أدت الهيمنة الديموغرافية والاقتصادية للصين إلى ظهور مخاوف واضحة وخفية في الدول المجاورة لها مما أعاق تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية وحتى السياسية وغيرها من أنواع التعاون، من دون الولوج إلى استثمار القوة الناعمة. وكانت قد تبنت الحكومة الصينية في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2011م سياسة تعميق إصلاح النظام التعليمي وتعزيز تنمية وازدهار ثقافتها والتركيز على نشر ومد واستخدام القوة الناعمة في التنافس والتغلغل بين الدول وكذلك حول ضرورة تنفيذ إستراتيجية الثقافة الخارجية لتعزيز التأثير الدولي للثقافة الصينية لإظهارها للعالم بصورة جديدة للإصلاح والانفتاح، وبمعنى أخر هي أرادت وفكرت في كيفية تحسين صورتها في عيون العالم بمساعدة الثقافة وغيرها من الأدوات الحضارية للتأثير على الرأي العام لسكانه ونخبه.
ثلاثة اتجاهات رئيسية كانت قد أعتمدها القوة الناعمة الصينية تمثلت أولها في تنفيذ سياسة أمنية هدفت إلى الحيلولة دون تفاقم الحالة الدولية لسعيها إلى الابتعاد عن أية صراعات عسكرية كي لا تؤثر بشكل مباشر على مصالحها الإقليمية، إما ثانيها فتحدد بتقديم المساعدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرعاية الصحية والتعليم والمجال الإنساني ومناقضة تقليد العالم الغربي الذي عمل على تقديم تلك المساعدات لكنه أشترط في مقابل تقديمها ربطها بالقضايا السياسية والأيديولوجية, بينما تمحور ثالثها بالأحداث الثقافية المعدة والمصممة لإظهار وأبراز الإنجازات الحديثة للحياة والتطورات الصينية. ولذلك وفي آسيا الوسطى تطور وتزايد كثيرا النفوذ الثقافي الصيني وتوسع القبول والتدريب للطلاب المنتمين لدول أسيا الوسطى في الجامعات الصينية, ومع ذلك فإن ردود الفعل على جودة التعليم المقدمة فيها بعيدة كل البعد عن الغموض نتيجة للصعوبات الجمة في استيعاب مضمون لغتها وكذلك للإهمال من جانب الأساتذة المسؤولين عن كتابة المقالات العلمية لدرجة انه وكما يردد إن الدولة الصينية ليست مهتمة على الإطلاق بتكوين طلاب علم حقيقيين، غير أنها واصلت سياساتها فلذا ومن أجل توسيع نفوذها الثقافي في آسيا الوسطى اتخذت حكومتها تدابير واسعة لتعزيز إمكاناتها الإعلامية إذ بدأ التليفزيون المركزي الصيني بالبث باللغة الروسية إلى دول المنطقة من إقليم شينجيانج كما تم تنشيط أنشطة وكالة أنباء شينخوا والطبعة الأجنبية لصحيفة الشعب اليومية، بالإضافة إلى إصدارات عدة باللغة الروسية، ومع ذلك فلا يزال التأثير الثقافي والإعلامي الصيني في المنطقة أقل بكثير من التأثير الأمريكي أو الروسي لكن ذلك لم يمنعها من مواصلة رعاية وسائل الإعلام الإقليمية التي تظهر باللغتين الروسية والوطنية والتي تمثلها دعائيا كدولة قوية وحديثة وتكنولوجية إضافة إلى إقامتها العديد من الفعاليات التجارية والثقافية التي تعزز تنمية التعاون التجاري والاقتصادي والإنساني بدول آسيا الوسطى، لكنه كانت هناك عقبة واحدة لم تتمكن من التغلب عليها وهي عدم توافقها مع الإمكانات الاقتصادية والديموغرافية التي تملكها دول آسيا الوسطى مما أثار ويثير موقفًا حذرًا تجاه التعاون معها من جانب السكان والنخب المحلية فلا زالت هناك مخاوف قوية في المنطقة من أن الصين، التي أصبحت بالفعل واحدة من أكبر الدول والشريك الاقتصادي الرئيسي والمستثمر، ستتوسع وتسيطر في نهاية المطاف على الاقتصادات والاعتمادات المالية والعسكرية لمنطقة أسيا الوسطى مما ستعني تلك الحالة خضوعا منطقيا للنفوذ الصيني وسيكون من الصعب للغاية التخلص أو الانفكاك عنه، ولذا فليس من قبيل الصدفة أن يعلن السفراء الصينيين في بلاد تلك المنطقة عن ضرورة توسيع آفاق زيادة التعاون والحاجة إلى التغلب على القوالب النمطية لان فعالية القوة الناعمة الصينية في آسيا الوسطى محدودة بسبب الصور النمطية السلبية التي ظهرت بها حكومتها إزاء أوضاع منطقة أسيا الوسطى إثناء فترة وما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إضافة إلى الطبيعة المركزية لإدارة سياستها الثقافية، غير إننا لن ننسى إن المزايا الإيديولوجية الصينية هي تقليد ثقافي وتاريخي قوي يتمتع بإمكانيات كبيرة ونظام تعليمي ساع للتطور المتميز والنفوذ الاقتصادي المتنام وإن تعزيز الوجود الاقتصادي الصيني في آسيا الوسطى يعني ضمنا تعزيز التأثير الإنساني لها عبر تفعيل قوتها الناعمة.