23 ديسمبر، 2024 9:40 ص

رمضانيات – 1 / الراعي جدعان والرئيس البكر !

رمضانيات – 1 / الراعي جدعان والرئيس البكر !

الرئيس العراقي الأسبق احمد حسن البكر الذي حكم العراق منذ عام 1968 وحتى عام 1979 ، كان رجلا عسكريا وقام بانقلاب مع مجموعة من الضباط العراقيين البعثيين ! ودائما كان العراق يحكمه الانقلابيون ! لم يكُ الرئيس البكر بعثياً ولم يعرف شيئا عن حزب البعث ، وحين اصبح صدام حسين نائباً  له  ألتف البعثيون على الرئيس ليعلنوا انضمامه الى الحزب ! وحين تمت مفاتحته بالموضع سألهم عن حزب البعث ، هل ان حزبكم يؤمن بالله ورسوله ؟ قالوا هذا من المؤكد ويأتي قبل اهدافنا في الوحدة والحرية والاشتراكية ! قال : ( عجل يابه اني وياكم )! وهكذا اصبح الرئيس احمد حسن البكر بعثياً ! الرجل ابن قرية من قرى محافظة تكريت ويتسم بالطيبة الظاهرة ، هكذا عرفه العراقيون مذ جاء الى الحكم وحتى رحيله القسري من قبل نائبه صدام حسين ! كان بسيطاً وفي سنوات حكمه في عقد السبعينات ازدهر العراق وعاش العراقيون حياة جميلة خالية من العقد والحروب والطائفية والقتل والمفخخات والحقد والغيرة والموت والمحاصصة وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث البريئة وغيرها ! كانت فترة السبعينات تسمى بالفترة الذهبية ، لكن ثمة من كان يحضّر الى فترة دموية !
وقد شهدت فترة السبعينات مراحل مهمة من تاريخ العراق السياسي ، حيث الجبهة الوطنية ما بين الشيوعيين والبعثيين والعمل من اجل النهوض بالعراق حاضرا ومستقبلا ، كذلك كان بيان 11 آذار وحقوق الاكراد ، وتأميم النفط . وثمة من كان يحفر الى انهيار تلك الجبهة ، وبمجرد رحيل الرئيس انهارت الجبهة وانهار معها العراق برمته ! حيث الحروب ومآسيها والاعدامات والاعتقالات وهجرة مئات اللآلاف الى الخارج ، ومازال العراق وشعبه يدفع ثمناً باهضاً نتيجة لتصرفات صدام حسين الحمقاء ! وما بعد سقوطه في عام 2003 جاءت احزاب وكتل سياسية غالبيتها مشكوك في ولاءاتها للعراق الامر الذي اوقعوا البلاد في مستنقع الطائفية والعرقية والمفخخات وتدمير الانسان العراقي وسرقة ثرواته بطريقة اقل ما يقال عنها ( حقيرة ) !!
 في بداية العقد الثمانين كان جاراً لنا في العاصمة بغداد يدعى جدعان الدليمي ( ابو عبد الرحمن ) عمره قرابة السبعين عاما ، الرجل يرتدي العقال والدشداشة والعصا ، ويتحدث باللهجة الغربية فهو مولود في مدينة الرمادي ويحترم التقاليد العربية بطريقة رائعة ، فدائما ما يأتي بيتنا ليلتقي والدي او يذهب والدي ونحن معه اليه ويحدثنا الرجل  دائما عن مشوار حياته الطويل ما بين الرمادي وتكريت وكذلك بغداد التي استقر بها منذ عقود من الزمن بسبب عمله الذي كان راعياً لاغنام الرئيس احمد حسن البكر في بيته الواقع في الكرادة ! كنت أسمع وأصغي جيدا لكلام الرجل الذي لا يخلو من النكتة في اغلب الاحيان ! يقول الرجل اطال الله في عمره ان كان على قيد الحياة الآن ، أو رحمه الله اذا كان قد انتقل الى جوار ربه ! والاحتمال الثاني هو الارجح على ما اظن ! يقول : اثناء عمله في منزل حديقة الرئيس حين يشرف على اغنام الرئيس التي يحبها على اعتبار ان الاغنام تمثل له رمز البداوة والقوة والشجاعة والكرم واشياء كثيرة ! عادة ما ينهض الرئيس احمد حسن البكر عند بزوغ الفجر وأول شيء يقوم به الاطمئنان على الاغنام ، وحين يشاهد ( ابو عبد الرحمن ) وهو يضع الاغنام في عناية خاصة يطمأن الرئيس البكر على يومه قبل الذهاب الى عمله بعد ان يتناول الافطار مع راعيه ! وبينما الخادمة تقوم بتقديم الفطور لهم يكون الرئيس مستمعاً لنصائح وارشادات ابو عبد الرحمن في كيفية الارتقاء بأغنام تلد الكثير لتتكاثر ! ، وذات يوم تمرضت واحدة من اغنام الرئيس الذي لم يهدأ باله ، وعمل بكل ما كان متاحا له إلا انها سرعان ما فارقت الحياة ! ليحزن الرئيس على تلك الشاة ، ويحاول ( ابو عبد الرحمن ) ان يهون على الرئيس بكلامه الجميل الذي عادة ما يكون عبارة عن نكات  من العيار الثقيل ، ومن ثم يقول له : انت يا (احمد) اما ان تكون رئيسا للعراق او للاغنام ! ويضحك الرئيس البكر من كلامه !
في تلك الفترة كان للرئيس احمد حسن البكر ابنه الكبير هيثم الذي يعمل كمحامي في مكتبه ويمارس حياته اسوة بالعراقيين ولم يستغل يوما من الايام منصب والده ليتسلق الى مناصب الدولة العليا ! كذلك كان ابنه الاصغر ( محمد ) الذي يعمل كمهندس مدني في وزارة الاعمار والاسكان شأنه شأن بقية المهندسين داخل الوزارة ! وبعد عزل الرئيس رتب النائب صدام حسين حادثا له في شاحنة ! بينما كان وعائلته يستقلون سيارتهم ليقتلهم جميعا كما دبر بعدها حوادث كثيرة من هذا النوع لشخصيات اخرى !
لم يستغل الرئيس احمد حسن البكر وعائلته منصب الرئاسة ولم يتدخلوا في شؤون الدولة العراقية على العكس من صدام حسين !
كانت ايام جميلة وبسيطة وطيبة بعلاقات انسانية عظيمة ، لكن الذهنية التآمرية في نفوس البعثيين قضت على رئيسنا الراعي البسيط وجعلوا منه ان يتنازل عن منصبه ومن ثم اغتياله ! كان ابو عبد الرحمن يسرد لنا في ليالي بغداد الثمانينية الكثير من المفارقات التي حصلت له مع الرئيس احمد حسن البكر الذي عمل معه لسنوات طويلة وهو يرعى اغنامه في البيت !