23 نوفمبر، 2024 12:54 ص
Search
Close this search box.

الرصافي بتمامه إلمامًا: نشأته، حياته، شعره، شموخه؛ فقنوطه

الرصافي بتمامه إلمامًا: نشأته، حياته، شعره، شموخه؛ فقنوطه

ثلاث حلقات

في ( موشح المرزباني ) : حدّث أحمد بن خلاد عن أبيه قال : قلت لبشار : أنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت . قال : وما ذاك ؟ قلت : بينما تقول شعراً تثير به النقع ، وتخلع به القلب. مثل قولك :
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ً **هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمـا
إذا ما أعرنا سيداً من قبيــــلةٍ **ذرى منبر ٍ، صلّى علينا وسلّمـــا
تقول :
ربــــــــــابة ربّة الــــــبيتِ ***تـصـــــب الخلَ في الزيــــــــتِ
لــــــــها عشر دجـــاجــاتٍ ** وديـــــكٌ حـــسـن الصـــــــــوتِ

فقال : لكل وجه موضع ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في ربابة جاريتي ، وأنا لا أكل البيض من السوق، وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك ،فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها، فهذا عندها من قولي، أحسن من ( قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ) عندك .
هذا هو بشار في أوجّه ، وهذا هو بشار في حضيضهِ ، ووفر لنا قناعة ترضيه .. وهذه الرواية تجرنا للحديث عن الرصافي ضيفنا الكبير لهذه الحلقات .. فالرصافي الذي يهزّنا بشموخه العالي إعجاباً وإكباراً اذ يقول :

هي المنى كثغور الغيدِ تبتسمُ *** إذا تطرّبها الصمصامة الخذمُ
وإن شأو المعالي ليس يدركه*** عزمٌ تسرّب في أثنائه الســأمُ
وكلّ من يدّعي بالمجد سابقة ً ** وعاش غير مجيدٍ فهو متـــهمُ
لا أخالك تصدق أن هذا الشاعر الشامخ يقف إبان قنوطه مشجعاً ومصفقاً لكل من يدخن سجائر ( غازي ) ، بل يطلب أن يجازى على عمله بهذين البيتين الهزيلين :

دخن سـيجارة ( غازي ) ***في وقفـةٍ واجتــيازِ
وجازِ نصـحـي بـخير ٍ*** إن كنت مـمـن يجازي

أوجد بشار كما قلنا لنفسه العذر، إذ قال شعره لجارية واحدة يفهمها وتفهمه ، ولكن ما عذر شاعرنا الكبير ، وهو يلقي بهذا الشعر لعموم الناس .. للشعب .. لشبابه .. لرجاله .. لشيوخه .. إن لم نقل لنسائه ! ثم ياترى مسؤولية من أن يلجأ شاعر مثل الرصافي الكبير ، وفي أواخر ايامه لمثل هذا ( الغازي ) ، وهذا الـ ( يُجازي ) !

أما شاعرنا فأوجد لنفسه عذراً ، ولطم التاريخ بأنامله العشر مع كفتيه قائلاً :
قد انقلب الزّمان بنا فأمست***بغاث الطير تختصر النسورا
وساء تقلّب الأيـام حتـى *** حمدنا من زعازعها الدبـــورا

هذا هو حكم الزمان .. وهذه هي اعتبارات المجتمع .. وهذا هو قدر الشاعر .. والعجيب أن شاعرنا لم يكتف بإيجاد العذر لنفسه ، بل دفعه شرف نبلهِ، وسعة إدراكه، وصدق مشاعره أن يجد مبرراً حتى لقومه ، وأبناء عصره على ما لحقه في حياته من إجحافهم له، وازدرائهم إياه، وتحملهم عليه ، وذلك قبل وفاته، رحمه الله :

لو يملك الأمر قومي في مواطنهم *** ما كان حقي لديهم قطٌ مهضـوما
لكنّما أمرهم مـلك لأجـنـبـــــــهم ** فليس من عجب إن عشت مظلوما

فمن هو شاعرنا الكبير الذي أراد له أستاذه وشيخه ( محمود شكري الألوسي ) ، أن يكون نظيراً للمتصوف البغدادي الشهير . في ذلك الصوب – ( معروف الكرخي ) فنعته بـ ( معروف الرصافي ! ) ، فتلاقفته الأيام وسارت به مع دهرها.
ولد شاعرنا في بيت صغير بمحلة ( القراغول ) من محلات رصافة بغداد سنة 1291 هـ حسب ما ذكره عبد المسيح وزير ، ونقله راوية الرصافي الأستاذ مصطفى علي في كتابه ( أدب معروف الرصافي ) ، وهذه السنة توافق 1874 م ، ونحن ننفرد بهذا التاريخ خلافاً لما ذهب إليه كل من أرّخ للرصافي ، وكتب عنه بأنها كانت 1875 أو 1877 ، ونحن نرجح تاريخنا ، وذلك في دار جدّه لأمه ، لأن والديه كانا يسكنان تلك الدار مع أخواله وخالاته، وهو ثاني أخوين ولدتهما أمّه ، لم يعش منهما إلا الشاعر ، فأخوه البكر توفي وهو في مهد الطفولة، وشاعرنا معروف هو ابن عبد الغني محمود ينسب إلى عشيرة ( الجبّارة ) التي تعتبر من القبائل الكردية ، غير إن هذه العشيرة معروفة عند أكثر الاكراد بأنها علوية النسب، لذلك يشير كل من كتب عن الرصافي إلى هذه الناحية ، والرصافي لقلة ارتباطه بعشيرة أبيه القاطنة في منطقة تقع بين محافظتي كركوك والسليمانية، ولعدم احتكاكه بها ، لم يتحدث عنها، ولا عن أسرته إلا قليلاً ، بل كان يتهرب من الإجابة عن أصل أبيه وينتسب إلى ( آدم ) :

أجـــل أن القبـائـل مـن معــــدّ ****علوا فـتسـنـموا المـجـد التليـدا
وإنّ لهاشم ٍ في الدهر مـــــجداً *** بناه لها الـــذي هـشـم الـثريـدا
ومذ قام ( ابن عبد الله ) فيهم ** **أقـــام لـكـــلّ مـكرمــةٍ عــمودا
فهم فتحوا البلاد ودوّخــــوها ****** وقادوا في معاركها الجـــنودا

الرصافي لم يتمتع بوجه أبيه كثيراً ، إذ كان هذا الأب عريفاً في جيش العثمانيين ، واشترك بحربهم مع الروس ، ولما رجع انخرط في سلك الدرك ( صنف الخيالة) ، وأصبح عريفاً في قسم ( البغالة ) ، فقضى معظم العمر في الأسفار والتجوال ، وقلما وجد في بغداد ، لذلك كان اجتماع صاحب الترجمة بوالده قليلاً ، ومن الجدير ذكره أن المؤرخين قد ذكروا عنه أنه كان متديناً ، كثير الصلاة وكثير قراءة القرآن الكريم ,حاد المزاج ، إذا غصب أخاف ، وإذا ضرب أوجع ، وكان يحسن التكلم باللغات العربية والتركية والكردية ، ويقرأ العربية ويكتبها ، قراءة وكتابة بسيطتين ، وهذا يعني أنه كان يمتلك قدرات عقليه عالية ، لم تسنح له الظروف بالبروز والظهور ، ولكن ورّثها لابنه الـ ( معروف ) ، كما ورّث شاعرنا ذكاء أمه ، واكتسب قوة شخصيته من قوة شخصيتها ، فهذه المرأه حلت محل أبيه في تولي امر تربيته ، وكان تأثيرها على ابنها حاسماً بعيد المدى ، يقول الرصافي ( كانت مرجعي في كل شيء حتى بعد مجاوزتي العقد الأول من حياتي ، لأني كنت لا أرى أبي إلا قليلاً ، فهي التي كانت ترسلني إلى الكتاب وأنا صغير ، وهي التي كانت تجهز لي ما يلزم لذلك ) فبالرغم من فقرها ، وأصلها المتواضع ، كانت حريصة على الأرتفاع بابنها فوق طبقتة الدنيا ، فدفعته إلى الدرس ، وغرست فيه حب العلم وتحصيله ، وعلى ما يبدو ، كانت لهذه الأم منزلة اجتماعية كبيرة ، وعلاقات حميمة ،وشخصية محببة ، فلها ( في قلوب أهل محلتها محبة عميقة ، واحترام عظيم ، وكانوا يتخذونها حكماً في أمورهم ,ويعرضون عليها مشاكلهم ) , ولا ريب قد أثرت هذه العلاقات الاجتماعية الطيبة ، والشعور الإنساني النبيل في نفسية شاعرنا منذ الطفولة ، فأنعكست على شعره ، حتى شغل الجانب الاجتماعي نصف الجزء الأول من ديوانه ، وهي من أروع قصائد ه إطلاقاً ، فلا يريد للمرأة ( الطلاق) ، لأنه لا يريد لأمّه أن تطلق ، ويتقطر قلبه أسى علــى ( ام اليتيم ) ، لانه لايريد لأمه أن تترمل ، ولما وجدها في ( الأرملة المرضعة ) ، سكب كل أحزانه وأشجانه ، وكل ما يعرف القلب من آلآم صادقة، وكل ما يفيض الشاعر من أحاسيس جياشة :

لقيتها ليتني ما كنت ألقاهـــــا*** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثةُ ٌ، والرجل حافيــــةٌ **والدمع تذرفه في الخدّ عينــــاها
تقول ياربّ ! لا تتـــرك بلا لبن ٍ** هذه الرضيعة وارحمني وأيـــاها
كانت مصيبتها بالفقر واحدة ً *** ومــــوت والـدهـا بـالـيتـم ثـنـّاها

القصيدة لوحة فنية رائعة رسمت بريشة فنان قدير ، ليرجع إليها من يشاء في ديوانه ، ولك أن تتذكر كم من ( أرملة مرضعة ) في عراقنا الحبيب هذا اليوم ، وكم من ( مطلقة )، و ( ام يتيم ) ، و ( يتيم في العيد ) ، و ( دار الأيتام ) ، و ( فقر وسقام ) ، و( يتيم مخدوع )، واخيراً كم ( سجن في بغداد ) ، و نكرر هذا اليوم هذه العناوين لبعض قصائد شاعرنا الاجتماعية التي نظم عقودها بمهارة فنية عالية ، والحقيقة هنا تكمن قوة الرصافي وعبقريته الفذة ، وقد تشربها من نفس أمه وروحها ، وفي الدرجة الثانية فيما أحسب يأتي شعره السياسي ، وليس له شعر آخر يستحق به الخلود عدا هذين المجالين ، فقد بلغ بهما القمة .
على كل حال ماتت ام شاعرنا الكبير في بغداد ، وهو غائب عنها في اسطنبول أثناء الحرب العالمية الأولى ، ولم يخبر بوفاتها حتى رجوعه العراق سنة 1921 م ، مما جعله يطفح بالندامة ويشعر بعقدة الذنب ، بالرغم من أنه كان يرسل إليها الدراهم لذلك يقول ( أما اليوم فكلما ذكرتها جاشت نفسي بالأحزان ، لأني أشعر أنني لم يساعدني الحظ على القيام بالواجب الذي لها علي … ولذا أصبح اليوم وأمسي وأنا في ذكرى محزنة ومؤلمة جداً .)
إنها الام الصالحة الخيرة الطيبة ، يقتضي الوفاء منه أن يحزن لفراقها ، ومنا أن نتذكرها بالخير حيث دفعت ابنها لإن يجود بأروع القصائد الإنسانية في مجالي الأمومة والطفولة ، ونرجع إلى طفولة الرصافي حيث بدأ حياته الدراسية عند أحد الكتاب حتى ختم القرآن الكريم ، وتعلم مبادىء الكتابة ، وانتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية ، وكانت تتألف من ثلاثة صفوف ، وبعد تخرجه منها التحق بالمدرسة الرشيدية العسكرية ، وكانت بمستوى المدارس المتوسطة ، وفي الصف الرابع من مدرسته الأخيرة رسب في الامتحان لعدم إجادته اللغة التركية ، ولعدم التزامه بالانضباط العسكري ، لنزعته الحرّه ، لذلك اضطر أن يترك المدارس الرسمية ، ويتجه إلى طلب العلوم الدينية ، فألتحق بالشيخ ( محمود شكري الألوسي ) سنة 1924م ، ولازمه اثنى عشر عاماً ، والعلامة الألوسي هو مؤلف ( نهاية الأرب في أحوال العرب ) الذي طارت شهرته بالآفاق ، ونال عليه جائزة اللغات الشرقية في ستوكهولم ، بالإضافة إلى أن شاعرنا تتلمذ على يدي الشيخ عباس القصاب ، والشيخ قاسم القيسي ، وغيرها في تلك المرحلة من حياته ، واستطاع لهمته العالية ، وجهوده المثمرة ، وتطلعاته الخيرة أن يكون ( الرصافي ) :

همم الرجال مقيسةٌ بزمانــها ***وسعادة الأوطان في عمرانـها
وأساس عمران البلاد تعاونٌ ***متواصل الأسباب من سكانـها
وتعاون الأقوام ليس بحاصلٍ ***إلاّ بنشر العلم في أوطانــــــها
والعلـم ليــــــس بنافع ٍ إلاّ إذا *** جرت به الأعمال خيل رهانها
إن التجارب للشيوخ وإنّمـــا ****أمل البلاد يكون في شبّـانــــها

– 2 –
قال ابن الرومي :
رقــادك لا تسهر لي اللــــــيل ضلّة ً ***ولا تتجشم فيّ حوكَ القصائدِ
أبــي وأبــوك الشيــــــخ آدم تـلتقي ****مناسبنا في ملتقىً منه واحد ِ
فلا تهجني حسبي من الخزي أننّي *** وأيـّــــاك ضمّتني ولادة والدِ

تعجبني هذه الأبيات الرائعة للشاعر العبقري ابن الرومي ، والشيء بالشيء يذكر، حول المشاحنات الأدبية والحزازات الشخصية ، والنزاعات الأنانية ، والصراعات السياسية التي يقع بين حبائلها عمالقة الفكر والأدب ، ناهيك عن عامة الناس وعوامهم ، متناسين في لحظات الصراع غير المشروع ، ما الإنسان إلا نطفة من قبل ، وجيفة من بعد – وأنا استعير هذا المعنى من الامام علي ( عليه السلام ) – فلا يبقى بينهما إلا العمل الصالح ، والخلف النافع ، والذكر الطيب ، وشاعرنا اشار إلى نسبه الأولي متجاوزاً كل آبائه وأجداده كما أسلفنا ، ولكن الرصافي وقع بين هذه الأحابيل ، وأشد من هذا ، شأنه شأن العظام ، من حيث يدري أو لا يدري ،والعباقرة عادة لا يصنعون الأحابيل ، بل يقعون فيها جبراً أو اختياراً ، لك أن تقول ما تشاء ، ونحن نسجل ، كان الرجل جريئاً ، ولعله من أكثر شعراء العراق المعاصرين جرأة وصراحة ،لايخشى لومة لائم ، ولا صولة صائل ، ينتفض ثائراً ، وينطق هادراً ، ويقذف بحممه وجهاً لو جه حتى تصل القمة:

لهم ملك تأبى عصابـــــة رأسه**** لها غيرسيف التيمسيين عاصــــــبا
لقد عاش في عزّ بحــيـث أذلّهم *** وقـد ساءهم من حيث سرّ الأجانبا
وليس له من أمــرهم غير أنّهُ *** * يعــدّد أيـاماً ويـقـــبــض راتــبـــا

تسألني هل نحن مع هذا الشعر ام ضده ؟ وهل عراقنا اليوم أولى بهذه الابيات أم عراق أيامه ؟! وهل كان الشاعر صادقاً في قوله أم منفعلاً في طرحه ؟! فالرجل ذهب إلى رحمة الله ، وصار في ذمة التاريخ ، ويقال أن الملك فيصل اجتمع بالرصافي بعد ذلك فقال له : ( أأنا أعدّد أياماً واقبض راتباً يا معروف ؟ فأجابه : أرجو أن لاتكون منهم يامولاي ) ، وأنا الآن لست محللاً سياسياً ، بل ناقداً أدبياً ، وأفسر الأمر من حيث هو ، لا من حيث أنا وأنت ، والذي أريد أن أقوله في هذه النقطة كان الرجل جريئاً وفي منتهى الجرأة ، ومن هنا جاء العنوان ( من ثورة شموخه ) ، واذا تريد أكثر ، فلنرجع الى إلخلف سنلاحظ ، إن الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان المستبد عبد الحميد عقب إعلان الدستور ( 10 تموز 1908م) اقرأ معي :

في شهر تموز صادفنا لما وعدت*** بيض الصوارم بالدستور تنجيزا
أمست لنا قســــمة بالـملك عادلة ** حكماً وكانت على علاّتها ضيزى
قمــــنا على الملك الجبار نقرعهُ ***بالسيف منصلتاً, والرمح مهروزا
فالشاه في شهر تموز ٍ هوى وكذا ***عبد الحميد هوى في شهر تموزا

بل ذهب أيضاً إلى أكثر من هذا .. إلى مقارعة الدولة العثمانية بأسرها يقول في قصيدته ( تنبيه النيام ) :

عجبت لقوم يخضــعون لدولةٍ ***يسوسهم بالموبقات عميدهـــا
وأعجب من ذا أنّهم يرهبونها ***وأموالها منهم, ومنهم جنودها

ونحن نعذر ، ولا نعجب من الرصافي ، إذ كان من مؤيدي هذه الدولة المستبدة في طور من أطوار حياته ، وبعد ( تنبيه النيام ) ! حتى أنه وقف ضد الإصلاحيين العرب في بلاد الشام ، فبعد أن مدحهم في قصيدته ( في معرض السيف ) ، نجد أنه قد هجاهم بمرارة في قصيدتهِ ( ما هكذأ ) و ( في ليلة نابغة ) ، لذلك كتب عنه الشيخ محمد رضا الشبيبي بقساوة لا تتحمل ، منها ( وكان موقف الرصافي من هذه الحركة موقف الخصم الشديد ، وهو لا يقل عن موقف أي تركي معتز بنعرته القومية…) ، ويقصد الشيخ ( حركة الاصلاح ) ، ولا نريد الاطالة في هذا الموضوع لانه خارج بحثنا ، ولكن لكي لا يقال عن كاتب هذه السطور تناسى ، ولكن مرة أخرى تجدر الإشارة إلى أن ليس كل الحق مع الشيخ الشبيبي ، فالرصافي عاش عصره ، زمن الهيمنة الفرنسية والإنكليزية على الوطن العربي ، وكان الرصافي يرى من المنظور التاريخي والإسلامي أن العثمانيين أقرب إلى العرب ، ولاسيما عندما عقد الإصلاحيون مؤتمرهم في باريس في 17حزيران /1912 م ، فوجد في ذلك تعاوناً مع الأجنبي ، ورؤية الرصافي استمرت لدى بعض العراقيين حتى أن ثورة النجف التي قادها نجم البقال سنة 1917 تصب في هذا الإتجاه ، على كل حال ، يقول شاعرنا في ( ما هكذا ) :

لو كان في غير ( باريز ٍ ) تآلـبهم ***ماكنت أحسبهم قوماً مناكيـــــــــبا
لكن ( باريز ) مازالت مطامعــها *** ترنوا إلى الشام تصعيداً وتصويبا
هل يأمن القوم أن يحتل ســاحتهم *** جيشٌ يدكّ من الشام الأهاضيـــــبا

وصدقت نبؤته من بعد ، إذ دكّ الفرنسيون هضاب الشام ، وقدمت الشام الآف الشهداء في سبيل نيل حريتها واستقلالها ، وهذا لا يعني الاتراك كانوا أرحم على العرب من الفرنسيين ، ولكن أيضاً يجب أن نتذكر ظروف الرصافي وعصره ، إذ كان يعيش في عاصمة الدولة العثمانية ، ويأخذ المعلومات والحقائق عن طريق الحكام من الاتحاديين , وهم وصحافتهم وبياناتهم كانت مصدر الأنباء بالنسبة له ولغيره ، وكان يسمع فقط وجهة نظر الحكام مدعمة بالوثائق والأسانيد ، ولا تصله أنباء ما يجري في الولايات العربية إلاّ عن هذا الطريق ، وإلا فالرجل شعلة خالصة من الوطنية والإخلاص والحب لقومه لا تشوبها أيّة شائبة :

يابني يــــــعرب ما هذا المنام ***أو ما أسفر صبح النوّمِ ِ ؟
أين من كان بكم يرعى الذمام ***ويلبّي دعوة الـمهتضمِ
أفـــــــــلا يلذعكم مني الملام**** فلقد ألفظ جـمراً من فمِ

نرجع إلى سيرة حياة شاعرنا، لنتابع معه رحلة العمر ، إذ تركناه قد تخرج أيدي شيوخه ، فنحن الآن إذن في بدايات القرن العشرين ، حيث يمارس شاعرنا مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية ببغداد ، ثم ينتقل إلى مدرسة ( مندلي ) لمدة سنة دراسية ، ويعود بعدها إلى بغداد ليحاضر في إحدى المدارس الثانوية في الأدب العربي ، وينظم أثناء ذلك أروع القصائد في الاجتماع والثورة على الظلم ، ويبعثها للنشر في الصحف المصرية ، وخاصة جريدة ( المؤيد ) ، ومجلة (المقتطف ) وغيرهما ، وكان يرتدي حينذاك العمامة والجبة ، ولم يكن الرجل في بحبوبة من العيش الرغيد ، والعمر السعيد ، بل كان فقيرا ، لا تسعفه ذات يد ، وكم مرة صارع هوى نفسه ، فتغلب عليه ، واخضع رغبته وشهوته ، لشهوة حالته المادية :

وأقنع بالقوت الزهيـــــــــد لطيبه ***حذار وقوعي في خبيث المطاعم ِ
وأترك ما قد تشتهي النفس ميله *** لما تشتهيــــــــه قلّة في دراهمي

بقى شاعرنا في وظيفته التعليمية حتى ( تموز 1908م ) ، إذ أعلن الدستور العثماني ، فترجم للعربية النشيد الوطني العثماني الذي وضعه الشاعر التركي المشهور ( توفيق فكرت ) ، مما أدى إلى زيادة شهرته ، وتغلغل نفوذه في عاصمة الدولة العثمانية ، وشيوع ذكره أكثر فأكثر في جميع أنحاء الوطن العربي ، فأختير رئيساً لتحرير القسم العربي في صحيفة ( بغداد ) وهي اول صحيفة أهلية غير رسمية تصدر في بغداد ، وقد أصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي ، ( صدر العدد الأول منها في ( 6 اب 1908 م ) باللغتين العربية والتركية ، ووردت إليه دعوة من ( أحمد جودت ) صاحب صحيفة ( إقدام ) التركية ليعمل محرراً في صحيفته ، فشدّ الرحال إلى الأستانة في أوائل ( 1909 م ) على ما أرجح ، ولما وصل إليها خذله صاحب الدعوة , فرجع خائباً مروراً بسالونيك وأثناء وجوده فيها سمع بإنتصار المستبدة , وإلغاء الدستور ، وحل مجلس ( المبعوثان ) ، وذلك في 31 آذار 1909 م ، فذهب شاعرنا إلى بيروت ، وأعوزه المال هناك ، فبادر السيد محمد جمال الدين صاحب ( المكتبة الأهلية ) في بيروت إلى شراء مجموعة شعره التي صدرت باسم ( ديوان الرصافي ) عام 1910 م وهو أول ديوان يطبع له ، وعاد إلى بغداد وعلى الأرجح الى العمل في رئاسة تحرير القسم العربي بصحيفة ( بغداد ) إلى أواخر أيامها ، ثم سافر إلى أسطنبول ( الآستانة ) مرة ثانية , وتولى رئاسة تحرير صحيفة ( سبيل الرشاد ) العربية إثر برقية جاءته من ( جمعية الأصدقاء العرب ) ، وكُلف هناك بإلقاء محاظرات في ألأدب العربي في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الأوقاف ، وكان الرصافي يتمتع بمنزلة اجتماعية رفيعة ، وقام بتدريس طلعت باشا وزير الداخلية ، وكان هذا العمل على مايبدو هو سبب في اختياره نائباً في مجلس المبعوثان ( النواب ) العثماني عام 1912م وذلك عن لواء المنتفك ، ونستنتج من شعره أنّه كان عضواً فعّالاً متكلماً يبدي رأيه بجرأة ، حتى أنه يستهزأ من نواب بغداد الصامتين في المجلس ( هو محسوب على نواب المنتفك ) , فعندما يهجو رجلاً مغروراً جاهلاً يشبهه بنواب بغداد قائلاً :

وشـــــامخ الأنف ما ينفكّ مكتسباً *** ثوب التكبّر في بحبوبة النادي
قد لازم الصمت عبئأً في مجالسه *** كأنما هو من نــواب بـــــــغدادِ

وفي ذلك الحين تزوج شاعرنا الكبير ثيباً من بنات أزمير اسمها بلقيس ، شقيقة طبيب تركي مشهور يدعى الدكتور( أكرم أمين بك ) ، وهي زوجته كما يزعم بعض المؤرخين ، فالشاعر يروي لنا ساعة توديع زوجته حين اضطر الى مغادرة الاستانة بعد خرابها , حيث أصبحت شبح عاصمة لمملكة كانت كبرى ، وأصبح هو بين أحضان شعب يعاني من مرارة الهزيمة ، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى قائلاً :

تقول ابنة الأقــــوام وهي تلومني***وأدمعها رقراقة في المـحاجرٍ
إلى كم تجدّ البين عنّي مسافـــــراً *** أما تستلذ العيش غير مسافرِ
ولا غرو أن أبكي أسى من بكائها*** فأعظم ما يشجي بكاء الحرائرِ
وقلت لها : إنّيِ امرؤ لي لبــانة ٌ*** منوط ٌ مداها بالنجوم الزواهرِ
تعوّذت إلا أستنيم إلـــــــى المنى*** وآلا أرى إلاّ بهيـئة ثائـــــــــرِ
ِ
لا طلاق ولا هم يحزنون ، هذا بكاء من الطرفين ، وهذا اللوم والعتاب وانكسار الخاطر ، والشاعر يطمح للنجوم الزواهر ، وأن يرى بهيئة ثائر ، وتحت قدميه ركام الاستكانة ، وأمامه شحوب الآستانة ، وراحل إلى المجهول ، لا أهل ولا سكن ! تركها في الآستانة ، وعند مكوث الشاعر في بغداد، رغب بالعودة إليها ’ وطلب سلفة على رواتبه لتذليل عقبات السفر ولكنه لم يوّفق لما أراد :

قد عاقني الإملاق عن سفري إلى ****من طال معتلجاً إليه حنيني
وأنا المشوق ، ولست ممن شاقهم****بقر العذيب ولا مها يبرين
لكن قلبي لايــــــــــــزال يشوقــــه** ظبيّ ٌ أقـــــام بدار قسطنطين

المهم شاعرنا قرر الرجوع إلى وطنه ، ولكن العراق أيضاً تحتله القوات الإنگليزية إحتلالاً عسكرياً ، فما العمل ؟ ! يمم وجهه شطر دمشق ، ومنها إلى القدس حيث جاءته دعوة للعمل كمدرس بمدرسة المعلمين في القدس الشريف ، فأشتغل هنالك بالتدريس من سنة ( 1918 – 1921 م ) ، وكان موضع تقدير في مجتمع مدينته المقدسة ، فدعي إلى المآدب والاحتفالات ،وطلب إليه إنشاد الشعر ، ولكن لم تهز ّه أحداث العراق ، فلم يشارك في الثورة العراقية الكبرى عام 1920 ، فلم نعثر على أي قصيدة له فيها.

ورجال الثورة وافقوا على تنصيب ( فيصل ) ملكاً على عرش العراق ، وهو قد هجا من قبل والده الشريف حسين بأبيات قاسية , لذلك عند عودته للعراق سنة ( 1921 م ) لم يسعفه الحظ إلاّ بوظيفة دون طموحه الكبير ، وأقل مما يستحقه بكثير، وهي وظيفة ( نائب رئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ) ، فقضي فيها نحو سنة ونصف ، وأثناء وجوده ببغداد ، أقام المعهد العلمي حفلة تكريمية لأمين الريحاني ( أيلول سنة 1923 ) ألقى الشاعر فيها قصيدة تعد من غرر قصائده فما أحوجنا إليها في هذه الأيام الحالكة :

لو ما تـــــرى قطر العراق بحسنه**** قد فاق مقفره على مأهولــــهِ
فلقد عفا المجد القديــــــم بأرضه **** وعليه جرّ الدهر ذيل خمولـهِ
وإذا نظرت إلى قلوب رجـــــــالهِ **** فأنظر حديد الطرف غير كليلهِ
تجد الرجال قلوبها شتى الهــــوى **** مدّ الشقاق بها حبالة غولـــهِ
متناكرين لدى الخطوب تناكــــــراً **** يعيا لســـان الشعر عن تمثيلــهِ
فالجارُ ليس بمأمن من جــــــــــارهِ *** والخلّ ليس بواثقٍ بخليلــــــهِ
وإذا تكلم عالمٌ في أمرهـــــــــــــــم **** حفروا ذمـــام العلم في تجهيلـهِ
حالٌ لو افتكر الحكيــــــــــمِ بكنهه **** طــــول الزمان لعُيّ عن تعليلــهِ
من أين يرجى للــــــــــعراق تقدمٌ *** *** وسبيل ممتلكيه غير سبيلـــهِ
لا خير في وطن ٍ يكون الســـــــيف *****عند جبانه , والمال عند بخيلــهِ
والرأي عند طريده والعلــــــــــــم *** *عند غريبه والحكم عند دخيلهِ
وقد استبد قليله بكثيـــــــــــــــــرهِ *** ظلماً وذل كثيره لقلــــــــيلهِ
إني إذا جدّ المقـــــــــــــال بموقفٍ **** فضلتُ مجمله علـــــــــى تفضيلــهِ

– 3 –
بادىء ذي بدء ، يقتضي العدل والإنصاف – وأنا أمرُّ بشيخوختي ، وأقف على مسافة واحدة بين الملك فيصل الأول (1) و الرصافي ، رحمهما الله -عندما أضع نفسي محامياً عن جرأة الشاعر وشموخه ، أن لا أبخس ملك العراق الأول – لمن لا يعرف تاريخ العراق الحديث -عبقريته وحلمه ودماثة خلقه وحنكته ونزاهته ، وهو لا ريب من أروع الحكام الذين تسلموا زمام القيادة منذ زوال الاستبداد العثماني ، وهذا ما أتفق عليه المؤرخون المنصفون .
على كل حال ، نرجع بكم القهقرى لعهد الكلمة والقول الجريء ، والعقل المتلقي الرشيد ، إلى عقد العشرينات من ذاك القرن المسمى بالعشرين ، والرصافي الكبير قد تجاوز من العمر خمسة وأربعين عاماً ، والإنسان عادة في هذا السن يكون في قمة نضوجه العقلي ، والفكري والجسدي , فلا هو بالشيخ العاجز ، ولا هو بالشاب الطائش ، يعرف ما يريد من الحياة ، وماذا تريد منه ، وهكذا كان شاعرنا الرصافي قد عركته الدنيا وعاركها ، وقلبته وقلبها ، وزاد على نضوجه شموخه النفسي ، وثورته العارمة حتى بلغ قمة القمم ، وذروة الجرأة في قصيدته التي تلاقفتها الأجيال ، ورددتها الألسن من يومه إلى يومنا ، ونعتها بـ (حكومة الاغتراب ) :

أنا بالحكومة والسياسة أعرف *** أألام في تفنيدها وأعنف
سأقول فيها ما أقول ولم أخف **من أن يقولوا : شاعرٌ متطرف
ثم يمسك الرصافي بقلمه المعول ، ليضرب هيكل الدولة المصطنع من قمة رأسه إلى درك أساسه ، ليجعله عصفا مأكولا ، وهباءً منثورا ، كأن لم يكن شيئاً مذكورا:
علم ٌودستورٌ ومجلس أمــةٍ ****كل عن المعنى الصحيح محرفّ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها *** أمّا معانيها فليس تــــــــــــعرف
من يقرأ الدستور يعلم أنه **** وفقا لصـــك الأنتداب مصنّف
من ينظر العلم المرفرف يلقـه ***في عزّ غير بني البلاد يــرفرف\

ولا تخفى استعارته ( للعلم ) ويعني به الملك ، ليصب جحيمه عليه ، والملك يغض الطرف عنه ، ولا يبالي منه حكمة وحنكة ، بدليل الأبيات التي اعقبت البيت الاخير، اذ انه يواصل بلا هوادة تمزيق الصورة المزيفة بنظره للديمقراطية :

من بات مجلسنا يصدق أنه **** لمراد غير الناخبين مؤلف
من بات مطرد الوزارة يلقها **** بقيود أهل الاستشارة ترسف
ولا نستطيع ان نواصل معك اتمام القصيدة ، اذ يدعو فيها للثورة ، ويهدد بزحف الجيوش ، ويوعد بطول الحساب ، ونتف اللحى ، إن كانت هنالك ثمّة لحى يحسب لها حساب ، ونختمها بما ختمه :

إن لم نماحك بالسيوف خصومنا ****فالمجد باكٍ ، والعلى يتأفف

والحقيقة أن الرصافي قد مهد لهذه القصيدة بعدّة قصائد سبقتها ،منها ( كيف نحن في العراق ) ،يسخر فيها من الدولة والإنكليز , ويشبه معاهدة ( 10 / 10 / 1922 م ) بالقيد الذي يوضع في يد الأسير، وما الأسير إلا شعب العراق !

أيكفينا من الدولات أنّــــــــا *** تعلق في الديار لنا البنـــود
و إنّا بعد ذلك في أفتقـــــــارٍ ٍ *** إلى مــا الأجنبيّ به يجـــود
وكم عند الحكومة من رجال ٍ *** تراهم سادة ، وهم العبـــيد
أما والله لو كنـــــــــا قروداً **** لمـا رضيت قرابتنا القرودُ !
ثم لماذا ؟
هل تريد أن ازيدك من تصنيفات شاعرنا الجريء ، أم أتوقف عن سرد قصة ( غادة الانتداب ) ؟
أعتقد أنك معي قراءة ، ومع الرصافي شاعرية وتخيلاً ، فمن تخيلاته العجيبة الغريبة ، تشبيهه للحكومة بفتاة كخضراء الدمن ، ظاهرها جميل ، وباطنها خبيث ، والعياذ بالله ، ويواصل الرصافي الشامخ قذائفه بكل عنفوان وجرأة ، بلسان ولا أسلط ، وقساوة ولا أعنف ، و بسخرية ولا أهزأ ،وبأسلوب ولا أسهل ، يحفظه القاصي والداني ، و يفهمة العام والخاص ، ويجعل لعنة الله على الظالمين ، فلا داعي للتخيل والتبسيط فكل ما فيها صعب بسيط , سهل ممتنع ،فهذه ( الوزارة المذنبة) :

أهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة
إن ديك الدهر قد باض بـبـغــداد وزاره !
هي للجاهل عزّ، ولذي العلم حـقـــــاره
حبّبت للوطنــــي الـحـرّ أن يــهجـر داره
كم وزير ٍ هو كالوزر على ظهر الوزارة
ووزير ملحق كالذيل في عجز الحمــارة
أمع الذلة كبر ا، أم مع الجبن جســـــاره
كيف لا تخشون للأحرار في البطش مهارة

على ما يبدو لنا أن الملك أخذ الشاعر بحلم الداهية , وحقد البعير،فالسياسة فن الممكن، والشعر فن اللاممكن ، الشاعر يطلب المثالية ، والسياسي يتشبث بالواقعية ، ولا نطيل ، المهم ، شاعرنا لم يسلم من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين على جرأته الغير معهودة ، سواء في قصائده السياسية ، أو في ثورته الفكرية ( فصارع خصوما ًأشّداء تألبوا عليه ، وأثاروا الرأي العام مرات عديدة ، وهم في كل مرة يثيرونه فيها ، يضربون على وتر الدين ، وهو وتر حساس جداً , يثور الناس إذا سمعوه ) , حتى أن البعض أفتى بكفره ، وخروجه عن الدين ، ووقف معه في شدته الشيخ عبد الوهاب النائب ، والشيخ مهدي الخالصي ، لذلك عند وفاة الأخير في مشهد ودفنه هناك ( 12 رمضان 1343 هـ / 6 نيسان 1925 م ) ، رثاه بقصيدة رائعة فضح فيها الآلاعيب التي أدّت إلى أبعاد العلماء الأعلام عام ( 1923 ) ، وهم الشيخ الخالصي ، والسيد أبو الحسن الموسوي ، والشيخ محمد حسين النائني ، المهم ألقاها في الحفل التأبيني الذي أقامه نادي الإصلاح في بغداد :

أدهق الدهر بالمنية كأسه **** من قديم ٍ، وطــاف يسقى أناســــــه
أنا أبكي عليه من جهة العلـ **** م ، وأغضي عن خوضه في السياسه
لا لأنّي أراه فيها ملومــــــاً ****بل لأني أعيب فعــــــــــــل الساسه
ليس في هذه الهنات السياسيا ****ت إلا ّ ما ينجلي عن خساســــــــــه
قد أبت هذه السياســـة إلا ّ**** أن تكون الغشاشـــــــــة الدّساســـه

من هنا بدأ يدرك شاعرنا بوضوح أن اللعبة لم تكن سهلة قط ، ولابد من دفع الثمن ، والثمن باهض وباهض على حساب شرف سمعته ، وحط ّ كبريائه ، ولقمة خبزه ، واذا زاد فهو كافر مرتد وهناك من يصفق ، وهناك من يردد عن جهل عابر ، أو علم مقصود ، لذلك أخذ شاعرنا يتأرجح صعوداً وهبوطاً ، يأخذه الجزر مرة ، ويعيده المدّ أخرى ، فوجدت بذور القنوط في نفسه الكبيرة مكمناً …
لنرجع إلى سيرة حياته مرة ثانية ، ونرى ما حلّ بشاعرنا ، إذ تركناه في ( أيلول 1923 ) موظفاً هامشياً في وزارة المعارف ، وفي السنة نفسها سافر إلى الأستانة على ألا يعود إلى العراق يائساً مكسور الجناح ، وبقى هناك سبعة أشهر ولم يقاوم ، فعاد مضطراً إلى العراق عن طريق بيروت 1923 :

آب المسافر للديارٍ ***على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب ** لما تعجل في ذهابه !!

وفي هذه السنة أصدر جريدته ( الأمل ) التي صدر العدد الأول منها في 1/ 10 /1923 ولم يصدر منها سوى ثمانية وستين عدداً ، وتوقفت عن الصدور ، وبقى مدة بغير عمل حكومي ، وعندما ألف ياسين الهاشمي وزارنه سنة 1934 ، وكان الشيخ الشبيبي وزير معارفها ، أعيد الرصافي إلى الوظيفة , وأصبح مفتشاً للغة العربية حتى عام 1927 ، ثم نقل إلى تدريس اللغة العربية وآدابها بدار المعلمين ، وفي سنة 1928 استقال ولم يعد إلى التوظيف ، ولكن لما تولى عبد المحسن السعدون رئاسته الثانية في ( 14 / 1 / 1928 م ) ، أستطاع أن يقنع الملك بترشيح الرصافي لمجلس النواب ، وفي ( 19 / 5 / 1928 ) صار لأول مرة عضواً فيه ، وبعد أن مرت عليه أيام عسيرة جداً ، لا يجد فيها ما يلبسه إلا العتيق البالي ،فخاطب السعدون يشكي حاله قائلاً :

وليس العري من ثوب معيباً ***لكاسي النفس من حلل الإباء
ومــــــا ضرّ المهند فقد جفن ٍ** * إذا ما كان محمود المـــضاء
فأن لم تــــدرك الأيام عريي *** * بثوب منك ياغمر الـــــرداء
لبست قرار بيتي في نهاري *** * ولم اخلعه إلا في المســـــاء !

ومهما يكن من أمر ، تعدّ الايام النيابية الاولى من أسعد أيامه ، جددت لديه الطموح للمضي قدماً نحو كرسي الوزارة , ولكن يصح على طموحه المثل الشعبي المعروف ( عرب وين , طنبوره وين ) ، كان شعر الرصافي لا يمكن له أن يسعى بصاحبه إلى أعتاب الوزارة ، فمن الحال المحال الجمع بين الماء والنار , والشيء ونقيضه ,فلا يوجد أي انسجام بين رغبته وسلوكه ( أقصد الشعري ) ، فما أن جاء المستر ( كراين ) ,وأقيمت حفلة كبرى لتكريمه ، ودعي الرصافي إليها ، وهو نائب حتى نسى كل آماله ، فوقف في الحفل ، وألقى قصيدة رائعة تفضح الحكم القائم وتعريته :
جئت يامستر كراين*** فانظر الشرق وعاين
فـهــو للغــرب أسيرٌ ** أسر مديون ٍ لدائـــــن
غاصباً منه المواني*** شاحناً فيه السفائــــن
حافراً فيه المــعادن ***نابشاً فيه الدفائــــــن !

وما أن نشرت معاهدة ( 19 / 7 / 1930 م ) حتى انقض عليها كالمارد الجبار دون أي حساب للعواقب ، ساحقاً بقدميه العاريتين كل طموحاته الوظيفية وآماله المستقبلية :
كتبوا لنا تلك العهود وإنما ** وضعوا بها قفلاً على الأغلال
شلّت أكف موقعيها أيـّهـم *** حلّت عليهم لعنة الأجيـــــــال

فتحت له أبواب الانتخابات النيابية لمجالس أربعة أخرى ، في ( 1/11/1930 عن لواء العمارة ) ، و ( 8/3/1932 عن لواء بغداد ) ، و ( 8/8/1935 عن لواء الدليم ) ، وكذلك في ( 22/12/1937) , وللإنصاف والحق مرة ثانية ,إن الشاعر بلغ أعلى الرتب السياسية والاجتماعية في عهدي الملكين فيصل الأول ، وابنه غازي (2) ,لذلك عندما توفي الملك فيصل الأول ( 8/ أيلول /1933 ) ، رثاه في قصيدة ,كأنها وثيقة اعتراف بحنكة الفيصل وشجاعته وسداد رأيه ، إقرأمعي بعض ما قال فيها :

قضى بدر المكــــارم والمعالــــي **وحيدرة المعارك والمـغازي
بنى مجــــداًعراقيـــــــــاًجديـــــداً**فأسسه على المجد الحجازي
وسار من السياسة في طريـــــق *** بحسن الرأي معلمة الـطراز
فما ترك الجهود بلا نجـــــــــــاح *** ولا فرصا تمر بلا انتــــــهاز
إذا اعتزم الأمور مضى وأمضى ***وإن سل المهند قال : مـــاز !

ومهما يكن ، وكانت في أوائل عام 1933 ضاقت به الأمور المالية ، وضجر من صخب بغداد ، وآلاعيب ساستها ، فهاجر إلى الفلوجة بدعوة من ( آل العريم ) ، وعاش مكرماً معززاً بينهم ، وبقى في الفلوجة حتى ( أيار 1941 ) ، عندما دخل الجيش الانكليزي إلى المدينة الآمنة ، و بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني حيث تركها إلى بغداد عائداً ، وكانت حينذاك تحت سيطرة الوصي عبد الإله ومن خلفه نوري السعيد ، فنزل ضيفاً في بيت صديقه السيد ( خيري الهنداوي ) ، ومعه خادمه ( عبد) حتى عثر على دار بجوار بيت صديقه ، ثم انتقل بعد ذلك إلى دار في محلة ( السفينة ) بالأعظمية ، وهي الدار التي توفي فيها ، وكان الرجل في عامه السابع والستين ،عندما نزل بغداد ( 1941 ) ، ولكن لم تهده السنوات العجاف ، ولا صراعات الأيام ودسائسها ، بل ظلّ شامخاً بقامته العملاقة ، ولم تجرأ سنواته السبعون على النيل من هيبته ووقاره ورزانته ، وفي خلال هذه الفترة الزمنية هجا نوري السعيد هجاءً مقذعاً ، وخصوصاً بعد اخفاق ثورة الكيلاني :

نوحي على المجد التليد *** يانفس والحكم الرشيد
نوحي على أبطالـــــــه *** وكماته الغرّ الاســـــود
عصفت بهم ريح الطغاة *** وهدّهم حكـــــم السعيد

وفتح الرصافي دكاناً صغيراً قرب بيته لبيع السجائر فكسدت سوقها ، وظل الرصافي يعيش مرارة العوز ، و عذاب الفاقة ، حتى باع الفرش والسجاد ، ومقتيات بيته المتواضع ليستعين بثمنها على العيش ، حتى رق ّ عليه أحد المعجبين بشعره ويدعى ( مظهر الشاوي ) فأجرى عليه راتباً ، وسبب مأساته ، إن صح التعبير – خلاصتها :

عاهدت نفسي والأيام شاهدةٌ **أن لا أقرّ على جور السلاطينِ
ولا أصادقُ كذّاباً ولو ملكاً ****ولا أخالطُ ُ أخوانَ الشياطين

فما كان الرجل قادراَ على كتم صوته ، أو يهادن الآخرين ، وللقول ثمن ، وللجرأة ضريبة ،وللخصومة أعداء ، وأرى أنّ الدهر وضعه في ظروف أرحم بكثير مما سيأتى بها له ولغيره لو عاصروا سلاطين مَنْ جاء مِنْ بعد وبعد – يا بئس ما رأينا – ! !
و إليه نعود ، والعود أحمد ، ففي سنة 1944 وهو في عامه السبعين ، يصارع الشيخوخة والأمراض والعلل ، أثيرت حوله ضجّة كبيرة تتهمه بالكفر والإلحاد , إثر صدور كتابه ( رسالة التعليقات ) ، وتدخلت مديرية الاوقاف العامة لحسم الامر ، فطلبت من العلامة ( فهمي المدرس ) إبداء الرأي في كتابه , وبعد دراسته قال 🙁 وبالاجمال لم يظهر لنا كتاب تعليقات الرصافي ما يمس حرمة الدين ، بل ظهر أنه قوي الايمان بالله ورسوله ، راسخ الاعتقاد بما جاء القرآن، ومن كفرّ مسلماً فقد كفر ) وبالمناسبة للرصافي سبعة عشر مؤلفاً تركها للأجيال ، ثم لبى نداء ربه صباح الجمعة ( 16/3/1945 ) واحسبه كان يردد:

ويل ٌ لبغداد مما سوف تـــذكره **عنّي وعنــها الليــالي في الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعــها *** على جوانــب وادٍ ليــــس يسقيني
ماكنت أحسب إنّي مذ بكيت بها ****قومي , بكيت على من سوف يبكيني
رحم الله الرصافي، ورحم تلك الأيام ، بكينا عليه ، فمن الذي سيبكي علينا يا ترى ؟!!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الملك فيصل الأول ولد في الطائف في 20 أيار 1883م، وتوفي في برن عاصمة سويسرة مستشفيا في 8 أيلول 1933، وهو نجل الملك حسين (1854-1931 ) شريف مكة ، وقائد الثورة العربية (1916) ، وأمه الشريفة عابدية بنت شريف مكة عبد الله كامل باشا , حكمت الأسرة الحجاز أكثر من سبعة قرون منذ 1201م حيث جدهم المؤسس قتادة بن أدريس الحسني، أما الملك فيصل الأول فحكم العرااق مابين ( 23 ب 1921- 8 أيلول 1933) ، وحكمت الأسرة في العراق الى (14 تموز 1958 ) كما هو معلوم، وللملك فيصل تاريخ حافل في السياسة على المستوى العربي والوطني ، كان الرجل نابغة من نوابغ دهره، غاية اللطف في معاشرته ، داهية في حكمه ، عفيفا لم يطمع بمال، ولم يؤثل ثرؤة، تزوج في اسطنبول سنة 1905 من ابنة عمه الشريفة حزيمة بنت الشريف ناصر بن علي توفيت في بغداد سنة 1935, انجبت له الملك غازي، والحقيقة أنّ بؤس الرصافي وقنوطه لم يُحدثا في عهد الملك فيصل الأول ولا حتى في عهد نجله الغازي.
(2 ) الملك غازي ولد في مكة المكرمة بتاريخ 21 أذار 1912 من أبويه السالفي الذكر، عاش في كنف جده الشريف حسين وجيء به إلى بغداد في 5 تشرين الاول 1924 ، ونودي به وليا للعهد ’ كمل دراسته في كلية هارو بلندن، ودخل الكلية العسكرية ببغداد وتخرج منها حزيران سنة 1932، واقترن بابنة عمه الأميرة عالية بنت الملك علي في كانون الثاني 1934، ووضعت له ابنه الملك فيصل الثاني في 3 أيار 1935 ، كان الملك غازي شاباًمتحمسا نزقا، ً طيب القلب والعاطفة، غير متمرس في السياسة، لم يطل عهده، إذ قضى أجله في حادث اصطدام سيارته بأحد شوارع بغداد في 4 نيسان 1939م، وقيل في مصرعه الأقاويل، مدحه الجواهري ونعاه، ورثاه أيضا عبد الحسين الأزري وغيرهما من الشعراء والكتاب.

أحدث المقالات

أحدث المقالات