يستدعي منا الحديث في هذه الحلقة على أن تكون البداية ببعض الملاحظات الضرورية عن الجهاز العصبي للإنسان, كي تسهل عملية الانتقال واستيعاب ما يرد في البحث من تفاصيل معلوماتية بطريقة سلسة جهد الإمكان. يتألف الجهاز العصبي بصورة عامة من قسمين مستقلين نسبيا ولكنهما متكاملان من حيث الوظيفة, هما الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي. ويتكون الأول من الدماغ والحبل ألشوكي, ويتكون الدماغ بدوره من عنق الدماغ ( الذي يشتمل على: الدماغ المتوسط, والجسر, والنخاع المستطيل, والمخ البيني ), والمخيخ والمخ.
وينقسم المخ إلى نصفين كرويين, هما النصف الأيمن والنصف الأيسر ويقابل كل منهما الآخر, ويفصل بينهما شق طولي عميق, وتوجد بينهما روابط متبادلة لتناقل المعلومات من خلال تركيب عصبي يسمى الجسم الثفني ( الجسم الجاسئ ) والذي يشبه سلك سميك. وكل نصف كروي مخي ينظم جانب الجسم المعاكس له. ويوجد نسيجان في المخ هما: القشرة المخية وهي المادة الرمادية التي يظهر على سطحها أخاديد وتلافيف تعمل على زيادة سطح المخ بمزيد من التعقيد وهي تحوي الخلايا العصبية , ويعزى إلى نموها العظيم في الإنسان تميزه على ما دونه من أنواع الفقريات من ناحية الذكاء والملكات العقلية. أما النسيج الثاني وهو المادة البيضاء المكونة من المسارات الذاهبة إلى القشرة المخية أو الخارجة منها. ويتكون المخ من أربعة أزواج من الفصوص ( أي لكل نصف من المخ أربعة فصوص ) وهي:
1 ـ الفص الأمامي: ويقع في الجزء الأمامي من المخ يفصله عن الجزء الخلفي أخدود رولاندو ويفصله عن الجزء الأسفل أخدود سيلفيوس, وهو مركز الوظائف العقلية كالحكم والتقدير والدليل المنطقي والتدبير ورسم الخطط, والجزء الخلفي منه مختص بالحركة الإرادية. وفي نصفه الأيسر ( عند الغالبية العظمى من الناس ) تتموضع المنطقة الحركية للكلام ( منطقة بروكا ).
2ـ الفص ألجداري: ويقع في الجزء الخلفي من المخ في الجهة العليا من أخدود سيلفيوس, وهو متخصص بالإحساس الذي نطلق عليه ( الإحساس الغير متخصص ), كالإحساس بواسطة اللمس, والإحساس بالوضع, وبعض عناصر الإحساس بالألم والإحساس بالتغيرات في درجة الحرارة.
3 ـ الفص الصدغي: ويفصله عن الفصين الآنفي الذكر أخدود رولاندو وسيلفيوس, وهو متخصص في السمع والسمع الدقيق, وسنأتي على ذكره في ثنايا البحث.
4 ـ الفص القفوي أو القذالي: وهو أصغرها حجما ويقع في المؤخرة إلى الجهة السفلى من المخ. وينحصر اختصاص هذا الفص في استقبال السيالات البصرية وتقديرها وتقويمها.
في ضوء المعارف العلمية المعاصرة أصبح من نافلة القول أن الدماغ يلعب دورا أساسيا في تنظيم نشاط الإنسان العقلي والسلوكي, بما في ذلك نشاط أنتاج واستقبال الكلام. إن جدية البحث العلمي في العلاقة بين نشاط الإنسان وتركيب الدماغ بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويستخدم للبحث في الدماغ أسلوبان أساسيان مكملان لبعضهما: الأسلوب التجريبي والأسلوب الاكلينكي ( العيادي ). ويستخدم الأول في الأبحاث على الحيوانات, ولاعتبارات أخلاقية لا يمكن استخدامه مع الإنسان. ويقوم الباحث في هذا الأسلوب بتلف بعض أجزاء مختارة من دماغ الحيوان ثم يربط ذلك بالتغيرات الحاصلة بعد انجاز المعملية الجراحية, حيث أن التفاصيل الملاحظة لاحقا في التغيرات السلوكية للحيوان تسمح بالاعتقاد أن هناك ارتباطات بين تركيبات دماغية محددة والسلوك الصادر. إن جزء من التجارب الدقيقة من هذا النوع واستخدام عينات كبيرة لهذا الغرض سمحت للعلماء بالوصول إلى نتائج هامة. إن العديد من النتائج التي تم استخلاصها من التجارب على الحيوانات كان لها تطبيقاتها أيضا على السلوك الإنساني, ولكن هناك أنواع من السلوك خاصة بالإنسان وحده. نوعز هذا السلوك الإنساني ( على سبيل المثال لا الحصر ) إلى النشاط الكلامي. إن الدراسات التشريحية المقارنة لدماغ الإنسان والحيوان تدعونا للتساؤل:
أي التركيبات الدماغية موجودة لدى الإنسان ولا يوجد نظيرا لها عند الحيوان؟ هذا التساؤل يقودنا إلى استنتاج مفاده إن التركيبات الدماغية الإضافية التي تظهر في دماغ الإنسان هي المسئولة عن النشاط الراقي ـ السلوك الإنساني الخالص. أن أسلوب التشريح المقارن ( والذي يمكن اعتباره الأسلوب الثالث بعد الأسلوبين المذكورين ). يجب أن يكمله الأسلوب الاكلينكي ( العيادي ). إن الطريقة الاكلينكية تستند إلى ملاحظة ووصف الأضرار الطبيعية ( العمليات المرضية, الصدمات الميكانيكية, والإجراءات الجراحية ) وكذلك وصف وتصنيف مختلف أشكال اضطرابات الآفازيا ( الحبسة الكلامية ) ـ ونقصد هنا بالآفازيا أو الحبسة الكلامية هو الاضطرابات الكلامية في مستوي الإرسال والاستقبال والناتجة من إصابات أو تغيرات مرضية في عمل الدماغ !!!!.
أن البحث في الدماغ بواسطة الأسلوبين المذكرين أدى إلى تكوين مفاهيم مختلفة في موضوع أسس نشاطه. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر ما يسمى ( بمفهوم التموضع الضيق للوظائف الدماغية ), وكان الدافع الرئيسي لظهور هذا المفهوم هو اكتشاف العالم الفرنسي الجراح ( بروكا ) عام 1861 لما يسمى بالمركز الحركي للكلام. وقد أكد العالم المذكور أن تلف هذا المركز( يقع هذا المركز في نصف المخ الأيسر في الفص الجبهي في الأجزاء الخلفية الثانية والثالثة الجبهية) يؤدي إلى اضطرابات في الكلام مع الاحتفاظ بالقدرة على فهم الكلام. هذا المركز يطلق عليه ألان مركز بروكا نسبة إلى العالم المذكور. وفي أبحاث لاحقة تم تحديد وجود مركز لفهم الكلام سمي بمركز فيرنيكا ( يقع هذا المركز في التلافيف العلوية الخلفية للفص الصدغي في نصف المخ الأيسر ) نسبة إلى مكتشفه العالم كارل فيرنيكا, وكذلك تم اكتشاف مركز للكتابة وآخر للقراءة وما شابه ذلك !!!!.
وفي ضوء نتائج هذه الأبحاث فان أنصار مفهوم التموضع الضيق أكدوا وجود مراكز محددة في الدماغ مسئولة عن أشكال معينة من سلوك الإنسان ووظائفه العقلية, بما فيه طبعا اللغة !!, وأن أي أذى أو تلف لهذه المراكز يؤدي إلى اضطراب أو اختفاء السلوك المرتبط بها. وهذه المراكز متصلة مع بعضها بواسطة ارتباطات عصبيه خاصة تسمى الطرق الموصلة والتي تؤمن تبادل المعلومات وتحويلها. كما إن الأذى الذي يلحق بهذه الطرق الموصلة هي الأخرى تؤدي إلى اضطرابات في عملية إرسال واستقبال الكلام.
لقد أكتسب مفهوم التموضع الضيق شعبية واسعة, ولكنه فقد أهميته بوقت قصير, حيث اتضح أن نتائج أبحاث مؤكدة على الدماغ لا يمكن تفسيرها في ضوء هذا المفهوم. ويمكن تناول هذه المشكلة في ثلاث نقاط رئيسية:
1 ـ إن نشاطا واحدا ومحددا يمكن أن يخضع للاضطراب في حالة تعرض عدة تركيبات دماغية للأذى. أن هذه الحقيقة تبقى بتناقض منطقي مع المفهوم الذي يؤكد وجود مركز واحد محدد لوظيفة واحدة ومحددة.
2 ـ إن الأذى الذي يلحق بمنطقة غير كبيرة في الدماغ يؤدي إلى اضطراب وظائف مختلفة. ووفقا لمفهوم التموضع الضيق يجب أن نقبل الافتراض التالي: إن في هذه المنطقة الغير كبيرة تتموضع كل مراكز الوظائف المضطربة, وهذا ما لا يتفق مع طابع المعرفة الحالية.
3 ـ إن التلف الكامل لمنطقة محددة في الدماغ لا يعقبه دائما توقف للوظائف المرتبطة بتلك المنطقة, مع العلم أن الأنسجة الدماغية التالفة لا تخضع لعملية تجديد مرة ثانية, وغالبا ما يلاحظ عملية استعاضة للاضطرابات المتسببة من الأضرار. وينتج من هذا انه في حالة عدم وجود مركز دماغي معين, فان الوظيفة المرتبطة بهذا المركز يمكن أن تعاد حيث يمكن الحصول على نتيجة بفضل تركيبات دماغية أخرى !!!.
لقد أدت هذه الصعوبات ببعض الباحثين إلى رفض مفهوم ” التموضع الضيق “, وعرض وجهة نظر أخرى ترى أن الدماغ يعمل ككل وأن أجزاءه ذات قيمة متساوية في تحديد سلوك الفرد. إن باحثين أمثال: ( فلورنس, وجاكسون, وكولتز, ولاشلي وكولدستاين ) أكدوا أن الأنسجة الدماغية ذات قيمة واحدة من الناحية الفسيولوجية. إن الاضطراب في سلوك الشخص لا يعتمد على المكان الذي الحق به الأذى ولكن يعتمد على درجة اتساع هذا الأذى. واستنادا إلى وجهات النظر هذه, ” فإن الدماغ هو أساس الحياة العقلية, وان الدماغ في تنظيمه للإشكال المعقدة من السلوك يعمل ككتلة وظيفية غير متخصصة. إن هذا المفهوم هو استجابة ضد مفهوم التموضع الضيق, ويطلق عليه ” المفهوم ضد التموضعي ” أو مفهوم ” العامل الواحد “.
أما النظرية المعاصرة للآليات الدماغية للكلام فأنها تنظر إلى الدماغ كمجموعة عناصر متنوعة تدخل في منظومات تفاعلية دينامكية مختلفة بهدف تحقيق وظائف محددة. ومن هنا أيضا أن النظرة الحديثة تؤكد على التموضع الدينامكي للوظائف الدماغية أو مفهوم المنظومة الوظيفية. وقد أكد الكاتب ” ماروشفسكي ” أن العالم الروسي بافلوف ( 1916 ) هو الذي نبه إلى هذه الإمكانية الوظيفية للدماغ, ومن ثم بعده العلماء الروس أمثال لوريا, فيجوتسكي وآخرين. ويلخص لنا الكاتب ” وايتيكر ” وجهة النظر الحديثة هذه بالشكل الآتي: ” إن أكثر من قرن ونصف من الأبحاث المكرسة حول الجهاز العصبي للإنسان وارتباط السلوك به أعطت نتائج لا تقبل الشك, بأن الدماغ ليس كتلة نسيجية غير متنوعة وموحدة وكفؤة في كل مساحاتها للسيطرة على كل سلوك العضوية. أن مختلف مناطق الدماغ تمتلك تركيبات متميزة, وكل جزء منها له مساهمة ( أو ليست له مساهمة أبدا ) في مختلف أنواع السلوك ” .
إن تحليل نشاط الدماغ يدفعنا إلى التذكير بظاهرة الهيمنة الجانبية, أي تخصص نصفي الكرة المخيين في توجيه نشاطات محددة من الجسم. فالبنسبة لنشاط الكلام فعند اغلب الناس يكون الجزء المنظم لهذا النشاط هو النصف الأيسر من المخ ( النصف المهيمن ), وعند قلة قليلة من الناس يكون الجزء المهيمن هو الجزء الأيمن , وعند مجموعة محددة من الناس تنعدم لديهم عملية الهيمنة الجانبية لآي جزء من أجزاء نصفي الكرة المخيين. وعندما نتحدث عن الأذى الذي يلحق بالدماغ والاضطرابات الكلامية الناتجة عن ذلك فنحن نتحدث ضمنا عن الجزء المهيمن ( الأيسر ) من المخ عند الغالبية العظمى من الناس !!!.
لقد كان تحديد اللحظات التي تظهر فيها الهيمنة الجانبية لأحد نصفي الكرة المخيين بالنسبة للكلام موضوعا منتهيا,حيث تم التأكد أن كلا من نصفي الكرة المخيين يكونان متساويين وظيفيا, وتبدأ الهيمنة الجانبية تتشكل من السنة الخامسة من العمر وتنتهي بحدود السنة العاشرة. ولكن هناك نظرة أكثر حداثة من الأولى, وهي ما أكده الكاتب ( كراشين ) والذي لاحظ أن عملية الهيمنة الجانبية تبدأ بشكل مبكر جدا ويمكن أن تكون من لحظة الولادة وتنتهي عند السن الخامسة. إن الوصول إلى هذه النتيجة ارتبط بفرضية العالم ( لينيبرغ 1967 ) التي أكدت وجود ما يسمى ” بالفترة الحرجة ” وهي ذات أهمية كبيرة لتعليم علم اللغات !!!. من الضروري الإشارة هنا إلى إن بعض طرائق تعليم اللغات الأجنبية تحاول إيقاف النشاط السلبي لنتائج الهيمنة لأحد نصفي الكرة المخيين, والتي تحاول استخدام طرائق فنية خاصة يمكن بواسطتها إشراك نصف الكرة المخي التابع !!!!.
أن تتبع مسألة الآليات الدماغية لنشاط الكلام تؤكد أن نشاط إرسال واستقبال الكلام هو عملية معقدة لآن عملية التعقيد هذه ناتجة من أن تميز نشاط الإرسال والاستقبال كعمليات منفصلة كما يقول ( ماروشفسكي ) هي عملية تجريدية بعينها, ويحدث ذلك لآن النشاط الحركي ( بما فيه إنتاج الكلام ) هو مدعم أيضا من الناحية الحسية, وكذلك النشاط الحسي ( بما فيه استقبال الكلام ) هو الآخر يمتلك مظهرا حركيا.
لقد ذكرنا سابقا أن المنطقة الدماغية ذات الأهمية الأساسية لإرسال الكلام هي منطقة بروكا وتشكل هذه المنطقة منظومة دينامكية مع المناطق الأخرى للكلام في نصف الكرة المخي الأيسر, وأن كل عنصر في هذه المنظومة مسئول عن مرحلة من مراحل النشاط المعقد الذي ينسجم مع الطبيعة المعقدة لإنتاج الكلام.
أما نشاط استقبال الكلام فهو مرتبط بشكل رئيسي بالأجزاء الخلفية لمنطقة الكلام, أي منطقة فيرنيكا ( الجزء الخلفي العلوي للتلافيف الصدغية ) وكذلك مناطق القشرة الدماغية القريبة من هذه المنطقة ( الجزء الخلفي الثاني من التلافيف الصدغية ). إن دور منطقة الكلام هذه يستند إلى تحليل وتميز الأصوات الكلامية المستقبلة على هيئة إشارات مبعوثة من المرسل. هذه الإشارات هي الموجة الآكوستيكية والمستقبلة كمجرى من الأصوات المختلفة بما فيها الأصوات الكلامية, والوحدة الأساسية التميزية للأصوات الكلامية هي ” الفونيم “, ولكي تحصل عملية التميز لآي واحد من هذه الأصوات التي ترد إلى الأذن لابد من فرزه من حيث كونه يمتلك خصائص أكوستيكية تميز هذا الفونيم عن غيره. هذه الخصائص تحمل اسم السمات المميزة. وعلى أساس هذه السمات التميزية فإن المستقبل يميز المفردات المختلفة المعنى حتى وان اختلفت بسمة واحدة, وقد يكون الاختلاف هنا في صفتي الجهر والهمس ـ على سبيل المثال: الاختلاف بين الصوتين: خ, ع. إن الاختلافات الاكوستيكية بين الأصوات والتي تعود إلى فونيم واحد هي كثيرة, حتى في نطق الكلمات من خلال نفس الشخص وفي مناسبات مختلفة, ولكن العيش مع مجموعة من الناس لهم لغة مشتركة يؤدي إلى تشكيل قدرات سمعية تكيفيه خاصة عند الإنسان لالتقاط هذه الاختلافات والتي تكون جوهرية في لغة ما. إن تكيف السمع لفرز السمات التميزية للأصوات يسمى بالإذن الكلامية !!!.
ولغرض الاستقبال السليم للكلام فمن الضروري أن تكون منطقة ” فيرنيكا ” فاعلة بشكل اعتيادي وكذلك المناطق القشرية المجاورة. إن الأذى الذي يلحق بهذه المناطق يؤدي إلى اضطراب في فهم الكلام, وبشكل خاص صعوبة تميز الأصوات على الرغم من أن سمع المستقبل نشط, وهذا يعني أن المستمع يسمع الأصوات ولكن لا يميزها, أي لا يفهم ماذا يسمع !!!.
إن عملية تميز الأصوات في وسط مجراها الهائل المنطلق إلى إذن المستقبل هو جزء من مهمة تنتظره. أما الجزء الآخر فيستند إلى القدرة على الاحتفاظ في الذاكرة بالعناصر المرتبة في الزمان والظاهرة في ترتيب محدد حتى لحظات تشفير مقاطع طويلة من الإرسال. إن عملية الاحتفاظ بهذه العناصر في الذاكرة ضروري لتحديد العلاقات بينهما أثناء تشفير المعنى. إن الأجزاء المتبقية من الفص الصدغي ( باستثناء التي ذكرت ) هي المناطق الدماغية التي تقوم بوظيفة تأمين الآثار الذاكروية في عملية استقبال الكلام.
إن سماع وتميز وتذكر عناصر الإشارة المستقبلة من خلال المستقبل يجب أن تخضع لعمليات عقلية بهدف تشفير معنى الإرسال. إن المنطقة الدماغية التي تنجز هذه العملية هي المنطقة الجدارية ـ القفوية ( القذالية ). هذه المنطقة مسئولة بشكل خاص عن العمليات المنطقية النحوية المرتبطة بفهم الموضوعات ذات التركيبات المعقدة من حيث المعنى.
أما خارج المناطق الثلاثة المذكورة, هناك أيضا مناطق أخرى دماغية لها دور في استقبال الكلام, ونقصد بذلك الجزء الأمامي من منطقة الكلام وكذلك منطقة الفص الجبهي, هذه الأخيرة لا تدخل عادة في تركيب ما قصدنا به ـ مناطق الكلام. الجزء الأمامي من منطقة الكلام يساهم في عملية التنظيم الدماغي للاستقبال وينجز وظيفة ( كما اتضح ذلك في العديد من الأبحاث ) دائرة مراقبة !!!.
أما بالنسبة لمنطقة الفص الجبهي خارج منطقة الكلام الأمامية فهي تقوم ” بتأمين إمكانية الاتصال السريع إذا قصدنا بذلك استقبال الموضوعات, ودون الاعتماد على التركيبات الظاهرية للحديث, وعدم الاعتماد هذا يعتبر شرطا للانتقال إلى التركيبات العميقة وبدوره إلى معنى الموضوع المستقبل !!!!.
إذن هناك في الدماغ تعمل منظومتان ديناميتان: احدهما لإرسال الكلام وهي مرتبطة بالمركز الحركي للكلام ـ مركز بروكا, وأخرى لاستقبال الكلام وهي مرتبطة بالمركز السمعي للكلام ـ مركز فيرنيكا. وهذه المناطق مع مناطق أخرى تشكل منظومات دينامية والتي حددها الكاتب ( بيالاجوي ) من وجهة نظر علم النفس اللغوي بأنها ديناميات نمطية. واتفاقا مع وجهة النظر هذه والتي أكدتها نتائج أبحاث علم أعصاب اللغة, إن تعلم لغة أجنبية هو مساوي لعملية تكوين ديناميات نمطية جديدة لإرسال واستقبال الكلام !!!!.
إن عملية إرسال واستقبال الكلام تعتمد على النشاط الأتي:
1 ـ نشاط الدماغ حيث يشكل الأساس المخي للظواهر التي تنشأ في التركيبات القشرية, وكذلك مهمة أيضا الظواهر التي تتشكل في المنظومة خارج الهرمية والطرق العصبية.
2 ـ أجهزة الكلام ( التنفسية, الصوتية, النطقية ), والموجهة من قبل التركيبات القشرية وكذلك المعتمدة على نشاط الأعصاب المحيطية وأيضا على البناء التشريحي للأجهزة المذكورة.
3 ـ نشاط عضو السمع وخصوصيته والذي يؤطر عملية سمع وفهم كلام الأفراد الآخرين, وكذلك يقوم بعملية الضبط الذاتي لكلام المرسل. كما يساهم عضو الإبصار في استقبال الكلام من خلال قراءة حركات شفاه المتكلم.
إن نشاط الإرسال كما تحدده الكاتبة البولندية ( ستيجك ) هو مجموعة النشاط الذي يستند إلى إعادة تشكيل المدركات والتصورات والعمليات الفكرية في رموز صوتية. إن الحركات النطقية المنفذة تقع تحت عمليات ضبط سمعية ـ حسية. ويساهم في نشاط الإرسال المنطقة المخية الأمامية الحركية ( منطقة بروكا ) وكذلك الجزء الخلفي من منطقة الكلام. والافتراض السائد هو ان كل وظيفة ذات صلة بعملية الكلام تلائم جزءا معينا من مناطق الكلام المذكورة. وتؤكد نفس الكاتبة المذكورة أن برمجة الموضوعات ومحتواها واختيار المفردات يعتمد على التركيبات المخية للفص الجبهي ( المتموضعة الى الأمام من منطقة بروكا ). ويمكن أن نوضح آليات الإرسال في ضوء التنوع الوظيفي للمناطق المخية المذكورة أعلاه بالشكل الآتي:
1 ـ اختيار المفردات من حيث معانيها, وربطها وفقا للأسس القواعدية المعمولة بها في لغة ما, وهذا يرتبط بالحدود التي تقترب منها المناطق الجدارية ـ الصدغية ـ القفوية أو ما يسمى بالمنطقة الارتباطية.
2 ـ استحضار الآثار السمعية للمفردات الضرورية لبناء الموضوع ( التحليل والتركيب السمعي ), يرتبط بالمنطقة الصدغية.
3 ـ تنظيم الموضوع والذي يستند إلى الترتيب الخطي: صوت ـ مفردة ـ جملة, مع الحفاظ على الأسس القواعدية, وهذا يعود إلى وظيفة منطقة بروكا ( المنطقة الحركية الأمامية ).
4 ـ الإحساس بنماذج الأصوات والمرتبطة بوضع أجهزة الكلام. والوعي بوضعها يعتمد على وظيفة الفص ألجداري, وفي جزئه الأسفل والواقع مباشرة بعد الأخدود المركزي ( أخدود رولاندو )
5 ـ أ ما وظيفة منطقة الكلام الإضافية ( الحركية ) والواقعة في المنطقة العليا قبل الشق المركزي للنصف المخي المهيمن, فإن أدبيات الدراسة تحدثنا بأن ووظيفتها غير معروفة, ولكن الكاتبة ( مينجاكفيج ) تؤكد لنا من خلال خبرات الميدان بأنه من المحتمل أن تقوم هذه المنطقة بوظيفة مساعدة مرتبطة بعملية استحضار الأصوات الضرورية لبناء المقاطع, والمفردات والكلام.
أما عملية الاستقبال ( الفهم ) فهي مرتبطة بسماع أصوات الكلام ( التحليل والتركيب ) وربطهما بمحتوى محدد. وتعتمد هذه على منظومة وظيفية معقدة, والتي تساهم فيها بشكل جوهري الأجزاء الآتية:
1 ـ سماع أصوات الكلام وهذا يتطلب عضو سمع فاعل.
2 ـ القدرة على تميز الأصوات ( تحليل وتركيب ) ويعتمد ذلك على مركز فيرنيكا الواقع في المنطقة الصدغية في التلفيف العلوي.
3 ـ الذاكرة السمعية الشفوية ( أي إمكانية الاحتفاظ في الذاكرة باستمرارية المفردات المرتبطة بعلاقات منطقية ـ قواعدية ) والقدرة على تميز المفردات, ويعتمد ذلك على الجزء الأوسط للمنطقة الصدغية.
4 ـ القدرة على التميز الدلالي ( المعنى ) للمفردات والجمل في ضوء سياقها وارتباطاتها المنطقية ـ القواعدية, ويرتبط ذلك بوظيفة المنطقة الجدارية ـ القفوية ( القذالية ).
5 ـ الجزء الأمامي من منطقة الكلام من المحتمل أن يساهم في النشاط المرتبط بالكلام الداخلي والذي يساعد على تشفير معنى الموضوعات عند استقبال الكلام.
6 ـ منطقة الفصوص الجبهية ( خارج منطقة الكلام ) وهي تؤمن إمكانية الاتصال السريع أثناء استقبال الموضوعات.
وباستثناء المناطق المخية المذكورة والتي تقوم بوظائف محددة ( كاستقبال الإيعازات الخارجية والداخلية, ومن ثم انجاز عمليات التحليل والتركيب ), وكذلك باستثناء المنطقة الترابطية ( الجدارية ـ الصدغية ـ القفوية ), والتي تمكن من التعاون المشترك للمناطق المخية المختلفة, أي تشكيل النشاط النفسي المعقد ـ فهناك أيضا تساهم المنظومة التي تؤمن طاقة عضلية مناسبة وهي المنظومة خارج الهرمية. وهذا الجهد العضلي ضروري حتى لأكثر العضلات استرخاء لانجاز الحركة المطلوبة !!!!.
ومن الحقائق المذكورة في هذا الجزء من البحث المرفق نستطيع أن نؤكد أن للكلام مناطق مخية ( مناطق الكلام ), وهي موجودة عند أغلب الناس في الجزء الأيسر من المخ. وأن الأذى الذي يلحق بهذه المناطق يسبب أعراضا مختلفة من اضطرابات الكلام. كما أن مناطق الكلام هذه تشغل الجزء الأوسط من نصف المخ المهيمن ( الأيسر عند الغالبة ), وتمتد مساحاتها جزئيا في الفص الجبهي ـ الجداري ـ الصدغي !!!.
ومن المفيد جدا أن نشير هنا إلى نموذج آليات اضطرابات الكلام والذي قدمه الباحث ( كونورسكي ). وقد استند في ذلك إلى نظرية الوحدات المعرفية, وقد قبلت هذه النظرية واستخدمت لأنها تضع لنا مخططا عمليا في تحليل اضطرابات الكلام وتوجيه عملية التقدم العلاجي. ووفقا للكاتب المذكور أن كل المناطق المعرفية ـ الإدراكية تمتلك تنظيما تصنيفيا, أي أنها تشكل مجموعة وحدات إدراكية تعود إلى محلل محدد: بصري, سمعي, حركي, وحسي.
وكل منطقة إدراكية تلائم الوظيفة التي انيطت بها:
ـ في المناطق السمعية يوجد مجموع الوحدات التي تمثل: الأصوات, الكلمات, أصوات الكلام, والظواهر الأخرى الاكوستيكية.
ـ في المناطق البصرية توجد الوحدات الممثلة للرموز الكتابية, أشكال الموضوعات, الألوان العلاقات المكانية.
ـ المنطقة الحركية للكلام والتي تمثل النشاط الحركي للكلام, فإن مهمتها تأمين النماذج الحركية والتي لا غنى عنها في عملية الكلام.
وكل المناطق المذكورة أعلاه متصلة مع بعضها, الأمر الذي يمتلك أهمية استثنائية لتعلم واكتساب مهارات التكلم والفهم. وفي إطار هذا المفهوم فإننا نتحدث عن الاضطرابات الكلامية ليس فقط عندما تخضع هذه المناطق للأذى, ولكن أيضا عندما تتعرض الاتصالات بين هذه المناطق إلى خلل ما. وسنتطرق إلى ذلك في تتمة الحلقات المعنية بموضوع البحث !!!!.