19 ديسمبر، 2024 12:58 ص

عند نصب المذيع السوفيتي ليفيتان

عند نصب المذيع السوفيتي ليفيتان

يقولون انه النصب الوحيد في العالم لمذيع في الاذاعة , وبالنسبة لي شخصيا وحسب معلوماتي المتواضعة , فانا لا اعرف فعلا اي شئ مماثل لهذا الذي شاهدته اليوم في احدى ساحات مدينة فلاديمر الروسية , مسقط رأس المذيع السوفيتي الشهير ليفيتان , وهي المدينة التي تبعد في حدود 200 كيلومترا عن العاصمة الروسية موسكو , والتي كانت في غابر الازمان واحدة من مراكز روسيا القديمة .
ولد المذيع يوري بوريسوفيتش ليفيتان في مدينة فلاديمر العام 1914 , واصبح المذيع الاول في الاتحاد السوفيتي , وهو الذي أذاع يوم التاسع من مايس / مايو العام 1945 بيان الدولة السوفيتية عن استسلام المانيا الهتلرية وانتهاء الحرب واعلان النصر , وهناك احصائية طريفة تشير ,الى ان المذيع ليفيتان قرأ اكثر من ( 2000 ) نشرة أخبار عن مسيرة واحداث تلك الحرب , والتي يسميها الروس – ( الحرب الوطنية العظمى ) , وهكذا ارتبط اسم ليفيتان بيوم النصر في تاريخ روسيا . لقد سمعنا عندما كنّا طلبة في الاتحاد السوفيتي في ستينات القرن العشرين , ان الالمان قرروا ان يعدموه بعد ستالين رأسا , ولكن المصادر الروسية الرسمية الحديثة اعتبرت هذا القول مجرد اشاعة تداولها الناس – ليس الا- انطلاقا من شهرته وسعة شعبيته بين المستمعين آنذاك, وأشارت تلك المصادر الى ان هناك وثيقة ألمانية تعلن مكافأة قدرها( 250 )الف مارك الماني لمن يقبض عليه او لمن يقتله, وهو مبلغ ضخم وكبير جدا بالنسبة لتلك الايام , ولهذا فقد كان ليفيتان محاطا دائما برجال الحماية ايام تلك الحرب , وكان مكانه سريّا . وللعلم , نود ان نضيف هنا, ان ليفيتان هو الذي أذاع خبر انطلاق اول انسان سوفيتي الى الفضاء يوم الثاني عشر من نيسان / ابريل العام 1961 , عندما طار غاغارين الى الفضاء وعاد سالما , وهو حدث تاريخي عالمي طبعا , لهذا يطلقون على ليفيتان الان تسمية – ( صوت التاريخ وصوت النصر ).
امتدت حياة ليفيتان من العام 1914 الى العام 1983 , وقد اتخذت ادارة مدينة فلاديمر ( مسقط رأسه ) توصية بشأن ضرورة الاحتفال بالذكرى المئوية لولادته العام 2014 وذلك باعتباره الابن البار للمدينة التي تفخر باسمه, وقررت تلك الادارة اقامة نصب خاص به في مدينة فلاديمر تخليدا له , وهكذا تم اعلان المسابقة بين النحاتين الروس , وشارك في المسابقة ( 36 ) نحّاتا روسيّا من كل انحاء روسيا , وفاز بها النّحات الذي قدّم فكرة لاقامة نصب يتميز بالابتكار( وبكل ما تعني كلمة الابتكار فعلا ), اذ ان النصب ركّز على الصوت وكيف كان الناس ينتظرونه ويصغون اليه عن طريق المذياع بكل لهفة وتعاطف, اي ان النّحات جسّد مهنة المذيع وطبيعتها , ولم يجسّد شكل المذيع او جسمه كما جرت العادة في التماثيل والنصب الاخرى , وهكذا تم تنفيذ تلك الفكرة , وتم تدشين النصب العام 2015 ( في يوم الراديو الذي يصادف 7/5 , وعندما كانت روسيا تحتفل بالذكرى السبعين للنصر). وضع النصب في ساحة وسط مدينة فلاديمر اطلق عليها اسم ساحة ليفيتان. نرى هناك شخصيتين في ذلك النصب هما الجد وحفيده , ينظران ويستمعان بكل انتباه الى ميكروفون معلّق امامهما على عمود به مصباح لاضاءة الشارع , وعلى هذا العمود توجد لوحة حديدية صغيرة, فيها صورة للمذيع ليفيتان مع الاشارة الى سنين حياته . لقد اراد الفنان ان يقول , ان الجد العجوز( وهو يتوكأ على عصا بيده ) مع حفيده الصبي كانا يستمعان الى بيان النصر , اما الابن ( والد الصبي ) فقد كان يحارب آنذاك في جبهات القتال .
الساحة التي يقف فيها النصب معبّدة بالحجر بشكل جميل وانيق, وتحيطها الاشجار الباسقة , وفي اطراف الساحة توجد المصاطب المنسقة الجميلة . لقد جلست انا على احدى هذه المصاطب , وتأملت النصب الطريف هذا بدقة, واكتشفت ان الجد وحفيده يرتدون ملابس بسيطة سوفيتية الصنع ومن طراز ذلك الزمان بالذات , وشاهدت اسراب الحمام تتطاير حول النصب وتتمشى حوله بسلام ووئام , وجاءت امرأة مسنّة , وأخذت ترمي الحبوب لتلك الطيور , وكانت الطيور تتزاحم على هذه المرأة كي تحظى بالطعام … وكان هناك اناس بمختلف الاعمار يسيرون – ذهابا وايابا – حولنا بهدوء دون ان ينظروا الى النصب او الى تزاحم الطيور حول تلك المرأة….