لم يكن الإلحاد في بداياته سوى ردة فعل على أفعال رجال الدين وتصرفات الأحزاب الدينية ، إلا ان الامر تغير شيئاً فشيئاً ، فقد تحول الى فعل منتج ، وبدا كنظرية فلسفية لها منظروها وكتابها ومتابعوها فهو في ازدياد مضطرد ، فلم يعد الحديث يقتصر على حجية وجود الله بل تعدى الى حوار حقيقي في مفاصل الاعتقاد ، وانت تسير في شارع المتنبي وهو شارع الثقافة والمثقفين في العاصمة العراقية بغداد او في اية مدينة أخرى ستجد الكثير من كتب الالحاد، كما سترى بعضٍ من الشباب يطرحون أسئلة وجودية مهمة لم تتجرأ الأجيال السابقة على طرحها فضلا ً عن الاقتراب منها.
ولهذه الظاهرة أسبابها ، فهي لم تأتي من فراغ ، كما انها لم تأتي نتيجة تطور وسائل التواصل الاجتماعي فحسب وإن كان لهذه الوسائل دور لكنه ليس بمستوى التأثير الأساسي . فهناك الكثير من العوامل الداخلية والمتغيرات الفكرية والاجتماعية التي ساعدت وبشكل مباشر على نضوج هذه الظاهرة.
لقد اقترفت الأحزاب الدينية ورجال الدين الذين انخرطوا بالعمل السياسي خطأً فادحاً في زُج الدين في العمل السياسي فهي القشة التي قصمت ظهر البعير ، فقد كانت المُثل والقيم التي نادوا بها عالية لم يستطيعوا من مجاراتها أو الوصول لها او تطبيقها فوقعوا في إشكالية معقدة بين اغراء السياسة ومطلقات الدين ، فتنازلوا عن الدين لصالح بريق السياسة ، وتصوروا باستطاعتهم استغفال عقول الناس بالمقدس الى ما لا نهاية، لكن المثال السيء الذي قدموه جعل كثير من الشباب يشكك في الفلسفة الدينية ، وراح يفكك عقد النصوص واشكاليات العقيدة على المنهج الديكارتي ، فيما تبخرت كل الشعارات الكبيرة امام مغريات السلطة لدى المتدينين وبدوا وكأنهم عاجزون عن الرد .
ومما زاد الطين بله الدور الذي لعبه الوعاظ من خلال تسويق الخرافة و الاستخفاف في عقول الشباب الامر الذي حول الاعتقاد برمته الى خرافة .
ويعضد ذلك كله عدم وجود أي منجز حقيقي على الأرض في كافة مناحي الحياة رغم مرور اكثر من عقد من الزمن .
فقد أفرز الواقع العراقي بعد أربعة عشر عاماً من إنشار الفكر الثيوقراطي( الديني) ثلاث نماذج و ثلاث مصطلحات تكاد تكون رائجة في الشارع العراقي .
وستواجهك وانت تتحدث مع الشباب.
أولاً : (ملحد) لا يؤمن بوجود الأديان ويدافع بقوة عن عقيدته مستند الى تناقضات الواقع ومشهد الصراع الطائفي والديني .
ثانيا: (متدين راديكالي) يعتقد انه على الحق ولا أحد ينازعه في الصواب و كل ما يقوله الاخرون هو باطل وانه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة.
ثالثاً : ( لا أدري) وهو الذي لا يثبت ولا ينفي يريد ان يعيش دون تقاطعات وهو أميل للأول.
هذا الواقع الذي يؤجل الصدام ينذر بمستقبل جديد مختلف ، لم يعهده العراق ربما يكون قاسيا ومعالجاته متواضعة سواء على مستوى الفكر او على مستوى الاعلام
فرغم كثرة الفضائيات الدينية ومظاهر التدين واعداد الوعاظ في العراق الا ان الإلحاد والثقافة اللا ادرية أخذا يشقان طريقهما في الجامعات العراقية و بين الشباب. فقد صدمتني تقارير تتحدث عن دراسات ميدانية وبيانيات بأرقام عن نسب الإلحاد ، بالإضافة الى مصاديق التقيتها او راسلتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ففد صدرت دراسة لجون كول وهو باحث أمريكي تقول ان شريحة كبيرة من الشباب العراقي لم تعد تعترف بالدِين خلال الأعوام الأخيرة ، فيما اجرت وكالة AKNEES الكردية استطلاعاً في بغداد وعدد من المحافظات فأطلقت السؤال التالي : هل تؤمن بالله كان الجواب ان 32% بـ لا
وقد حدثني أستاذ جامعي ان هناك فتيات في جامعة البصرة أصبحن ملحدات ، فقد استبدلت زهراء وهي طالبة في المرحلة الثانية اسمها الى سوزان وأخرى خلعت حجابها وهي بنت احد رجال الدين ، فيما يشتكي بعض أساتذة جامعة الكوفة من ان نادي كلية الطب في الجامعة اصبح ملتقى الملحدين من الطلبة ، وهذا الامر يحدث في النجف معقل المرجعية الدينية وأكثر المدن العراقية محافظة . كما انتشرت مقاهي الملحدين في بغداد و بقية المحافظات.
وأثر الواقع المتردي راحت فكرتان تنازعان الشباب العراقي الحداثة والدين .
تقول الأولى ان سعادة الانسان تكمن في نزوعه نحو المادة ، أي ان المتطلبات المادية وتحقيقها في الحياة ستجعل حياتك اكثر سعادة ، فكل ما يريده الشاب هو اكمال دراسته والحصول على عمل محترم وراتب مجزي وسيارة ومنزل وشريكة حياة. وهذه فكرة يمكن تحقيقها في مجتمع يحمي تكافؤ الفرص ويوفر الكرامة لأعضائه، وهذه الفكرة تبنى على ثقافة المواطنة اي الدين لله والوطن للجميع.
فيما تقول الثانية ان سعادة الانسان تكمن في نزوع الروح نحو الله دون النظر الى الماديات، وعلى الانسان ان يرضى بالقسمة والنصيب . وهذه كلمة حق يراد بها باطل . وهي تسويق للاذعان والركون الى اللاعقلانية . كما يعتقد العلمانيون أن مفهوم القسمة والنصيب يجعل الانسان بلا إرادة ، لذا لا يمكن ان يكون هناك رب يرضى بالذل والخنوع والضعف، فالحياة تعبير عن الإرادة الإنسانية.
وبين الالحاد والتدين يبقى الشباب في حيرة ويبقى الصراع ويبقى السؤال من سينتصر في النهاية ومن ستكون له الغلبة فهل هذا متوقف على الأداء السياسي ام انه رهين مرحلة وحتمية تاريخية
وهل حملت الظاهرة الدينية في العراق بذور فنائها وستعلن نهايتها وهزيمتها حينما تتغير خارطة الصراع ام سنشهد حرب الالحاد والتدين بعد حرب الأديان والطوائف .