يمكن القول إنَّ العالمَ برمته يواجه في حاضرنا الكثير من التحديات التي تثير المخاوف من سلبية انعكاساتها على مستقبل البشرية، بالإضافة إلى تيقن جميع الحكومات من عدم إمكانية أي دولة التوصل إلى حلولٍ شافية لها بمعزلٍ عن الجهود الدولية. ولعلَّ من بين التحديات التي دفعت الكثير من الدول البحث عن مصادرٍ بديلة للوقود الأحفوري، والسعي الحثيث لإيجاد أمثل البدائل والحلول التي بوسعها تجاوز مشكلة عدم الوفرة المتوقعة، هو محدودية مصادر إنتاج الطاقة في ظل تناقص مواردها، وربما عدم توفرها بكفايةٍ في العديد من دول العالم، إلى جانب عدم استقرار أسعار النفط بفعل ما أفضت إليه التوترات الدولية التي يشهدها العالم من زيادةٍ في عدد متغيرات العرض والطلب. ويضاف إلى ذلك معاناة بيئة الحياة من سلبية آثار الوقود الأحفوري، والتي من أبرز صورها: تلوث الهواء، تلوث الماء، تآكل طبقة الأوزون، فضلاً عن آثار التغيرات المناخية التي ظهرت في مناطق مختلفة من أرجاء المعورة بفعل زيادة معدلات إنتاج الطاقة التقليدية بالاعتماد على حرق الوقود الأحفوري.
على الرغم من ظهور مؤشراتٍ ملموسة تؤكد ما يتعرض له العالم من المخاطر التي تعبر عن حاجة ملحة إلى ركون الإدارات الصناعية لتخطيط مستقبلي بمقدور آلياته المساهمة في ضمان الوقاية من مشكلات التلوث البيئي، فالمذهل في الآمر هو أنَّ انتقالَ بعض الدول نحو مصادر الطاقة البديلة تميز بالبطء وعدم الجدية، فيما تسعى الكثير من دول العالم الأخرى إلى الانتقال التدريجي نحو اعتماد مصادر الطاقة المتجددة؛ بالنظر لأدراكها أهمية هذا المنحى الذي ألزمها الإسراع بخطى جادة في تبني العديد من الخطط والدراسات على الصعيدين الحكومي والخاص لتشجيع استخدامات الطاقة النظيفة.
في سياق التوجه العالمي صوب تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري في مهمة الحصول على الطاقة والاستعاضة عنه بمصادرٍ متجددة أو بديلة، نجحت كوستاريكا – إحدى دول أميركا الوسطى – في تحقيق ما وصف برقمٍ قياسي في مجال تحسين البيئية والمحافظة على عناصرها؛ إذ تمكنت هذه الدولة – التي تغطي الغابات الاستوائية نحو ثلث أرضها، وتبلغ المساحة المخصصة للمتنزهات والمحميات الطبيعية فيها نحو (25%) من إجمالي مساحتها – من استخدام الطاقة النظيفة طيلة (300) يوم متتالٍ لإنتاج الطاقة الكهربائية. ولعلَّ المثير للاهتمام أنَّ إدارةَ الطاقة في هذا البلد الذي يشار إليه بوصفه أكثر دول العالم صداقة للبيئة، استطاعت تحقيق هذا الإنجاز في الوقت الذي ما تزال فيه بعض العواصم الغربية تشهد جدلاً واسعاً حول التكاليف المترتبة على الطاقة النظيفة، فضلاً عن تأثيرها في النمو الاقتصادي. وتحتل طاقة الرياح ثم الطاقة الحرارية الجوفية، إلى جانب الطاقتين الحيوية والشمسية المرتبة الثانية بعد الطاقة الكهرومائية التي تشكل نحو (78%) من إجمالي إنتاج الطاقة المتجددة في عموم مناطق كوستاريكا. وعلى الرغم من محدودية الإنجاز البيئي التاريخي المذكور آنفاً بسبب اقتصاره على ميدان إنتاج الطاقة الكهربائية، وعدم شموله قطاع السيارات التي ما يزال الوقود مصدرا لنحو (7%) منها، فأنَّ اهتداءَ القيادات الإدارية في هذه الدولة الصغيرة الواقعة ما بين الأميركتين لاستراتيجية التحول صوب ميدان الطاقات النظيفة، أتاح لإدارة الطاقة فيها الإستغناء عن النفط وغيره من أنواع الوقود الأحفوري.
ونحن نغادر تجربة هذه الدولة التي تُعَدّ الوحيدة في أمريكا اللاتينية المدرجة على قائمة أقدم (22) دولة ديمقراطية في العالم، بمقدورنا تلمس إحدى التجارب الحديثة الأخرى في هذا المنحى أيضاً، والمتمثلة بمطار (بكين داكسينغ) الدولي الجديد الذي ساهمت في تصميمه المهندسة المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، والذي يمكنه استيعاب (72) مليون مسافر سنوياً، إذ أعلنت الصين أنَّ هذا المطار الذي يُعَدّ من أضخم المطارات الدولية على وجه الأرض، صمم للعمل جزئياً بالطاقة النظيفة، فبالإضافة إلى المصادر التقليدية، سيعمل هذا المطار العملاق بمصادرٍ متنوعة من الطاقة النظيفة تشمل طاقة الأرض والشمس، والتي تصل نسبة إنتاجها إلى (10%).
جدير بالإشارة أنَّ تغطيةَ متطلبات الطاقة الكهربائية لهذا المطار الذي أقيم استجابةً للارتفاع الشديد في حركة النقل الجوي الصيني، ومن المتوقع أنْ يصبحَ واحداً من أكثر مطارات العالم ازدحاماً، فرضت على المصممين نشر آلاف الوحدات من الأنظمة الضوئية الشمسية على امتداد سقف مبنى المطار، فضلًا عن مناطق الشحن، وسقوف المباني المخصصة لركن السيارات، إذ يتوقع أنْ تولدَ الأنظمة الضوئية المذكورة بمفردها طاقة كهربائية تصل إلى نحو (6.1) مليون ساعة كيلوواط كهربائية سنوياً.
في أمان الله.