أصالة أم تحديث ، تراث أم معاصرة ، شرق أم غرب … إلى آخر هذهالثنائيات المعروفة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ، والتي تكونسؤالاً ثقافياً هاماً لايزال مثار جدل لم ينقطع ، والبحث عن مفاتيح للإجابة جهد يواصل تقديمه المفكرون في الوطن العربي على مختلفاتجاهاتهم وتباين اطروحاتهم … فمن اتجاه تمجيدي افتخاري ينكفئعلى الماضي ، يفتش في حناياه عن ذات فاعلة تواجه بالاستلابوالاغتراب. والتصاق هذا الاتجاه بالماضي ، غالباً ما يصاحبه خصومةللحاضر إلى اتجاه يتماهى مع الآخر/ الغربي ، مسحوراً بمظاهرالنفوذ والهيمنة والتسلط ، ويقع هذا الاتجاه في خصومة مع ماضيهوتراثه ، ويعتقد أن عملية التحديث لا تتم إلا حينما يضحي بالأنا – التاريخي . ويتوسط هذين الموقفين موقف توفيقي انتقائي يحاول دونكلل الامساك بطرفي المعادلة.
هذه الاتجاهات والتيارات الفكرية جعلتنا ندخل في إشكاليات عدة منذقرنين، ولازلنا نتحاور حول ذات الأسئلة وكأنه مكتوب علينا أن نعودإلى نقطة البدء أما عن قصد لغايات في نفس البعض أو عن غباءوهذه الطامة الكبرى التي لازلنا نعاني منها بسبب من تسطيح إدراكنالما يدور حولنا إلى حد الاستنقاع. وفيما يأتي أورد بعض هذهالإشكاليات:-
الإشكالية الأولى:- اشكالية الحداثة
الحداثة ، قضية تطرح نفسها عبر كل الأجيال … ، وهي في جوهرهاترتبط بحساسية متطورة ومتغيرة ، طبقاً لتغير العصر والمكانوالسمات الحضارية . فهي مشروع حضاري واجتماعي وسياسيمطروح منذ بداية عصر النهضة العربي ، إنها قضية ملحة وأساسيةلكل من تشكل الثقافة عنده هماً وتكاد تتقدم سلم اهتماماته. قضيةتطرح نفسها من خلال مجموعة أسئلة :- ما هي العلاقة بين المنتجالحداثي والتراث الوجداني للعرب ؟ وهل من الممكن أن تولد الحداثةمن حالة انقطاع ورفض للقديم ، حتى ولو كان هذا القديم في جوهرهأكثر تقدماً ومعاصرة من السائد القائم ؟ وما هي حدود التجاوزالمتاحة للمبدع العربي كي ينتج الحداثة ؟
إشكالية الحداثة ، تكاد أن تكون هي الإشكالية الرئيسية للمجتمعالعربي. فالتعارض القائم بين القديم والجديد ، الحداثة والتقليد ،الوافد والموروث ، يدفعنا أن نفرق بين أشكال الحداثة في الوطنالعربي وبين أشكال الحداثة في الغرب. لأن أوربا عايشت الحداثةداخلياً ، ففي ذلك الوقت كانت وحدها في العالم ولم يكن هناك عنصرخارجي يمدها بالحداثة أو يمنعها من الحداثة . وعندما نقول أن أورباتعيش الحداثة داخلياً ، يعني هذا أن هناك فعلاً صراعاً بين قديموجديد ، ولكن لم يكن هناك عنصر ثانٍ يدفع عملية الصراع سواءبتزكية الجانب القديم أو بتزكية الجانب الجديد ، ولا كذلك بالبحث عنموقف توفيقي.
أما في التجربة العربية ، فالحداثة نشأت أثناء الصدمة مع الغرب فيالقرن التاسع عشر وبالتالي ارتبطت بهذه الصدمة التاريخية.
فالحداثة ، إذن نموذج غربي وافد إلينا ، ولم تكن تطوراً داخلياً منداخل التجربة العربية نفسها ، فارتبطت عملية التحديث في الوطنالعربي بمسألة الاتصال مع الآخر الذي يتحدد جزئياً على الأقلكخصم مستعمر . فعند بعض الذهنيات قبول الحداثة يعني قبولنموذج الخصم ، وهذا الخصم أحياناً يرفع إلى خصم تاريخي صليبيوأحياناً أخرى خصم استعماري.
فالحداثة قضية معقدة في الوطن العربي ، ذلك لأننا لانعيش مشكلةالحداثة على مستوى علاقة التطور الداخلي أو نتيجة لمعطيات عربية ،فمن هنا ردود الفعل المتشنجة التي ترفض الحداثة مطلقاً ، وتفهم أنهالاتحمل إلا الاستلاب أو الخضوع لنموذج غربي مغاير.
وبما أن (الأنا) متعدد عندنا و(الآخر) كذلك فيه آخرون ، أصواتمتعددة متناحرة ، فالموقف من الغرب عندنا يتحدد بنوع (الأنا) المتكلم ،فيكون هناك من يقبل وهناك من يرفض.
وعندما أقول أن المسألة معقدة ، لايعني هذا أنها غير قابلة للفهم ،ولكن هناك عدة معطيات كإشكالية ضرورية تتكون من عدة عناصرومشاكل مترابطة ، فلاينبغي تبسيطها فقط إلى (نحن) و(الغرب) . فالغرب متعدد ونحن متعددون ، والعلاقة فيما بيننا ليست على مستوىواحد . واشكال الحداثة يقع بين هذه المعطيات المتقاطعة المتداخلةضمن دائرة الحضارة الحديثة التي نحن فيها موضوعاً ، أي خضوعاًللاستغلال ، وأيضاً كذات تسعى إلى التطلع والمواكبة.
ومع كل هذا فنحن ملزمون تاريخياً بتحقيق الحداثة ، لأننا في عصرتعدى الحداثة بمعناها القديم إلى عصر التقنيات الرقمية ، وهذاالعصر يستلزم منا تحديث كل شيء فنجعل كل شيء فينا حديثاً قابلاًلمواكبة التطور العالمي.
كما إن جعل المسألة محصورة بيننا وبين الغرب ، وضع خاطئ ، لأنالعالم تحكمه علاقات تداخل واكتساح ، وكلما كان طرف من الأطراففي وضعية ضعيفة كلما سهل سقوطه فريسة لا للغرب بل للوضع العامالعالمي الذي يفرض نفسه على الجميع ، فإذا ما أردنا أن نعيش فيمجتمع وعصر لامكان فيه للضعفاء، علينا بأن نقبل التحديث فيمجمله وأن نجدد مفهومنا للتجديد.
فالفقهاء الآن مازالوا يفهمون التجديد كما عرفه فقهاء القرن السادسعشر ، أي كما عرف في وضع أيديولوجي نضالي تاريخي معين . فإذا كان فهمنا للتجديد كما في تعريف الأصوليين – أنه كسر بدعةوالرجوع إلى سيرة السلف الصالح – فلا مخرج لنا إن قيدنا أنفسنابهذا المفهوم . وهذا التعريف ليس ملزماً لنا ، قد ينطبق على مجتمعإسلامي في القرن السابع أو السادس الهجري حينما كانت البدعةتنمو من داخل المجتمع المسلم وحينها كان العالم هو عالم العرب وهوالنموذج الوحيد . أما الآن فنحن في وضع آخر . فالحداثة ليست بدعةولاانحرافاً داخلياً بل تطور عالمي كنا غائبين عنه وعن المشاركة فيصنعه ونحن محتاجون إلى تجديد وضعنا وذهنياتنا ونوع رؤيتناللتجديد نفسه ، وإذا لم نقم بهذا الجهد المتعدد المستويات والأبعادوبقينا ننشغل بناصية تاريخية لاتفيد ولاتجدي ، سيظل التحديثشكلياً ومظهرياً ليس له جذور داخل الأرض ولاداخل العقل ، فأي ريحعاتية تأتي عندئذ ستقتلع مالاجذور له وما لاأسس له.
• الحداثة … ظاهرة غربية
إن الصراع مابين الحداثة والتقليد صراع أزلي وليس صراعاً خاصاًبمجتمعاتنا بل هو موجود في كل المجتمعات قديمها وحديثها ، ويدعوإلى طرح هذه المشكلة على مستوى انثروبولوجي . فإننا يجب أن ننظرإلى الصراع ما بين الحداثة ، والتي هي تغير مستمر ومتواصل فيتاريخ البشرية وما بين التقليدي الذي هو سلسلة القيم التي يؤمن بهااصل مجتمع من المجتمعات ، ويتشبث بها لأنها موجودة ، وقد كيّفالنظام الاجتماعي حسب مقتضاها على مستوى عام ، حتى لانتخيلأن الصراع خاص بالإسلام ، وان ننظر إليه كذلك كمؤرخين ونفهم ماذاحدث في الغرب أصلاً . أي نفهم الظاهرة كـ (ظاهرة غربية) . واستخدام هذا التعبير بدلاً من الكلمات الواردة في الخطاب العربيالمعاصر الرافض ، المبني على الجدال مع الغرب . وأُلح على هذاالتعبير (الحداثة .. ظاهرة غربية) لأنه قد يكون من السبل التي تمكننامن الخروج من هذا المأزق ، وذلك لن يكون إلا حينما نتعلم كيفنمارس هذه المشاكل وكيف نعالجها على أساس الفهم والتحليل لا علىسبيل المجادلة والنضال ، وليس معنى إنني أقلل من أهمية النضال ،فلابد من النضال ، ولكن توفر من يقوم بوظيفة التحليل والتفهيم شيءلابد منه أيضاً . لذلك ، قلت (الحداثة … ظاهرة غربية) حتى نتعاملمعها بعقلانية.
فماذا حدث في الغرب بعد القرن السادس عشر ؟ وماذا حدث فيتاريخنا بعد هذا القرن ؟
سؤال تاريخي يجب أن يطرح خارج الإطار الجدلي الذي طغى علىالعقل العربي زمن النفوذ الاستعماري في مجتمعاتنا . كنا مجبرينعلى طرح هذه الأسئلة على مستوى أيديولوجية النضال ، أما الآنفيجب أن يتم طرح هذا السؤال بروح علمية لأنها وحدها هي التيستؤدي بنا حتما إلى فهم ماذا حدث بالغرب تاريخياً وثقافياً ، عند ذاكنفهم ما يسمى بالحداثة والتي لم يشارك طبعاً في إحداثها العقلالعربي المسلم .
إن حديثنا عن الحداثة غالباً ما يتم بانتزاعها من تاريخيتها كفكرةمجردة وكصراع أزلي بين القديم والحديث . والحداثة في الوطنالعربي لها تاريخيتها ومراحلها المختلفة . فحداثة اليوم غير حداثةالأمس وبالتحديد منذ القرن التاسع عشر والتي كانت تعني الصراعالدائم والذي هو سنة الحياة ما بين المحافظة والتجديد ، وبالاحرىمشكلة الحداثة كما هي واردة في الخطاب العربي المعاصر، هيمشكلة خاصة ، والدعوة التحديثية التي قامت على أيدي مجموعة منالمفكرين الإصلاحيين التنويريين في بداية القرن العشرين ، كان يسمخطابها الدعوة التبشيرية الايديولوجية بصلاحية ومشروعية الحداثةوالتحديث في مجتمعنا وفي مختلف نشاطاتنا الفكرية والصراع فيهذا الخطاب هو غير الصراع الذي ارتدته الحداثة في الخمسينات فيعهد الاستقلال العربي ، وهو أيضاً غير مانعيشه حالياً بشكل خاص ،وهي فترة الردة عن الحداثة.
وحينما أسميت هذه الفترة الحالية بفترة الردة عن الحداثة ، لم أكنمبالغاً لأننا نعايش منذ سنوات على المستوى الفكري بشكل خاص ردةيمكن أن نبنيها بهذه المفارقة البسيطة.
نحن لا نستطيع في بعض الأحيان أن نقول كلاماً كان يقوله محمدعبده أو سلامة موسى أو حتى طه حسين في بداية العقد الثاني منألفيتنا الثالثة هذه !!
• الأصوليون والحداثة
يتبنى الأصوليون منهجاً لاتاريخياً في تعاملهم مع التراث ، حيث أنهمينتزعون الأفكار من تاريخيتها ويقولون بالعودة إلى التراث دوناستيعاب أن هذا التراث متعدد ومتنوع وليس تراثاً واحداً وله أيضاًتاريخيته ومراحل تطوره . ومما يبعث على الضيق أنهم في جدلهمالفكري لايقومون إلا بترديد بعض الأفكار المعروفة وحتى دون الكلامعن باب الاجتهاد . ليس عندهم جهد تنظيري حقيقي وتأصيلي فيبعث بعض المفاهيم القديمة.
ونختار هنا مجالاً محدداً لنطرح فيه إشكالية الحداثة ، وهو مجال(الاجتهادات الفقهية) رغم إقرارنا بأنه مجال مليء بالألغام والأشواك . فإن أكثر ما أخشاه أن تكون هذه القضية أشبه بالأمراض المزمنة فيالواقع العربي المعاصر ، لأن الحديث فيها ممتد عبر عشرات السنينمنذ فتحت الأمة العربية عينها على الهوة الشاسعة التي تفصل بينهاوبين الغرب عند أول احتكاك معه أثناء الحملة الفرنسية على مصر . ومنذ بداية القرن العشرين ومحاولات الأجوبة تتوالى من خلالإسهامات عدد من المفكرين والفقهاء والباحثين.
ولاشك أننا في المشرق العربي على الأقل نرصد محاولات واسعةالمدى بذلها الأمام محمد عبده في محاولة الإجابة عن صيغة مناسبةللخروج من هذا المأزق . والموضوع إلى الآن مثار جدل مستمر ،وأخشى أن المشكلة ليست بالدرجة الأولى في عدم العثور على صيغةبقدر ما هي عدم الرغبة في العثور على صيغة بقدر ما هي عدم الرغبةفي العثور على هذه الصيغة بحيث يتصور البعض أن هناك صعوبةفي إيجاد صيغة تستند إلى أصول فقهية تمكن هذه الأمة من أنتعيش من واقع عصرها . وأرى أن هذا ممكن ، فعلى صعيدالاجتهادات الفقهية لدينا علم واسع وعريق يسمى (علم الفقه) ، وهوعلم وُضع أصلاً لضبط عملية الاستنباط والتطوير الفقهي . فإذا كانتلدينا أداة تطوير وواقع متغير ، ما الذي إذن يمنع من استخدام هذهالأداة في التعامل مع الواقع ؟!
أعرف أن المسألة ليست بهذه السهولة ، لكن الطريق موجود ، وعلمأثراه فقهاء السلف والخلف ، وصاغوا من خلاله معادلات للحداثةوالتطوير في كل عصر . أما لماذا لا تستخدم هذه الأداة ؟ ولماذالاتوظف في تحقيق هذا الهدف ، فهو سؤال أطرحه وأؤكد عليه . وكماأن هناك فقهاء يسعون جادين لتحقيق صيغة سليمة ، هنالك أيضاًفقهاء محافظون يسعون بمنطق التحوط الزائد إلى ممارسة قدر كبيرمن البطء كما يشكل عائقاً للمسيرة الحضارية ، وهذا ينبغي ألاّيزعجنا لأن المدارس الفكرية جميعها فيها المحافظون والمتحررون.
وما يمنع من الوصول إلى صيغة سليمة ، هو المناخ الثقافيوالسياسي الذي نعيشه ، فهو لايشجع كثيراً على اقتحام هذا الميدانبجرأة وقبول وجهات النظر في الاجتهاد ، ولن نتجاوز عقدة الموروث مالم يتوفر المناخ الصحي الفكري والسياسي العام للمفكرين والباحثين.
كما أنه لم يعد من المقبول بأي منطق أن يلغى هذا القديم أو الموروث . ولكن السؤال ، هو كيف يشكل هذا الموروث دافعاً للانطلاق إلى الأماموليس حاجزاً يحول دون التقدم أو عائقاً يعيد المسيرة إلى الوراء.
• إشكالية جديدة قديمة
ولكن إشكالية الحداثة ، هل هي إشكالية جديدة أم إشكالية متكررةفي تاريخية الفكر العربي ؟ بصيغة أخرى ، هل واجه المجتمعالإسلامي في فترته الكلاسيكية إشكالية القديم والجديد ؟ وإذا كانالمجتمع الإسلامي عايش هذه الإشكالية ، هل هناك بعض أوجه الشبهبينها وبين ما نعايشه نحن في هذا العصر؟
إنني ، ووفق استقصاءاتي ، وجدت حداثة في المجتمعات العربيةالإسلامية في الفترة الكلاسيكية للفكر العربي الإسلامي . وما حركةالمعتزلة وأعمال الجاحظ إلا أشياء دالة على تغير وعلى فهم الضرورةالطارئة على المجتمع الإسلامي ، ولكننا انقطعنا عن هذه الحداثة فيالفكر العربي كموقف فكري ولم ننقطع عنها كمحتوى للأفكار ، أي أنانقطاعنا عنها كموقف فكري أمام الحوادث الطارئة على المجتمعالمسلم . وإضافة إلى ذلك نحن منقطعون عن حداثة الغرب. فبعد القرنالسادس عشر أصبحنا غير قادرين على فهم ماذا حدث في الفكرالغربي وذلك يرجع للصدمة التاريخية التي وقعت لنا مع الغرب والتيجعلتنا حتى غير قادرين على فهم ماذا حدث في مجتمعاتنا.
إن الحداثة عندي هنا ، هي الانتقال من النظرة الدينية المتألهة لمشاكلالإنسان والمجتمع والتاريخ ، إلى نظرة عقلانية مستقلة عن جميعالاعتقادات التي تفرض على العقل من خارج إطاره . وهذا التغييرالداخلي للبنية النفسانية للإنسان لم تعطه ما يستحقه من الاهتماموالاجتهاد الفكري . نحن بأمس الحاجة إلى موقف فكري متفتحوموضوعي يدرس المسائل دون فرضيات مسبقة بل يستمد أحكامه منتحليل للواقع ، كما هو في الفكر الغربي.
إن المجتمع العربي الإسلامي في طوال مسيرته ، عايش هذهالإشكالية ، وكلنا يعرف أنه بعد أن احتك العرب المسلمون بالحضاراتالأخرى ورأوا أشياء لم يسبق أن رأوها من قبل ، بدأت تلح على عقولهمكيفية التكيف مع موضوعات مستجدة ، وهذا التحدي برز بشكلواضح حينما انتقلت الخلافة إلى الشام في العهد الأموي ، ونظمالحياة هناك مختلفة ، فدون العرب الدواوين عندما تبين لهم أنه أسلوبعام في الإدارة والعمل . فلم تكن عند العرب المسلمين عقد ولم يكونوايعتبرون أن العنصر الأساسي في قبول الفكرة هو مصدرها بلينظرون إلى مدى فائدتها لمجتمعهم فكانت لديهم قدرة كبيرة علىالتطويع والتكيف من مرحلة إلى أخرى ببساطة . هذه العقد والحواجزوالأغلال لم تبرز بشكل واضح إلا في عصور الانحسار والانحطاطوالجمود.
الإشكالية الثانية:- نفي الاخر
إن (نفي الآخر) ، ظاهرة ملموسة بشكل حاد في عقلنا العربي ، وهيبدلاً من إقامة الحوار معه وتفهم الأرضية التي يقف عليها . وهذهالظاهرة ليست مقصورة على الاتجاهات السلفية التقليدية فقط ، بلوالاتجاهات التحديثية . فما هي السبل التي تحقق لنا الانتقال منجدلية النفي إلى فضاء من الحوار الخلاق ؟
بداية ، يستوجب عليّ هنا أن أحدد دلالات كلمتي سلفية وحوار . فالسلفية في رأيي ، يجب أن ننظر إليها ببصيرة المؤرخ ، لأنه حينمابدأت علاقات الاستعمار ما بين العرب والمسلمين والعالم الغربي فيالقرن التاسع عشر ، كانت هذه الحركة أكثر تفتحاً مما هي عليه فيالسنين الأخيرة.
كان الإمام محمد عبده يتشبث بالعقلانية ويأخذ بأفكار كثير منالعلماء . بينما الآن يرفضونها على أساس التغيير السياسي فيالعلاقات ما بين الغرب والعرب المسلمين . والمنظور التاريخي يفيدنافي مراعاة التغيرات وأسبابها في مواقف علمائنا ، وأيضاً في مواقفالغرب ، لأن هناك أيضاً تفاعلاً وتواصلاً.
وفيما يخص كلمة حوار ، لست أدري هل يمكن استعمال هذه الكلمةلأن العلاقات ما بين الجماعات في مجتمع واحد أو العلاقات ما بينالأمم مبنية على القوة أكثر مما هي مبنية على التفاهم . فمثلاً فيالقرون المنتجة الكلاسيكية للعرب والمسلمين ، كانوا يأخذون حينها منمدنيات عديدة لأنهم كانوا مجموعة قوية ، وفي امكانهم أن يستعملواهذه الثروات الثقافية والفكرية لصالحهم . ولكن عندما تغيرت هذهالظروف وأصبح الغرب يشتد نفوذه ، تغيرت مواقف العرب والمسلمينإلى مواقف خضوع وانغلاق ، وقد أثر في تطوير مواقف مجتمعاتناأمام (الظاهرة الغربية) ما حدث في الخمسين سنة الأخيرة عندمابدأت تطغى على جميع الناس روح ما أسميه بـ (أيديولوجية النضال) ،وهو الرغبة في التحرر من الاستعمار والتبعية له ، ومن التحرر منالضغوط الداخلية بعد مرحلة الاستقلال.
والسبيل إلى تغيير هذا الوضع هو ما ذكره مراراً المفكرون المناضلونمن ضرورة تغيير العلاقات بين ما يسمى المجتمع المدني والدولة ، وهذاالتغيير في العلاقات يتطلب شروطاً عديدة تتعلق بالتطور التاريخيوبالبنيات الاجتماعية في المجتمع العربي في الخمسينات . ونعلم أنهناك تغييراً ديموغرافياً في مجتمعاتنا وقع بعد ذلك الزمن ، وهذابدوره غير البنيات والقوى الاجتماعية المتفاعلة وأسهم في تغييرالمواقف التي نتخذها إزاء الظاهرة الغربية.
إن لهذا النفي مسبباته الموضوعية ، فتحديد (الأنا) لايتم إلا عبر الآخر. فالذات العربية عندما ترد الفعل إلى الغرب بشكل سلبي ، ذلك لأنالغرب نفسه قام بعملية تطمح إلى نفي الآخر (العرب) . وأقصد بذلكالحملات الاستعمارية أساساً والكيفية التي فسرت بها في الوطنالعربي والعالم الإسلامي والغطاء الديني الذي أُعطي لها . ورد الفعلالذي هو تأكيد للذات كان يجب تاريخياً أن يظل مؤقتا أي بمجرد ماتستعيد الذات ثقتها بنفسها أو بمجرد أن تخف درجة الانفعال تبدأالذات بمراجعة موقفها مع الآخر / الغربي ، ولكن هذا لم يحصل بهذهالكيفية المطلوبة التي يتحول من خلالها هذا النفي إلى جدلية في إطارمن الحوار المنتج.
هناك ضرورة تاريخية ومعطيات موضوعية جعلت رد الفعل العربييتوالد وينقسم إلى عدة مواقف. موقف رافض وموقف مغترب وموقفيحاول التوفيق بين هذين الطرفين.
أما كيف يتحقق لنا الانتقال من النفي والإلغاء إلى آفاق من الحوارالبناء؟
مهمتنا كأصحاب فكر ليس من حقنا أن نجيب على هذا السؤال بكيفيةقطعية أو بلغة دبلوماسية ، فصراع الحضارات والأيديولوجيات واقعةليس من السهل البت في مجراها ومسراها بكيفية نهائية ، فهذه مسألةأجيال وتغيير ذهنيات وبالتالي إعادة فهم للذات بالنسبة لنا نحنوكذلك بالنسبة للغرب . وعلينا أن ننظر للمسالة من زاوية أخرى ، أيكيف نتقدم ونرتفع (نحن) إلى مستوى يمكننا من الحوار مع (الآخر) ،حواراً متكافئاً ليس فقط على مستوى القدرة الذاتية لمواجهة الآخر بلأيضاً لفهمه وفهم الذات نفسها وحينما نصل إلى مرحلة من التطوروالتقدم في مجال الفكر والتكنولوجيا حينئذ تتضح السبل ويمكن أنيكون هناك حواراً منتجاً وخلاقاً . أما الآن ونحن في وضعية مابينقوي وضعيف ، مابين شمال وجنوب ، هذه الفوارق التاريخية تمنعالتواصل وتمنع من وجود لغة وفهم واحد لنفس القضايا والمشاكل.
إن نفي الآخر ليست مشكلة فكرية جدلية بين المشتغلين بالبحثالإسلامي فقط ، ولكنها مشكلة مثارة في الواقع العربي المعاصر علىصعيديه السياسي والاجتماعي . فإننا نخطئ حينما نفصل بينالواقع الفكري وبين المناخ السائد العام في أي منطقة ، بمعنى أنالمسألة ليست مسألة سلفيين وتقدميين فعلينا أن ننظر إليها من خلالرؤية للواقع الفكري والاجتماعي والسياسي بشكل عام . هذه نقطة ،والنقطة الثانية ، ينبغي أن نتفق على تعريف لمفهوم السلفية، فهذهالصفة لاأفهم كيف تكون حكراً على طرف دون الآخر، وكذلك أرفضأن تكون التقدمية حكراً لأناس معينين ، فكل مسلم حق هو سلفيبمعنى أن ارتباطه لجذوره لا يقبل الانفصال . وهذا فهم أكثر مرونةللتعاليم وكلنا سلفيون ، وإطلاق هذا الوصف على فئة من الناس هوظلم للسلفية ولهؤلاء الناس وظلم لمدارس الفكر الإسلامي المحافظةوالمتحررة.
إن نصوص القرآن الكريم جاءت مقرّة بالاختلاف ، حيث قال تعالى:- ((ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)) . فنفي الآخر فيه انتهاك لسنةكونية وخروج عن الإطار الذي مارسه سلف الأمة ، وأحسب أن هذهالقضية ليست مقصورة على السلفيين ، ولكنها قضية واقع سياسيواجتماعي . وعلى الجانب الإسلامي أقول إن صفحتنا بيضاءوناصعة ، ففيها اعتراف بالآخر واحترام له وكوننا خرجنا عن هذاالسياق وتشكلت عقولنا بشكل مختلف فالإسلام بريء مما نفعل . وواقعنا السياسي والاجتماعي هو المتهم الأول . إننا نظلم الإسلامكدين وكحقيقة تاريخية وفكرية عندما نعتمد عليه كأيديولوجية للنضالأمام الظاهرة الغربية.
الإشكالية الثالثة:- التبعية للآخر المختلف
تطرح هذه الإشكالية بشكل جديد على أيدي من يسمون بـ(التراثيينالجدد) أو (السلفيين الجدد) . والذين يدعون إلى قطيعة معرفية(ابستمولوجية) مع الغرب نشداناً للاستقلال الحضاري ، وهؤلاءينزعون عن علوم ومعارف الغرب صفة الحياد في محتواها المعرفيويتهمونها بالقصور والمعاداة.
ـ هل هذا الموقف / الإشكالية ، يعتبر امتداداً للخطاب السلفي المعروف؟
إن قضية التبعية المطروحة في الخطاب العربي المعاصر تدل علىتناقضات كثيرة نعيش فيها . وعند طرح هذه القضية على مستوىسوسيولوجي وتاريخي يتوجب علينا أن نتساءل ، من يطرح هذا الكلام(الانفصال المعرفي) في مجتمعاتنا ؟
فالذين ينادون بقطيعة معرفية مع الغرب ليست لهم الثقافة العلميةليدركوا أن التبعية البنيوية التي نعيش تحت ظلها في هذه المرحلةالتاريخية ، وهؤلاء الذين يتوهمون أنه بامكاننا خلق مدنية عربيةإسلامية يصدرون في كلامهم عما أسميه الخيال الاجتماعي ، لاعنتحليل واقعي واجتماعي لوضع المجتمعات العصرية . ولايفهم من هذا، أني أدافع عن تبني الحداثة المادية وإنما أصف مايوجد وأُحيل إلىأشياء اعتدنا عليها وليس لنا خيار في الرجوع عنها إلى الخلف. لاأتصور أن أي عاصمة عربية أو إسلامية قادرة على الانقطاع معالحضارة الغربية ، إذ لن تقدر على خلق هذه التكنولوجيا المستوردةمن الغرب خلقاً جديداً . وهذا التوهم بأنه يمكننا أنجاز حضارة خاصةبنا لايدرك أننا منقطعون عن المصادر الكلاسيكية للفكر العربيالإسلامي.
ـ أين هي الحضارة العربية الإسلامية ؟
إنها في كتب وفي بعض الآثار التي بقيت ، بل أقول أن معظمهامخطوطات في مكتبات أوربية . وهذه المخطوطات لم يُخرجها لنا هؤلاءمن يدعون إلى القطيعة مع الغرب حتى على الأقل نقرأها ، لعلنا بعدذلك نجد فيها شيئاً يساعد على إحياء الحضارة العربية الإسلامية . وأحب أن أسأل كذلك ، هل هناك من العلماء من يعتني بتحقيقالمخطوطات القديمة بشكل متواصل ويسعى إلى جمعها في مكانواحد ؟ لاأحد بالتأكيد يقوم بهذا الجهد العلمي ، ولاأقول هذا الكلامجزافاً بل أقوله كباحث في مجال التاريخ والفكر العربي، والذينينادون بإزالة وضعنا التبعي المعاصر ، ليسوا بفلاسفة ، والفلسفة هناضرورية ، وأعني بها الفلسفة التحليلية.
وأحب أن أشير إلى مسألة معروفة ، وهي أن العلم عالمي لاوطن له ،فلاتوجد معرفة خاصة بالمسلمين أو بالمسيحيين أو معرفة خاصةبالغربيين … وعندما نعتقد غير هذا فنحن نرتكب خطأ تاريخياًفاحشاً.
ولو أحيينا الفكر العربي الإسلامي في زمنه المنتج ، فماذا سنجد ؟سنجد ابن رشد وابن سينا والرازي والتوحيدي ، حولوا المنظومةالمعرفية العربية الإسلامية من معلومات وفكر اليونان ، بالإضافة إلىالمعطيات المعرفية الصادرة من الوحي الإلهي.
ابن رشد مثلاً هو نفسه أكبر شارحي مؤلفات أرسطو . أتمنى أن نرجعلهذا التراث الذي يطالبون بالعودة إليه . فلنرجع ، عسى أن نخرج منالتناقضات التي هي في معظمها تناقضات أيديولوجية ، ولو تجاوزناأيديولوجية النضال لأصبحنا أحراراً فكرياً ، ننظر إلى مشكلة المعرفةبرؤية العلماء لابرؤية الأيديولوجيين المناضلين ، نفكر بمشاكلنا علىأساس من الواقع حتى ننجو من هذه التخيلات القاتلة الموجودة فيرؤوس البعض.
إن الفصل بين التبعية والتواصل والصدام والتداخل بين الثقافاتمدخل رئيسي إذا ما أردنا معالجة هذه القضية.
هذا عصر من سماته الأساسية تداخل الفكر وانتقاله بوسائل حديثة ،وهذه الوسائل تلغي الحواجز والحدود حتى وإن كانت هناك حدودفهي تختصر بسرعة، ولذلك فإنه لايمكن لمجتمع متمدن أن يعزل نفسهويتحصن من تلقي الأفكار . شئنا أم أبينا فنحن داخلون في عمليةاتصال مع الفكر العالمي الذي ليس بالضرورة فكراً غربياً . صحيح أنالفكر الغربي هو المهيمن لكن هذا الفكر يضم كذلك مساهماتأصحابها ، والذين هم ليسوا من الغرب أحياناً بل من المهاجرين أوالمتجنسين.
والتبعية في رأيي ، ظاهرة عصرية ، فما دامت هناك قوة إمبرياليةتسعى إلى الهيمنة عسكرياً واقتصادياً وثقافياً ، فلابد أن تكون هناكشعوب هي موضوع لهذه الهيمنة ، وفي ميدان الفكر إذا ما أردنامعرفة التبعية بكيفية خاصة فيجب ربطها بمفهوم أصبح دارجاًومستعملاً بكثرة ، هو مفهوم المركز المحيط الذي يقع في الغرب مثلاًوترتبط توابع بخيوط معينة مع هذا المركز.
وهذا الربط نجد أصوله في الظاهرة الاستعمارية في البلدانالمستعمرة ، فنجدها مازالت مرتبطة نوعاً ما في نظم تعليمها وطريقةتعاملها مع لغتها وثقافتها بالمستعمر . هنا تبدو التبعية وكأنها اختيارغير مباشر لظاهرة الاستعمار كما كانت ، لكن التحرر من هذه التبعيةعلى الصعيد الثقافي فظني أنها تتواصل بنجاح، حتى أولئك الذينيجهلون ثقافتهم الوطنية بحكم الاستعمار أصبحوا يبدعون فيها ، أماأولئك الذين لم يستطيعوا بعد الاندماج في ثقافتهم الوطنية ، فهم فئةقليلة وبالتالي حقلهم المعرفي أراه غير مؤثر . صحيح أن الأمر لايخلومن مثقفين يتعاملون مع الفكر الغربي تعاملاً غير نقدي ويعمموننظريات الغرب ومفاهيمه على أنها مطلقة ولايميزون ما بين ما هوإنساني وعلمي وما هو خاص له علاقة معينة ووضع وتجربة خاصة.
فالذين يدعون إلى قطيعة معرفية مع الغرب ، إنما يدعون إلى نوع منالاهتمام بالذاتية وبتحصينها ومحاولة الإبداع داخل الذات العربية . هؤلاء في الحقيقة ليسوا بـ(التراثيين الجدد) أو بـ(السلفيين الجدد) ،لأن التراثية/السلفية الجديدة عبارة عن تيار أو اتجاه تبلور من خلالالكفاح الوطني ضد الاستعمار ، ومن شروط كفاح المستعمر النهضةوالتحديث ، فكانت تراثية / سلفية تحديثية . لذلك ، لم يثر تبني الأفكارالتحديثية أي تشنجات ولم تكن هذه الحركة تؤدي أي وظيفة طائفية ،فاتجهت إلى استلهام الماضي من أجل تأكيد الذات باستعمال أدواتالحداثة ، والمستقبل لخلق مجتمع ووعي معاصر.