حين يتم تحليل أي نص من النصوص الشعرية لـ(محمد الماغوط) أو (ادونيس، على احمد سعيد) سنتيقن؛ إحساسا.. وتذوقنا.. وتقيما.. بقيمة الإبداع الشعري في مكامن أسلوب بنائها الشكلي والموضوعي، حبكة.. ولغة.. وبلاغة.. وكيف يكون توظيف الأفكار.. وبناء المفردات.. والدلالات.. والرموز.. في القصائد؛ كشكل من إشكال عدم المباشرة والاتجاه نحو الغموض الدلالي لها؛ لتحفز القارئ إلى التأمل.. والبحث.. والتمعن.. والتحليل.. عما هو المقصود وكشف ألغازها وإيحاءاتها وبكل ما تأتي القصيدة من هذيان.. وتناقض.. ومفردات تورد خارج نطاق اللغة والدلالة؛ وكيف الشاعران يجعلان من النص الشعري موازيا للفكر الإبداعي موضوعا قبل إن يأخذا بعده الشكلي؛ كقصائد حرة معاصره تواكب (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) مبتكرة وفق قوالب الفكر لتخدم قصيدة الشعر العربي الحر المعاصر.
فقصائد (الماغوط) و (أدونيس) قصائد تحمل كل السمات (الحداثة) في الشعر العربي المعاصر، حداثة اللغة.. والمفردات.. والدلالات بغير ما تحمله المفردة لما هو متداول وشائع الاستعمال، مفردات لها القدرة في صناعة البنية الشعرية الحديثة بلغة وذاكرة تواكب عصر (ما بعد الحداثة)، لتفتح نافذة كونية جديدة في عالم الشعر العربي المعاصر؛ ليكون هذا الشعر المقدم في مجمل دواوينهم الصادرة؛ شعرا معاصرا يواكب متطلبات الحياة (ما بعد الحداثة) ليعيد ابتكار ذاته بلغة معاصرة متجددة مع تجدد الحياة؛ وكأنها لغة بمنطق (انك لن تنزل البحر مرتين) وفق الفهم الفلسفي؛ لتبقى القصائد بمفردات ودلالات نابضة بالحياة بعيدة عن النمطية، لا تقلد الواقع، ولا تنسخه كما هو؛ بل تأتي بمفردات وصياغات تواكب مع ما في ذات الشاعر وهي تعيش النفي.. والاغتراب.. والعبث.. والسخرية من الواقع والوجود وبشكل سريالي، ذات قلقة.. متعبة.. متوجسة من مصيرها ووجودها؛ ليكون اغتراب الشاعر هو رافد من روافد الاحتجاج.. والصراخ.. والرفض.. ورغبة لثورة والتغير على الواقع العربي والتمرد علية؛ ليلهب مشاعره المتوجعة بصدق وبحرارة العاطفة؛ وهو يكتب الشعر محموما بالحرقة.. والحسرة.. والشكوى، وهذا الضغط النفسي هو ما يقود (المفردة الشعرية) بان تأتي بغير استعمالها بقوة وبدلالة المضمون الشعوري، ولهذا نجد مفردات (الماغوط) و(أدونيس) أكثر دلالة بكونها مفردات خرجت من وضعها اللغوي وتحررت كما تحررت ذات الشاعر لتولد معاني وتضيف للغة الشعر صبغة معاصرة التنوع وفق معطيات الرؤية والخيال، وكان لغة قصائدهما تعيد إنتاج وصياغة اللغة و رفدها بالجديد كحالة مواكبة مع تطورات العصر وتأثيرات الحروب وأزمات الإنسان العربي (ما بعد الحداثة)، فالبحث عن المتنفس والحرية هو سبب جعل الشاعر (الماغوط) و(أدونيس) إن ينطلقوا ويكسروا الرتابة والجمود والتقليد برفض التقيد، (لا) بقواعد اللغة، و(لا) بالأوزان الشعر، و(لا) بأي شيء، لأنهما لم يعد بوسعهما احتمال ضغوطات الحياة أكثر مما هي عليه، وهذا الإحساس قد مس باطن الشاعر؛ وهذا ما خلف في إنتاجه الشعري مؤثرات أدى إلى انفجارها في لغة شعرية معاصرة فجرت مفرداتها اللغوية بعيدة عن معانيها القاموسية المجردة؛ لتضيف لشعر العربي تنوعه بصبغة معاصره و وفق رؤية للعالم المتغير يحاصر الإنسان باغترابه، هذا (الاغتراب) الذي فرض نفسه وحضوره ليتوغل إلى كل مفاصل الحياة الاجتماعية المعاصرة – وبكل عمق – ليلازم المجتمعات الإنسانية كظاهرة وقع (الفرد) أسيرها؛ بعد إن داهم (الاغتراب) حياته.. ومحيطه.. ومجتمعه.. ليفرض وجوده – ليس على الإنسان فحسب – بل على الفكر الثقافي والاجتماعي والسياسي، ليأخذ مداه كظاهرة في الفكر الفلسفي والنفسي التي كانت لها دورا عظيما أثرت كثيرا في الإعمال الأدبية والفنية؛ لتلفح ذات المبدعين بهذا الواقع؛ بعد إن دخلت المجتمعات العربية في عصر (ما بعد الحداثة) أسوة مع المجتمعات الأوربية، ليجد كل إنسان ذاته في حالة غربة قاسية بما تصاحبها من عدم الرضا والتواصل مع الآخرين؛ فيجنح إلى العزلة والتمرد؛ بعد إن تيقن بأنه يعيش في وجود مغلوط؛ وهذا ما يقوده إلى العبث.. والسخرية.. والتمرد.. وهو متوجسا من وجوده يطرح أسئلته الاحتجاجية بمشاعر صارخة رافضة نلتمس صدقها وفق جمل محمومة بالحسرة.. والشكوى.. والحرقة.. كما يطرحها (الماغوط ) و(أدونيس) في اغلب مجاميعهما الشعرية، لنستشف من خلالها مدى تأثير الواقع على الإشعار لدرجة التي يعري الشاعر واقعه بإحساس مشبوب بالحزن والأسى؛ لان ذاته ظلت ترصد الواقع في حالة شعورية وعومه يتدفق في نبض (الاغتراب الموجع)، وهذه الرؤية هي التي تكون حاضرة ومقروءة في دواوين وقصائد (الماغوط) و(أدونيس)، ولهذا فان انجازات الشاعريين (الماغوط) و(أدونيس) على صعيد الحركة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة لا يمكن تجاهلها لحجم تأثيراتهما على الإبداع الشعري والتنظير الإبداعي في الفكري العربي (ما بعد الحداثة)؛ وكان الإبداع متحد بنصوص الإشعار التي قدموها وفي معانيها وأفكارها؛ وكان القصيدة (الماغوطية) و(الادونيسية) هي الأخرى تطرح أسئلتها الفلسفية لقارئ العربي كما تطرحها الفلسفة، فهي أسئلة مثارة بفكر جديد؛ أسئلة لتكون كالفلسفة جوابها معلقا، لتكون قصائدهما مفتوحة لكل الاحتمالات الممكنة والغير الممكنة وكاندماج موازي مع مظاهر الاختلاف والتنوع الحياة الشرقية في عموم منطقتنا العربية ضمن رؤية تتميز بشموليتها الموحدة سلبا وإيجابا.. معاناة وحب.. وهموم ورغبات.. وكبت ونرجسية.. وازدواجية وسادية.. ومازوخية واعتدالية.. وعزلة.. واغتراب.. وتسكع بلا حدود.. ليكون بلاغة التخطيط الفلسفي والإبداعي لقصائدهما فكرا يصلح لتحليل واقع الشرق تحليلا واقعيا لأنهما في كل ما كتبوه من قصائد؛ ارتبط بقضايا المجتمع وبتجارب معاشه ويعيشها الشرقي، نصوص شعرية تنطلق بفلسفتها بمبادئ المنطق والمعرفة والأخلاقيات؛ لتفرز معطياتها انطلاقا لانفتاح النص الشعري على المقولات الفلسفية التقليدية والحديثة منها؛ لتتجه القصائد اتجاها عقليا واتجاها عفويا وبالنقد والتحليل لواقع الاجتماعي السائد في بلداننا الشرقية وبنظرة إنسانية .
ومع ذلك فان (الماغوط) و(أدونيس) كثيرا ما تجاوزوا المباشرة بالنقد في كتابة الشعر؛ معتمدين الإيحاء.. والرموز.. واستخدام الأساطير على سلبيات الواقع العربي، وهذا ما قاد القصائد (الادونيسية) و(الماغوطية) في عرض صورها عبر المخيلة الإبداعية لتعبير عن منطلقات فكرية؛ ولهذا نرى حجم الكثافة الفكرية في قصائدهما معمقة باتجاه الفكر الفلسفي والنفسي والاجتماعي من اجل أغناء كتباتهما الشعرية برؤية ثقافية موسعة وبأداة ولغة شعرية مؤثره بما تحمله من مفردات غنية بالعواطف والمشاعر والأفكار؛ لان حالة الوعي لدى (الماغوط) و(أدونيس) بطبيعة أوضاع القائمة في منطقتنا الشرقية وبطبيعة معاناة الإنسان العربي هو ما قادهما لهضم الأفكار الجديدة؛ وهو الأمر الذي قادهما على تطوير أفكارهما بما أثمر في انجازاتهما ابتداء بديوان (حزن في ضوء القمر – 1959) و (غرفه بملايين الجدران- 1960) و (الفرح ليس مهنتي – 1970) لـ(محمد الماغوط)، أما عند (أدونيس) فكان في (قصائد أولى – 1957) و(أوراق في الريح – 1958) و(أغاني مهيار الدمشقي – 1961) – وهنا في هذا المقال لا احدد مقاطع من هذه القصيدة أو تلك سواء لـ(الماغوط) أو (أدونيس) كنماذج لما أقوله؛ بقدر ما أشير إلى دواوين كنموذج عام عن مجمل إعمالهم الشعرية؛ لان الصورة الشعرية التي يقدمها الشاعر تكون في مجمل قصائد الديون أوضح واشمل وأدق من مقطع أو قصيدة من هنا أو من هناك – وهذه المجاميع الشعرية هي التي احدث نقطة تحول ليس في أشعارهما فحسب بل في عموم الشعر العربي المعاصر؛ وهو ما كان يجذبنا نحن المتذوقون أشعار (الماغوط) و(أدونيس) لأننا وجدنا ضالتنا لتذوق الأدب الرفيع من خلال منعطفات الفكر في قصائدهما؛ وتوغل معها إلى أعماق التاريخ.. والفلسفة.. وعلم النفس.. وعلم الاجتماع؛ لتوسيع مدارك الفهم للمخيلة الإنسانية في كيفية تعامله مع البيئة والأخر، وتفاعل الإنسان ليس معهما فحسب بل مع نفسه؛ لان عملية فهم الأخر عملية ليست سهلة؛ إذ ما اتجهنا اتجاها (سارتريا) باعتبار (الآخرون هم الجحيم)، لان لا محال إن الواقع الاجتماعي يؤثر سلبا وإيجابا على الثقافة السائدة، لان أزمة الإنسان المعاصر كما تتطرق إليها قصائد (الماغوط) و(أدونيس) هي أكثر قصائد حداثة ومعاصرة؛ عبرت بكل وفاء عن تعقيدات العصر والإنسان الضائع في متاهة اللامعقول وما أفرزته (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) من قيم الاغتراب في مجتمعاتنا، فبين الاندفاع والتراجع خلق هذا البعد النفسي القاهر في المجتمع وخاصة عند شريحة الشباب الذين أصبحوا – سواء بإرادتهم أو دونها – جزء من عملية ترسيخ الثقافة السائدة في تحضر المجتمعات؛ باعتبار (العولمة) طوقت مسيرة حياتهم وأباحت محيطه كجزء من هذا المحيط الكوني، فهو أي (الفرد) وقع أسير لواقع الاجتماعي وبين مؤثرات الواقعة علية من خارج محيطه وبيئته الاجتماعية، لان أزمة الحياة وقعت حين أصبحت الحياة بصورة عامة أسيرة (العولمة) وإمراضها أو ايجابياتها؛ بترسيخ ثقافات غريبة عنه وهو مرغم في تعامل معها، ولهذا بدا هذا (الفرد) يعاني اغترابه ويشعر بالقلق.. والتمرد.. والتقوقع في ذاته.. والانطواء.. والعزلة النفسية؛ ليجد نفسه بين ليلة وضحاها (إنسان بلا إبعاد) كما قالها (هربرت ماركوز)، فضمن هذه المعانات جاءت قصائد (الماغوط) و(أدونيس) مفعمة بالعالم الاغتراب.. والتمرد.. والوجود المتناقض.. والعزلة.. والانطواء.. والضياع.. والهروب، قصائد تعبر عن مفاهيم الاغتراب في عالم (الحداثة) و(ما بعد الحداثة)، فالحب.. والموت.. والحرية.. والمرأة.. مفردات تجدها حاضرة في نصوص (الماغوط) و(أدونيس) وبتجارب عنيفة تمزقها قوة الاغتراب.. والضياع.. والتمرد.. مع أزمة الإنسان مع الوجود، ليكون محور التعبير عن أفكارهما هي أفكار وهموم وطموحات الشباب والإنسان العربي الواعي؛ التي وجدنا فيا متنفسا عميقا عما كنا نعانيه منه ونحن نعيش في العالم العربي ونتطلع إلى أفاق الشعر المعاصر، فوجدنا من قصائدهما متجانسة مع مواقفنا وطموحاتنا من ناحية، ومن ناحية أخرى متجانسة مع الوجود الإنسان وبحثه عن الهوية، تلك التي أفرزتها حالة الاغتراب في المجتمع وعكست اتجاها في الشعر العربي الذي جسده (الماغوط) و(أدونيس) تجسيدا إبداعيا؛ وقفنا إمامه ونحن نجمع أشلائنا الممزقة بالاغتراب ونحن في حالة وعينا.. وإدراكنا.. وفهمنا.. لطبيعة هذا التمزق الداخلي؛ وهي اقسي حالات التمزق؛ حين يعي الفرد وهو في حالة الوعي وهو يعيش الاغتراب في وطنه وفي محيطه وبيئته؛ ليجد أعماقه تصرخ وهي تهرب ولا يعلم إلى أين ….؟
وفي خضم هذه الإشكالية؛ كنا نقرأ قصائد (الماغوط) و(أدونيس) بوعي لتمزق أعماقنا بصرخاتها.. وبصرخاتنا.. وبصرخات المغتربة مع ذات الإنسانية وهي تذوب.. وتذوب حتى التلاشي والضياع .. ليكون القلق والتمرد حاضر معها يستبد بها لأنه – أي الإنسان – يعي وسط هذا العالم من الاغتراب؛ بأنه ماضي إلى العدم؛ وان العبث هو هذا التشبث في اللاماهية لكل ما يحيط بنا؛ فيتعمق فينا الملل.. والجنون.. ولن نقول له وداعا؛ بكون أداء وجودنا مع متطلبات الحياة منغمس بالضجر.. وللامبالاة.. والعبث.. وهذا ما يقودنا إلى التوحش.. والضياع؛ لنكون قطبا لاستقطاب النكبات؛ لنرصد عجزنا ونحن في حالة الشلل لا نتأقلم مع عبث الحياة واغترابها؛ لنكون وجها لسريالية بمفهوم (اندريه بريتون)؛ نواكب فيها تدميرنا الذي نشعر به والذات تتحطم في أعماقنا مع كل بعد يزيد من تهميشنا وفقداننا للهوية، وهذه الرؤية (الماغوطية – الاودونيسة) شكلت عندنا معاني الانتماء لاغترابنا وتسليعها فيها، بعد إن أصبح الإنسان جزءا من (التشيؤ) بفعل التكنولوجيا والثورة الصناعة ومنتجاتها؛ لدرجة التي عمقت غربة الشعر عند (الماغوط) و(أدونيس) فواكبا تأملاتهما في هذا الصراع وهذا الضياع لقيمة الإنسان وجوهره؛ بعد إن التمسا واقعا مريرا يغطي كل أوجه الحياة في واقع مجتمعاتنا الشرقية، حيث الهزائم والاستبداد والقمع والتراجع، وهو الأمر الذي عمق مشاعر الاغتراب والبحث عن الهوية لدى شريحة واسعة من أبناء هذا الجيل وهو ما قادهم إلى العزلة والاغتراب، وبطبيعية الحال في ظل هذه البيئة المتعبة؛ فان إنتاج الإبداعي لمبدعي جاء موازيا مع طبيعة هذا الواقع؛ فكان الإنتاج الشعري لـ(الماغوط) و(أدونيس) خير معبرا عن هذا الواقع؛ لتكون أشعارهم متنفسا لجيل يعاني العزلة والاغتراب، لتكون أشعارهم ملازمة في وجدانهم لحالة الاغتراب الإنسان عن عالمه؛ بعد إن وجد الإنسان أزمته الفكرية مع مجتمعه؛ وعدم تقبله لهذا الاستبداد والتراجع والقهر؛ وعلى كل المستويات الثقافية.. والاجتماعية.. والسياسية.. والاقتصادية؛ وهي من جملة مسببات العزلة الإنسان العربي التي نجدها واضحة في أشعار (الماغوط) و(أدونيس)، وهي التي فتحت أبواب الاغتراب الإنسان عن مجتمعه بما ليس له حلا في الأفق المنظور؛ ليكون الاغتراب والعزلة سمة لدخول الإنسان إلى أفق الفلسفة الثورية والبحث عن التغير لتصحيح حالة الوعي السائدة في مجتمعاتنا العربية، نتيجة لتأثير بالفكر الغربي؛ وهذا ما أدى إلى إحداث تغيرات جذرية في نمط الحياة وعلى مستوى الاجتماعية.. والسياسية.. والثقافية.. في العالم العربي المعاصر، وهذا ما احدث بدوره تغييرا مماثلا في أنماط الفكر والقيم بما كان تأثيره واضحا في مجال الأدبي والإبداعي بما يقتضي إلى تغير نمط أساليب الشعر ألقديمه بما تواكب الحداثة والتجديد والمعاصرة .
ولهذا فان تأملات (الماغوط) و(أدونيس) في هوية هذا الإنسان قد أشار إلى إبعاد أزمة الإنسان العربي، وهو ما قاد أجيالنا إلى التعمق والتمعن في قراءة نصوصهم الشعرية، لأنهم وجدوا في قصائدهما نشرا للوعي الفكري والجمالي والفلسفي؛ بعد إن عول على ما تم سرده في قصائدهما لتغير الوعي عند المتلقي ولتكوين لديهم قناعات لنقد الواقع من اجل الثورة والتغيير، ومن اجل هذا الهدف كان إنتاج (الماغوط) و(أدونيس) بمستوى رفيع لحجم الأفكار والرؤى الفلسفية التي عمقت في قصائدهما لكي لا تكون قصائدهما مجرد نواح.. وبكاء..وندب.. وشكوى.. وآلم.. ومرارة.. بقدر ما تتجه اتجاها فلسفيا تصرخ.. وتوعي.. وتوقظ الوعي الإنسان.. كما جاءت في كتاباتهم الأخيرة، فقد قدم (الماغوط) نصوصا في هذا الاتجاه كما جاء في (الأرجوحة – رواية 1974) و(سأخون وطني – مجموعة مقالات -1987) و(سياف الزهور – نصوص – 2001) و(شرق عدن غرب الله – 2005) و(البدوي الأحمر- 2006) و(اغتصاب كان وأخواتها)، إضافة على ما قدمه من مسرحيات ومنها (ضيعة تشرين) و (شقائق النعمان) و(غربة) و(كأسك يا وطن) و( خارج السرب) و( العصفور الأحدب)، إما (أدونيس) فكان تقديمه في هذا الطرح بنصوص (منارات – 1976) و (وقت بين الرماد والورد الطبعة الثانية – 1980 ) و (كتاب الحصار – 1985) وكتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار – 1988( و (هذا هو اسمي) و (شهوة تتقدم في خرائط المادة) و (احتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة) و (أبجدية ثانية – 1994) و(أول الجسد آخر البحر – 2003) و (تنبأ أيها الأعمى – 2003) و (تاريخ يتمزق في جسد امرأة – 2007)، ومثل هكذا كتابات التي تم تقديما إلى الإنسان العربي؛ إنما أريد منه التوجه بالقول: بان الهروب من واقع مجتمعاتنا الشرقية لا ولن يكون حلا؛ بقد ما يكون، إحساسنا بجروح ومنغصات الواقع ومرارة الحياة، محفزا ايجابيا – رغم فساوته – من اجل تحفيزنا إلى الثورة والتغير، لكونه متجه اتجاها تغيريا نحو زيادة الوعي والفكر والحرية والجمال في المجتمع لما هو ما بعد التغيير، وهو هدف نسعى إليه لإيجاد أنفسنا والتعرف إليها بعد طول الضياع والبحث عن الهوية، ومن هنا يكون توجه خيال الشاعر نحو كشف ماهية العلل والأشياء بصورها الحسية المؤثرة في واقع الإنسان؛ وهذا ما يحرك خواطر الشاعر لتعبير عن هذه الصور الحسية التي التقطها وبلورها في مخيلته لتلاءم بانطلاق الافكار وتكوينها لهدف يعبر من خلاله ما يريد قوله من اجل تغيير واقع المجتمعات، وهذا ما فعله (الماغوط ) و(أدونيس) .
ولهذا فان الشاعر (الماغوط) و(أدونيس) في إعمالهما الفكرية التي بثوها في قصائدها ما هي إلا إشكال من الواقع الحسي مصاغة وفق عناصر العقل والمخيلة الإبداعية وهي التي تقوم بتوظيف هذا الجمع بين ما هو (حسي) و(عقلي) عبر أنشطة الذهن اليقظ للاحتفاظ بقالب التعبير وهما يمسكان بهذه الجمالية التعبيرية عبر قصائد شعر معاصرة، ومن هنا فان قصائد (الماغوط) و(أدونيس) تشكل هذا البعد الفكري تميزا وحسا وبصواب اختيار الجمل والمفردات المعبرة لتكون قادرة على تحكم ببناء القصيدة بدا ونتهاءا، لأنهما يدركان ما يقومان بصياغته عند بناء القصيدة كمنجز فكري هادف قبل إن تكون منجزا شعري مجرد، وهذا هو المنجز السحري في أبداع (الماغوط) و(أدونيس) عكسا في تأملاتهم الشعرية أفكار إبداعية لتكون قصائدهما محاور فلسفية وتأملات في واقع الإنسان وهمومه؛ وهو ما يؤدي بالارتقاء أعمالهم إلى مستوى تطلعات الشعوب، لأننا نجد اللغة الشعرية في قصائدهما تقدم الأفكار عبر أنماط مختلفة لتثري وتوضح الأفكار وفق ضروب إنتاجها وإظهارها في القصائد، لان كلاهما يأخذان من الأفكار الفلسفية عملا إبداعيا ومفهوما ثقافيا لنشره بين أوساط الجماهير؛ لإعادة بناء الواقع العربي وليوازي الحداثة والمعاصرة، لان الأفكار المقدمة في أشعارهما إنما أريد منها تقديم وإظهارهما ليس فحسب في الشكل وإنما أريد منها تقديم شكل فني فلسفي له خصوصيته في الأفكار التقدمية التي تناصر قضايا المجتمع ليواكب مواكبها في تغير واقعهم إلى مراحل جديدة من حقبة التاريخ والثقافة والفكر المعاصر، وبقدر إيمان الشاعرين بان (الشعر) ليس غايته وهدفه هو التعليم أو الإقناع؛ بقدر أيمنهما بان (الشعر) له دور في بناء الرؤية المستقبلية وتوجه نحو الثورية، لان الشاعر يعمل في بناء قصيدته وفق الهام خاص وثقافة ورؤية خاصة، يسخر.. ويفلسف.. ويجرد.. ويحتج.. ويدين الواقع العربي.. ليتخذوا من إيقاع الحياة اليومية مادة لقصائدهما بعيدا عن التقليد وأنماط الشعر الدارجة؛ وهو ما جذب القراء لقراءة قصائدهما بمختلف اتجاهاتهم ومستوياتهم؛ والذي يجب على الأمة العربية مواكبتها كواقع فكري أنساني شامل وكجزء من الثقافة الإنسانية بكل الاختلافات وتنوع فلسفاتها؛ فالإنسان لا يمكن إن ينسلخ عن محيطه وتأثيرات العولمة علية؛ ومن واقعه؛ ومن زمانه؛ وهو ينطلق في مسيرة الحياة على هذا الكوكب، ولهذا فهو موجود في هذا المحيط يؤثر ويتأثر بتكوين الثقافات؛ وهو بإمكانيته – مهما كانت – يستطيع تحديد وتحديث تفكيره؛ إذ تم توعيته توعية توقظ فيه إنسانيته ونظرته إلى الحياة، فيتعلم من الفلسفة مفاهيم متنوعة بما تلبي طموحاته الفكرية المتعلقة بالإنسان ذاته.. والمجتمع.. والتاريخ.. والتراث.. والمعاصرة.. والأخلاق.. ليستطيع بلورة – سلبا أو إيجابا – هذا النمط من التفكير، وهذا ما أثرى تناوله والتطرق إليه في قصائد (الماغوط) و(أدونيس) حين تمكنا بلورة المفاهيم التراثية باعتباره منطلق الفكر الإنساني؛ فنهلوا واخذوا من هذا (التراث) ومن تاريخه؛ ولكن بحذر وبتبصر دقيق ووعي وبتأني، وهما أي (الماغوط) و(أدونيس) نجدهما شديدي الحذر بالتفكير في هذا العمق من (التراث)؛ لان ليس كل ما هو في التراث ايجابي، ولهذا لا بدا من تمعن النظر فيه؛ لان في ضمنه إنتاج مختلف ومتعدد سلبا وإيجابا، ومن هنا فأنهما اخذوا من هذا (التراث) بما هو منتج بوعي دون تبعية له بشكل عمياء، وهكذا استطاع (الماغوط) و(أدونيس) تركيز وعيهما بالاختيار الأمثل من (التراث) لكي لا يسقطوا في فخ التطرف والنظرة الضيقة وتأويلات الخاطئة والإحكام المتطرفة؛ ولهذا عمل (الماغوط) و(أدونيس) على تعميق النظرة الفلسفية إلى التراث بإضاءة فكرية تسلط الضوء على معتماته وفق صيرورة المجتمع وتاريخية وحضارية من اجل تطويره وتجديده في أيطار فكري وحضاري وثقافي معاصر، ولهذا حين نمعن النظر ونقرا قصائد (الماغوط) و(أدونيس) نحس بهذا (التحديث) عبر بناء فلسفي متنوع ومتعدد الأبعاد والأهداف لدرجة التي ترقى قصائدهما إلى مرتبة غنائية متلونة بأساليب فكرية هادفة تملأها لغة (الحب)، ذلك الوجع العربي القديم منذ أيام (قيس ابن الملوح – مجنون ليلى) وهو يعصف بخواطرنا كما يأتي في قصائد (الماغوط) و(أدونيس) ولكن وفق أطروحات العصر وتعقيداته وإرهاصاته، لان (الحب) عندهما ما هو إلا لحظة هاربة؛ هيمن فيها هاجس إثبات الذات العاشق؛ وهو بين متكافئ له.. ومتراجع.. ومتساوي للآخر.. ومتناقض له.. وهذا الحكم المتناقض ما هو إلا لإشعال (فلسفة الحب) بمنظار متجدد؛ بمنظار الغربة.. والضياع.. والتمرد .. ليبحر الشاعر في عوالمه عبر الخيال ليستثمر هذا الإبحار جملة من الأفكار الفلسفية تكون أداة لتعبير عما يشعر ويحس وعما يستكين في أعماقه السحيقة من صور ومعاني الإشكال والأشياء لتي تحيط بواقعه، وهذا ما قاد (الماغوط) و(أدونيس) بان يكونان شاعران غير نمطيين بقد ما تميزا باستلهام أفكارهما بمظهر شمولي شديدة تأثيرا والإقناع وبأقل مفردات وجمل وبشكل موجز وببلاغة، لهذا فان (الغموض) السائد في دواوين (الماغوط) و(أدونيس) إنما هو آتي لطبيعة الشعر المعاصر الذي لا يميل إلى الوضوح بقدر ما يتوجه نحو الغموض لأسباب إيديولوجية ومن مواقف صعبه، ولكن ما هو مهم في الشعر المعاصر بان ليس هناك شيء اسمه (غموض) أو (وضوح) بقدر ما يتعلق الأمر بالإبداع وأساليب الإبداع التي يلجئ إليها الشاعر في تقديم نصوصه عبر مفردات يحس ويشعر بمدلولاتها النفسية في أعماقه؛ باعتبارها مدلولات نفسية شديدة الارتباط بالشاعر، وهذا ما يتطلب من المتلقي البحث عنها؛ لان المعرفة هي البحث عن تفكيك مدلولات النص الشعري؛ لأن الأشعار المعاصرة؛ لظرف الحياة وتعقيداتها؛ يلجئ الشاعر إلى الاختصارات والإيجاز واستخدام مفردات ورموز مبتورة ومتقطعة سواء بحس معرفي واعي أو بدون وعي، ولهذا فان كان الشاعر- الفنان يتجه موضوعيا إلى التعبير؛ إلا إن في كل صور يختارها لصياغة مفرداته الشعرية تكون (ذاتية) بل و(أكثر ذاتية)، لان ما يحرك قريحة الشاعر هو كل ما يتحرك ويختمر في أعماقه؛ ولهذا فهو يمضي قدما بوعي أو دونه في ترجمة أحاسيسه الداخلية ليعطي لأفكاره أشكالا خاصة مميزة بثقافته وبتكوينه المعرفي؛ ومن خلال فلسفته الخاصة باتجاه الحياة؛ والتي يعطها أبعاد مفهوميه في الفكر؛ والتي يحاول عبر الخيال إيجاد شكلا لها معبرا عن أفكاره؛ ليكون النص المقدم في الشعر أكثر عقلانية وأكثر صور لخلق تجانس (هارمونيك) جماليا في سياق السرد، بكون النص جمع ما بين الشكل (الحسي) و(العقلي)، لان الشاعر بكل ما يذهب اله في صياغة المعاني والجمل إنما يتجه اتجاها عقليا؛ ليختار قوالب الشكلية لأشعاره ويعبر بها، لان الشاعر هو أولا وأخيرا مفكر واعي يعي وظيفة الشعر وتأثيراته على كل المستويات؛ ولهذا حرص (الماغوط) و(أدونيس) في تقديم نصوص لا يمكن تجاهل تأثيراتها على طبيعة واقع الثقافي على الساحة العربية، رغم يقيننا بان ثقافة كل واحد منهما تختلف عن الأخر من حيث؛ الرؤية.. والتشخيص.. والتحليل.. والأسلوب.. والإبداع.. ولكن يلتقيان في مفهوم الحياة.. والحب.. والحرية.. والثورة.. وبضرورة التجديد.. والتغيير، فكان تأثيراتهما تأثيرات مهمة تركت أثارها في الأدب العربي المعاصر؛ بما أتيح للفكر العربي إن يقدم مفاهيم ملونه ومتعددة مستفادا من ثقافة الأخر بوعي؛ ليرهن بان الأدب العربي وتحديدا (الشعر) قادرا على الحوار مع الأخر وتأثير عليه على مستوى التاريخ.. والفكر.. والثقافة…. والقيم الإنسانية والاجتماعية والسياسية ، باعتباره جزء من أدب عالمي؛ وله تأثيرات على الفكر الإنساني، ولهذا وجدت أعمال (الماغوط) و(أدونيس) صداها في كل محافل الفكر الإنساني ولقيت أعمالهم رواجا ليس في عالمنا العربي فحسب بل في شتى أنحاء العالم؛ لأنها عبرت بصدق عن معاناة الإنسانية ولعبت دورا مهما في الحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية .
ولهذا فان تجديد الذي قدمه كل من (الماغوط) و(أدونيس) شكل بعدا إبداعيا متطورا في تاريخ الأدب العربي المعاصر؛ بكون ما قدموه من أعمال استوعبت الثقافة العربية والإنسانية بما في ذلك من تراث الإنساني والفلسفي بفعالية مؤثرة وواعية لتخلق لنا مفاهيم جديدة لواقع مجتمعاتنا الشرقية التي هي بأمس الحاجة إليها من اجل بعث الحياة؛ ليس في الواقع الثقافي بل في الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري؛ لان التنوع والتعدد الفكري هما نتيجة حتمية لـ(الحداثة) و(ما بعد الحداثة) التي دائرتها يوما بعد أخر تتسع من الخصوصية إلى الشمولية وفي كل المجالات ومستويات السلوك والإبداع .