هل ألمسيح أسطورة أم نبي أم إله؟
إكمالا لمقالاتي المنشورة في الحوار المتمدن حول التصوف والنبوة ورحلة ألنبي محمد من ألتصوف إلى ألنبوة سأحاول في هذه المقالة ألإجابة على هذه ألتساؤلات.
أولا: هل ألمسيح أسطورة؟
من المعلوم أنّ هناك تأثير متبادل وتلاقح بين الأساطير للشعوب المتقاربة جغرافيا وأسباب مشتركة لظهور تلك الأساطير من هذه الأسباب قهر ألموت وتمني ظهور الإله المخلِّص لشعبه.
لنلقي نظرة على الأساطير المشابهة لأسطورة الإله والأبن المولود بدون إتصال جنسي بين الإله وفتاة عذراء.
أسطورة أوزويريس وإيزيس وحورس المصرية:
كان “أوزوريس” إلهاً للخير ورمزاً للخصب في عقيدة المصريين القدماء. وقد ورث مُلك “رع” وأصبح إله كل شيء في العالم، وقد تزوج أخته “إيزيس” التي كانت خصبة وزواجها مثمراً. بينما أختها “نفتيس” التي تزوجت “ست” إله الشر كانت عقيمة لا تلد، فدبّت الغيرة في أوصالها وأرادت أن تكون خصبة كإيزيس، وظنت أن سبب عقمها يرجع إلى “ست” الذي يمثل الأرض الجدباء.
وكان “ست” يبغض أخاه “أوزوريس” وأراد أن يمكر به فدبّر له مكيدة لاغتياله، فأقام له حفلاً مع بعض الآلهة الأخرى، وأعد تابوتاً جميلاً كسوته من الذهب بحجم الإله الشاب وحده. وأقبل “ست” وزعم أن هذا التابوت هبة منه لأي إله من الحاضرين يصلح لأن يكون مرقداً له. وهكذا.. استلقى كل إله في التابوت ليجرب حظه دون جدوى، إلى أن جاء دور “أوزوريس” وما أن رقد فيه حتى أغلق الآلهة عليه الغطاء.. ثم ألقوا التابوت في نهر النيل، وطفا حتى بلغ البحر الأبيض المتوسط.. وهناك حملته الأمواج إلى الشاطئ الفينيقي (لبنان).. فرسا عند مدينة (بيبلوس) ونَمَتْ على الشاطئ شجرة ضخمة احتوت التابوت.
وكان في تلك المدينة ملكة جميلة هي الإلهة “عشتروت”، خرجت إلى الشاطئ تتريض، وحين أبصرت الشجرة أمرت بقطعها وإقامة عمود ضخم من جذعها في وسط قصرها. ولما علمت “إيزيس” بمصير زوجها وهي من مصر أخذت تبحث عنه في كل مكان، واستبدت بها الأحزان، فبكته بالدمع الهتون. وكانت كلما هطلت الدموع من عينيها غزيرة.. تتساقط في النيل فتمتزج بمائه فيفيض. فقد كان الفراعنة يعتقدون أن دموع “إيزيس” هي سبب فيضان النيل وأخيراً استدلت “إيزيس” الإلهة الجميلة على مكان زوجها ومضت إلى (بيبلوس) وهناك دخلت القصر واتخذتها الملكة نديمة لها ومرضعة لوليدها.
وكانت إيزيس في تلك المدة قد اتخذت صورة النسر- رمز الحياة – وحوّمت حول العمود العظيم القائم وسط القصر، وطافت بجثة زوجها وأخذت تناجي روحه، فتحولت بقوتها السحرية إلى روح ترى من أمامها ولا يراها أحد، ثم حدثت المعجزة فقد حملت إيزيس بالروح دون أن يمسها بشر. حملت في أحشائها الطفل “حورس” وهربت به في أحراش الدلتا إلى أن كبر فحارب الشر وانتقم لأبيه وخلّص الإنسانية من شرور عمه “ست” فسماه المصريون حينذاك (الإله المخلِّص). وأرادت الملكة أن تكافئ إيزيس فسألتها عن بغيتها فطلبت منها جذع الشجرة الذي يحوي زوجها فأعطته لها وأخرجت التابوت منه، وحملته مسرورة ثم وضعته في سفينة وأبحرت به إلى مصر. وهناك استلقت على جثة زوجها الهامدة، ونفخت فيها من أنفاسها مستعينة ببعض الآلهة، فردت إلى الميت الحياة، ثم ارتفع “أوزوريس” بعد ذلك إلى السماء واعتلى العرش في العالم الآخر.
من هذه الأسطورة نرى أن “أوزوريس” عاش ومات ثم رُدت إليه الحياة ثانية، وأصبح شجرة خضراء، فكان هو الإله المهيمن على الزراعة وبذر الحياة في هذا الوادي، ينشر فيه الخضرة كل عام. وقد رأى المصريون القدماء أن الحبة التي يبذرها الزراع تنبت وتخضر وتأتي بالثمار، ومن تلك الثمار أخذ يزرع حبوباً أخرى، فتكررت معجزة الحياة. وفكر في تلك الحياة المتجددة التي لا تموت، فاعتقد أن هذا الشيء الحي الذي لا يموت هو إله، وأن أوزوريس هو روح هذه الحياة الخضراء الثابتة في الأرض. وعرف كيف أن هذه النباتات المخضرة تذوي كل عام، وتترامى لناظرها كأنها ماتت وفارقت الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى إلى حياتها ونضرتها.
وقد آمن المصريون القدماء بأن “أوزوريس” هو القوة التي تمدهم بالحياة وتعطيهم القوت في هذه الدنيا، وأنه هو الأرض السوداء التي تخرج منها الحياة المخضرة، ورسموا سنابل الحَبِّ تنبت من جسده، ورمزوا للحياة المتجددة بشجرة خضراء. وكانوا يقيمون في كل عام حفلاً كبيراً ينصبون فيه شجرة يزرعونها ويزينونها بالحلي ويكسونها بالأوراق الخضراء كما يفعل الناس اليوم بشجرة عيد الميلاد.
وقد سمّى البابليون هذه الشجرة بشجرة الحياة، وكانوا يعتقدون أنها تحمل أوراق العمر في رأس كل سنة. فمَن اخضرت ورقته كُتبت له الحياة طوال العام، ومن ذبلت ورقته وآذنت بالسقوط فهو ميت في يوم من أيامها. وقد سرت هذه العادة من الشرق إلى الغرب فأخذوا يحتفلون بالشجرة في عيد الميلاد ويختارونها من الأشجار التي تحتفظ بخُضرتها طوال السنة كالسرو، والصنوبر”.
ألإله ألمُخلِّص:
إنّ تاريخ الدين والاسطورة هو صراع الذات مع الموت. ففي المراحل الاولى كانت الذات مسحوقة امام الموت والعالم الاسفل كان مسيطرا جبارا لا مهرب منه ولا فكاك من اسره الابدي،
في سلسلة اساطير الاولين بحثنا عقائد ما بعد ألموت لحضارات وادي ألرافدين ( السومرية والبابلية والآشورية) ووجدنا بأنّه لا يوجد في عقائد ما بعد الموت ألرافديني ثنائية ألجنّة وألجحيم، ولا ثنائية ألثواب وألعقاب، في ألاساطير ألرافدينية لاحظنا بأنّ إله ألخصب ( أنانا أو عشتار) أو أبنها ( تمّوز أو ديموزي) يؤسر أو يُختطف من قبل آلهة ألعالم ألأسفل ويبقى هنالك لفترة معينّة ثمّ يصعد ألى ألأعلى، هذا ألتناوب له علاقة بألمواسم ألزراعية من خريف وصيف وربيع وخريف، فألإنسان ألرافديني كان همّه ألأول طعامه ألأساسي ألقمح ودورة حياته فبعد موسم ألحصاد كانت تقام ألمآتم ألتي ترمز ألى جفاف ألأرض وموت الهة ألخصب ونزولها الى ألعالم ألأسفل، أمّا في موسع ألربيع فكانت ألأحتفالات تتسم بطابع ألسعادة وألفرح لقيام آلهة ألخصب من ألموت وتحرره من ألعالم الأسفل.
إنّ حياة وموت اله الخصب (عشتار وفيما بعد تموز) كانت امورا موحية بأمل غامض وبعيد بإمكانية الخلاص من سيطرة الموت كما تخلَّصَ منها إله الخصب، فكان تعلّق قلوب العباد بهذا ألمخلّص ألحياتي تعبيرا عن النزوع الإنساني الأبدي نحو الخلود. ولم يكن ظهوره في ضمير البشر إلّا مظهرا من مظاهر صراع الظاهرتين الكونيتين في داخل الإنسان وخارجه، صراع الموت والحياة.
إنّ نمو الديانات البعلية ( ديانات الخصب) واكتسابها غلبة شعبية على الديانات الايلية ( ديانات الآلهة السماوية البعيدة ) هو حالة تالية في تطور الدين والاسطورة، وحالة وسط تحتوي على شيء من التوازن بين الحياة والموت.
امّا المرحلة الثالثة فتمثّل عن حق مرحلة انتصار الحياة على الموت في الدين والاسطورة. فما حصل لإله الخصب مرة سيحصل لكل عباده المخلصين ممن سيدخلون في ديانته، ويلتحقون به من دون بقية ألآلهة. قال السيد المسيح: ( من آمن بي وإن مات فسيحيا). فتحولت ديانة الخصب الى ديانة سرية وتحوّل مخلّصها الارضي الحياتي الى مخلّص روحي باسطا سيطرته من عالم الحياة الى عالم الموت ايضا، مقدما لعباده خلاصا لروحهم من سطوة العالم الاسفل.
لقد بلغ الانتصار على الموت قمته في المسيحية التي اعطت الإنسان بعثا كاملا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الاولى بكل تفاصيله واجزائه.
في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.
لقد بقيت عبادات وطقوس الديانات السرية خفية، وبإستثناء الاعياد الربيعية السنوية ولا نكاد نعرف إلّا القليل عمّا كان يجري بألفعل. من هذا القليل الذي نعرفه أنّ معظم هذه الديانات كانت تمارس نوعا من العشاء السري حيث يؤتى بحيوان هو رمز الإله الميّت فيُقتل ويؤكل لحمه ويُشرب دمّه كفعل رمزي للاتحاد الحقيقي بألإله. وفي غير هذه المناسبة فإنّ قتل هذا الحيوان وإكله يُحرّم تحريما باتّا. كما هو شأن حيوان الخنزير المحرّم أكله لدى السوريين من عبّاد ادونيس إلّا في طقس العشاء السري، ولدى المصريين أيضا إلّا خلال الطقوس المشابهة الخاصة باوزوريس.
لقد تبنّى اليهود هذا التحريم اقتداء بالمصريين وجيرانهم السوريين دونما سبب واضح ثمّ جاء الدين الإسلامي وتبنّى تحريم اكل لحم الخنزير بتأثير الدين اليهودي.
في هذا الجو الثقافي المشبّع بديانات الاسرار وجيش ألآلهة المخلّصين ظهرت المسيحية إلى الوجود. وكان اتباع المسيح في البداية هم قلّة من اليهود المشبّعين بالافكار المهدية التي كانت من القوة في تلك الآونة بين جماعة اليهود لدرجة كان معها ظهور المهدي المنتظر او المسيح المرتقب متوقعا في اي لحظة او ساعة لينقذ الشعب من إضطهاد الرومان ويبني ملكوت الرب في الارض.
ولم يعتقد هؤلاء في البداية انهم انما ينتسبون لدين جديد بل نظروا لانفسهم دوما على انهم فرقة متميزة في الدين اليهودي القديم، ورغم ان المسيح قد خيّب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت، فإنّ من بقوا على ايمانهم رأوا أنّ المسيح قد غادرهم لانّ الناس ليسوا بعد على مرحلة تؤهلهم للدخول في ملكوت الرب وان عليهم ان يتطهروا قبل ان يعود المسيح اليهم مرة ثانية.
إلّا أنّ المسيحية لم تحافظ على وضعها هذا بإعتبارها فرقة يهودية صغيرة لاسباب متعددة:
1- لم يتحوّل للإيمان الجديد سوى قلة من اليهود.
2- تأخرت عودة المسيح الى درجة كبيرة.
3- تدمير مدينة اورشليم اثر ثورة مسلّحة قام بها اليهود على الرومان وتمّ بذلك توجيه ضربة قاضية على آمالهم القومية.
4- اثبتت تعاليم المسيح انها اشمل واوسع من التفسيرات اليهودية الضيّقة فبدأت بالانتشار في الاصقاع المجاورة والبعيدة. وقد انتشرت المسيحية اولا لدى بعض افراد الجالية اليهودية في اصقاع الامبراطورية الرومانية ولكنها ما لبثت ان انتقلت الى افراد من غير اليهود واخذت تشكّل تدريجيا دينا قائما بذاته منفصلا عن اليهودية.
لقد ساعدت تعاليم بولص الرسول الى حد كبير في تدعيم هذا الانفصال.
وبدخول الغرباء الى المسيحية اخذت المسيحية تغدوا غريبة عن اليهودية، ولمّا كان هؤلاء الغرباء بعيدين كل البعد عن فكرة المهدي او المسيح المنتظر الذي ينقذ شعبه من الاضطهاد ويعيد بناء امجاده، فقد قاموا بصياغة فكرتهم الخاصة عن المسيح وطبيعته ودوره.
ولأنّ معظم من دخلوا في الدين الجديد كانوا اتباعا لديانات سرية كالاورفية وديانة ميثرا ولأنّ جوهر العام لهذه الديانات هو المسيطر على افئدة الناس في تلك الآونة، ولأنّ الرسل الاوائل ارادوا اجتذاب الجماهير باسلوب يألفونه وبصيغ اعتادوا عليها، (كل دين جديد يحافظ على بعض معتقدات وطقوس الشعوب التي ينشأ الدين في ظهرانيها فالإسلام مثلا حافظ على بعض الطقوس الوثنية الموجودة في عبادة الحج كالصفا والمروة وتقبيل الحجر الاسود)، لهذا كله فقد نحت المسيحية منحى الديانات السرية وتبنت كل ما استطاعت ان تتبناه وما يتلائم معها من طقوسها ومعتقداتها. فتحوّل المسيح من مبشّر يهودي الى إله ميّت. وهو كمن سبقه من الآلهة المخلّصة اله ابن يلد من عذراء ويبشّر برسالة جديدة ثمّ يُعاني ويتألم ويموت، ولكنه يتغلّب على الموت ويصعد منتصرا من عالم الاموات حاملا الخلاص والحياة الابدية لمن آمن به، ولكن خلاص المسيحي لا يعتمد على الاتحاد الجسدي بالإله عبر مجموعة من الطقوس، كما هو الامر في الديانات السرية، بمقدار ما يعتمد على الحياة الاخلاقية القويمة.
لقد كافح الدين الجديد كفاحا مريرا ضد الديانات الرسمية للامبراطورية الرومانية ولكن كفاحه الاقوى والامر كان كفاحا صامتا لا عراك فيه ولا دماء ضد الديانات السرية، ولعل اقوى تلك الديانات التي نازعت المسيحية فترة طويلة من الزمن على الفوز بقلوب الناس كانت ديانة (ميثرا) الشديدة الشبه بالمسيحية والواسعة الانتشار في شتى انحاء الامبراطورية الرومانية.
هذا التشابه الغريب بين الديانتين اذهل المسيحيين انفسهم فاعتبروه من صنع شيطان رجيم. وكان الميثرويون يتهمون المسيحيين باقتفاء اثرهم واقتباس معتقداتهم، والمسيحيون بدورهم يردون الاتهام بمثله.
ولعل اثرا من ذلك العراك الطويل ما زال ماثلا حتى ايامنا هذه وهذه بعض الامثلة:
1- العالم المسيحي يحتفل بميلاد المسيح يوم 25 كانون الاول وهو يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل الشمس الى آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، وحيث يصل النهار آخر اشواطه في القصر ويبدا بعد ذلك بالامتداد على حساب الليل. هذا اليوم بالذات أُعتبر دوما في الديانات الشمسية عيد ميلاد للشمس فيه تتجدد قوتها وتستعيد عزمها لمقارعة قوى الظلام..
لقد اقترنت عبادة ادونيس في سورية واوزوريس في مصر في فترات متأخرة بالشمس. فالسوريون ليلة 25 كانون الاول كانوا يحتفلون بمولد ادونيس فيجتمعون في المعابد ويصرخون عند منتصف الليل: ( لقد انجبت العذراء ابنا والنور ينتشر) والمقصود بالعذراء طبعا هو آلهة الشرق الكبرى عشتار او عستاروت التي يدعوها الساميون بالسيدة السماوية او ملكة السماوات، فالعذراء لقبها والعذرية جوهرها رغم كونها آلهة الحب، لانها معطاء دون ان تنقص.
2- عيد الفصح يعطينا مثلا آخر على تبني المسيحية للمناسبات والاعياد الخاصة بديانات الاسرار. فعيد الفصح هو عيد قيامة المسيح من بين الاموات بعد ما عاناه في يوم الجمعة الحزينة على درب الالام وقد تبنت الكنيسة يوم 25 آذار عيدا للفصح، وبذلك يكون بعث المسيح هو بعث ربيعي، شأنه في ذلك شأن آلهة الخصب القديمة والمخلّصين الاوائل وخصوصا اودونيس وآليس الذي كان يحتفل عُبّاده بقيامته فيما بين يوم 24 و 25 آذار.
وبعيدا عن هذين العيدين الرئيسيين فاننا نجد اعيادا وثنية اخرى قد حُورت وأُسبغت عليها الصفة المسيحية، فعيد الآلهة ديانا قد اصبح عيد صعود السيدة العذراء، وعيد الاموات قد اصبح عيد القديسين.
أمّا الأم الكبرى او القوة الاخصابية الكونية المتمثلة بآلهة الحب العذراء فقد حلّت محلها السيدة مريم العذراء التي دُعيت بسيدة السماوات وهو اللقب الرئيسي للآلهة عشتار.
وليس الصليب نفسه كرمز للسيد المسيح بالرمز الجديد في عالم الديانات القديمة، فقد اقترن الصليب بعدد من آلهة الخصب الشرقية القديمة، فهو رمز ألاله (أندارا) أحد اشكال الاله بعل او حدد، والصليب ايضا رمز الآلهة الفينيقية (بارات) آلهة مدينة بيروت، واحد اشكال آلهة الخصب عشتار او عشتروت.
إنّ شكل الصليب هو الاصطلاح الدال على الخصب في اللغة السومرية.
ميثرا الإله العظيم:
ميثرا هي من الأرباب المعبودة التي سبق وأن عبدتها الشعوب الهند ــ إيرانية) في موطنها الأصلي) ، ومنه تنبع الديانة الزرادشتية ، وهو الإله الذي حملوه معهم في حلّهم وترحالهم ولقد جاء ذكره في أقدم الكتب المقدسة (ريك فيدا) باسم (ميثرا) وفي الآفستا باسم (ميثرا) بأنه إله النور حامي حمى الحقيقة وعدو الكذب والخطيئة ، وورد في (الآفستا) عن (ميثرا) بأنه يعاقب كل من حلف يمينا كذبا أو ينحرف عن الحق والصواب والنزاهة ، إنه يحطم القبائل والجماعات المناهضة له، ويهب الصحة والصداقة والرجاء للذين يمجدونه ويكون حليفا مؤيدا لمن ينذرون أنفسهم له. و(ميثرا) واحد من تلك الآلهة التي ظلت عبادتها في إيران مع إن (زردشت) كان قد ألغاها وأبطلها وحوّرت كلمة (ميثرا) في إيران منذ القرن الأول بعد الميلاد إلى (مهر) فأصبحت (مهر) الشمس والعقود، وظل في العهد الإسلامي اسما للشمس ولفكرة الشفقة والمحبة.
الميثرائية الرومانية:
كانت عبادة مثراس Mithras الإله الذكر تنتقل في هذه الأثناء من فارس إلى أقصى تخوم الإمبراطوريّة الرومانية؛ وكان مثراس هذا في المراحل المتأخرة من الدين الزرادشتي إبن أهورا- مزدا إله النور، وكان هو أيضاً إلهاً للنور، والحق، والطُهر، والشرف؛ وكان يُقال أحياناً إنه هو الشمس، وإنه يقود الحرب العالمية ضد قوى الظلمة، وإنه يشفع على الدوام لأتباعه عند أبيه، ويحميهم، ويُشجّعهم في كفاحهم الدائم للشر والكذب، والدَنَس، وغيرها من أعمال أهرمان أمير الظلام. ولمّا أن نقل جنود بمبي هذا الدين من كبدوكيا إلى أوربا صوّر فنان يوناني مثراس راكعاً على ظهر ثور يطعنه في خنجر في عنقه، وأضحت هذه الصورة هي الرمز الرسمي لذلك الدين.
وكان اليوم السابع من كل أسبوع يوماً مقدساُ لإله الشمس، وكان أتباعه يحتفلون في الأيام الأخيرة من ديسمبر بمولد مثراس “الشمس التي لا تُغلَب” والإله الذي نال نصره السنوي على قوى الظلمة في يوم الانقلاب الشتائي، والذي بدأ من ذلك اليوم يفيض على العالم ضياء يزداد يوماً بعد يوم. ويحدّثنا ترتليان Tertullian عن كهنة مثراسيين على رأسهم “حبر أكبر”، وعن عزّاب وعذارى في خدمة الإله؛ وكانت القرابين تقرب إليه على مذبحه في كل يوم، كما كان عباده يشتركون في تناول طعام مقدّس من الخبز والنبيذ؛ وكانت الإشارة التي يختتم بها عيده هي دقّات ناقوس.
وكان يُحتفظ على الدوام بنار متّقدة أمام القبو الذي يمثل فيه الإله الشاب يطعن الثور بخنجره. وكان الدين المثراسي يحضَ على الخلق الكريم، ويطلب إلى “جنوده” ألا ينقطعوا طول حياتهم عن محاربة الشر في جميع أنواعه. ويقول كهنته أن الناس كلّهم سيحشرون لا محالة أمام مثراس ليحكم بينهم، ثم تسلّم الأرواح الدنسة إلى أهرمان لتعذب على يديه عذاباً أبدياً، أما الأرواح الطاهرة فترتفع خلال طباق سبعة حتى تصل إلى بهاء السماء حيث يستقبلهاأهورا- مزدا نفسه. وانتشرت هذه الأساطير التي تبعث في نفس أصحابها الأمل والقوة في القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي في غربي آسية، وانتقلت منه إلى أوربا (متخطّية بلاد اليونان)، وشادت معابدها متجهة نحو الشمال حتى وصلت إلى سور هدريان.
أوجه الشبه بين ديانة ميثرا والمسيحية:
روعَ الآباء المسيحيين ما وجدوه من أوجه الشبه بين دينهم وبين المثراسية، وقالوا إن الثانية قد سرقت هذه العبادات عن المسيحية، أو أنها في المثرائية حيل مضللة احتال بها عليهم الشيطان (صورة من أهرمان). وليس من السهل أن تعرف أي الدينين أخذ عن الآخر، ولعل الاثنين قد تسربت إليهما أفكار كانت وقتئذ منتشرة في جو بلاد الشرق.
وكان في كلا الدينين العظيمين اللذين يسودان إقليم البحر الأبيض المتوسط “طقوس خفية” تتخذ عادة صورة احتفالات تطهير، وتضحية، وتثبيت، ووحي، تدور كلها حول موت الإله وبعثه. وكان الأعضاء الجدد يدخلون في دين سيبيل بوضعهم عراة في حفرة يُذبح فوقها ثور، فيسقط دم الحيوان الذبيح على الطالب الجديد ويطهره من خطاياه ويهبه حياة روحية جديدة خالدة إلى أبد الدهر.
وكانت أعضاء التذكير في الثور، وهي التي تمثل الخصوبة المقدسة، توضع في إناء خاص، وتُهدى إلى الإلهة. وكان في المثراسية طقس شبيه بهذا يعرفه العالم اليوناني والروماني القديم باسم الثوربليوم Taurobolium أو رمى الثور. ويصف أبوليوس في عبارات جزلة رائعة المراحل التي يمر خلالها خادم إيزيس- فترة الصوم المبدئية الطويلة، والورع والتقشّف، والتطهير بالانغماس في الماء المقدس، ثم تظهر له في آخر الأمر الرؤيا الصوفية للإلهة لتهبه النعيم الأبدي.
ويلتزم الطالب في إلوسس أن يعترف بخطاياه (وقد كان هذا مما أخاف نيرون وأفقده شجاعته)، وأن يصوم بعض الوقت عن أنواع خاصة من الأطعمة، ويستحم في الخليج ليتطهر من الدَنَس الجسمي والروحي، ثم يقرّب القربان، وهو في العادة خنزير. وفي عيد دمتر كان الطلاب المبتدئون يندبون معها اختطاف ابنتها إلى الجحيم، ويختصرون في أثناء حزنهم هذا على تناول الكهك المقدس، وخليط رمزي من الدقيق والماء والنعناع. وفي الليلة الثالثة تعرض مسرحية دينية تمثّل بعث برسفوني، ويعد الكاهن الذي يقوم بالخدمة الدينية كل من تطهرت روحه بأن يُبعَث كبرسفوني بعثاً جديدا.
وقد صوّرت الطائفة الأرفية، متأثرة بالآراء الهندوكية أو الفيثاغورية، موضوع هذه الطقوس في جميع الأراضي اليونانية، فقالت ان الروح تحبس في طائفة متسلسلة من الأجساد المذنبة، وإن في مقدورها أن تنطلق من هذا التجسد الثاني المشين بأن تسمو حتى تتحد اتحاداً هيامياً بديونيشس. وكان الإخوان الأرفيون في اجتماعهم يشربون دم ثور يضحّون به للمنقذ الميّت الذي يكفّر عن خطاياهم ويوحّدون بينه وبين هذا المنقذ. وكان الاشتراك الجماعي في تناول الطعام والشراب المقدّسين من المظاهر الكثيرة الحدوث في أديان البحر الأبيض المتوسط، وكثيراً ما كان أهل هذه الأديان يعتقدون أن هذا الطعام ستحل فيه بهذا التقديس قوى الإله، ثم تنتقل منه بطريقة سحرية خفية إلى المشتركين في تناوله.
المخلِّص عند اتباع الديانة البوذية:
الديانة البوذية هي الديانة الثالثة التي ابتدعها مفكري الهند في العصور التاريخية القديمة، إنّ هذه الديانة التي اسس لها “سذهاتا” الذي عرف باسم بوذا وهو لقب تم اطلاقه عليه من قبل اتباعه والذي يعني العارف المستيقظ قد ارتكز وجودها الفكري على الاقاصيص والحكايات الخرافية وتعرف هذه الاقاصيص باسم اقاصيص الولادة او “الجتاكاس” وتبدأ كل واحدة من هذه القصص بواقعة او حادثة في حياة بوذا تروى في الحاضر لتكون مناسبة لتذكر حادثة حصلت في حياة بوذا عندما كان “البوديسات” اي “البوذا المنتظر” وقد فسرت اسطورة مولده على انها قد شهدت ظهور بريق لامع في السماء من خلاله تسنى للأعمى ان يرى وللأصم ان يسمع وللابكم ان يتكلم واستقام الاعرج على ساقيه وانحنت الالهة من علياء سمائها.
تطابق المسيح مع كريشنا:
ولِد كرشنة من العذراء ديفاكي التي اختارها الله والدة لابنه بسب طهارتها.
لقد مجدت الملائكة ديفاكي والدة كرشنا أبن الله وقالوا : يحق للكون ان يفاخر بأبن هذه الطاهرة.
عرف الناس ولادة كرشنا من نجمة التي ظهرت في السماء .
لما ولِد كرشنا سبَّحت الأرض وأنارها القمر بنوره وترنمت الأرواح وهامت ملائكة السماء فرحا وطربا ورتلت السحاب بأنغام مطربة.
كان كرشنا من سلالة ملوكانية ولكنه ولِد في غار بحال الذل والفقر.
وعرفت البقرة أن كرشنا إله وسجدت له.
وآمن الناس بكرشنا واعترفوا بإلوهيته وقدموا له هدايا من صندل وطيب.
وسمع نبي الهنود نارد بمولد الطفل الإلهي كرشنا فذهب وزراه في كوكول وفحص النجوم فتبين له من فحصها أنّه مولود إلهي يُعبَد.
لما ولِد كرشنا كان ناندا خطيب أمه ديفاكي غائبا عن البيت حيث أتى إلى المدينة كي يدفع ما عليه من الخراج للملك.
ولِد كرشنا بحال الذل والفقر مع أنّه من عائلة ملوكانية.
وسمع ناندا خطيب ديفاكي والدة كرشنا نداء من السماء يقول له قم وخذ الصبي وأمه فهربهما إلى كاكول واقطع نهر جمنة لأنّ الملك ينوي إهلاكه.
وسمع حاكم البلاد بولادة كرشنة الطفل الإلهي وطلب قتل الوليد وكي يتوصل إلى امنيته أمر بقتل كافة الأولاد الذكور الذين ولدوا في الليلة التي ولِد فيها كرشنا.
وأتى إلى كرشنا بامرأة فقيرة مقعدة ومعها إناء فيه طيب وزيت وصندل وزعفران وذباج وغير ذلك من أنواع الطيب فدهنت منه جبين كرشنا بعلامة خصوصية وسكبت الباقي على رأسه.
كرشنا صُلِب ومات على الصليب.
لما مات كرشنا حدثت مصائب وعلامات شر عظيم وأحيط بالقمر هالة سوداء وأظلمت الشمس في وسط النهار وأمطرت السماء نارا ورمادا وتأججت نارحامية وصارت الشياطين يفسدون في الأرض وشاهد الناس ألوفا من الأرواح في جو السماء يتحاربون صباحا ومساء وكان ظهورها في كل مكان.
وثقب جنب كرشنا بحربة .
وقال كرشنا للصياد الذي رماه بالنبلة وهو مصلوب اذهب أيها الصياد محفوفا برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة.
ومات كرشنا ثم قام من بين الأموات.
ونزل كرشنا إلى الجحيم.
وصعد كرشنا بجسده إلى السماء وكثيرون شاهدوا الصعود.
ولسوف يأتي كرشنا إلى الأرض في اليوم الأخير ويكون ظهوره كفارس مدجج بالسلاح وراكب على جواد أشهب والقمر وتزلزل الأرض وتهتز وتتساقط النجوم من السماء.
وهو (أي كرشنا) يدين الأموات في اليوم الأخير.
ويقولون عن كرشنا أنه الخالق لكل شئ ولولاه لما كان شئ مما كان فهو الصانع الأبدي.
ثانيا: هل ألمسيح نبي أم إله؟
النبوة تعني الإخبار عن الله، بمعنى أنّ النبي يعتقد بأنّه يسمع كلام الله بطريقة أو باخرى، وبأنّه مسؤول عن إيصاله إلى الناس. وليس هناك من سبيل يجعل الإنسان قادرا على مثل هذا الإدعاء إلا سبيل الفناء بالله الذي هو حال يختبر فيه الصوفية شعورا طاغيا بفناء ذواتهم بذات المطلق وذلك بعد تجاوزهم مراحل التوحيد الثلاث ( توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات ).
إنّ الإنتقال من حال الفناء بالله إلى حال البقاء به لا يتم دون أن يكتشف الفاني بأن فناءه عبارة عن فكرة غير واقعية، خاصة بعد أن تضطره حاجاته الإنسانية إلى الإقرار بأن الالوهية شأن لا يمكن بلوغه. ومن هنا يعترف بحجم الوهم الذي أوقعه بالفناء الذي أوصله لإدعاء الألوهية.
وهكذا يخرج من فكرة فناءه بالله، ولكنه لا يستطيع أن ينكر بقاءه به. بعبارة اخرى لا يبقى بحال الفناء إلا وعي غير سليم ويعاني من خلل كبير.
إنّ التصوف أعم من النبوة، والنبوة لا تحدث خارج إطار آليات التصوف في تحصيل المعرفة.
لا يختبر الصوفي مقامات الحب الإلهي إلا بعد أن يقطع رحلة طويلة ومكلفة من رحلات تطويع البدن على الخضوع لإشتراطات التأمل في (الحقيقة) والإنقطاع للبحث في أسرارها، مارا بمرحلتين من مراحل التطويع، مرحلة تطويع الجسد، وتبدأ هذه المرحلة بمقامات التوبة وتنتهي بمقامات الزهد.
ومرحلة تطويع الوعي حيث يعبر المريد – خلال هذه المرحلة من مراحل الترويض – مقامات : ( التوكل، التسليم، التفويض، واخيرا الفناء ).
إنّ حال الفناء وإن كانت قصيرة جدا فإنّها تفتح الباب على رحلة خطيرة جدا من رحلات الوعي، إذ يشعر الإنسان خلالها بنحو من أنحاء التألهن، ويطغى عليه شعور غريب بأنّه أقرب إلى الله منه إلى الإنسان.. وهنا أيضا تتأسس القاعدة التي يمكن أن تكون منطلقا لإدعاء النبوة فيما بعد.
ومن خلال هذه الحال وتحت وطأة ضغطها الشعوري على الصوفية فضحوا أنفسهم من خلال ما سميت ( شطحات الصوفية ) والتي تكشف أغلبها عن التحقق بالربوبية ومنها هذه الحوادث المروية عن أبي يزيد البسطامي :
” دق رجل على أبي يزيد البسطامي باب داره فقال له : من تطلبه؟ فقال : أطلب ابا يزيد. فقال مر ! ويحك ! فليس في الدار غير الله “.
” كنت اطوف حول البيت اطلبه فلما وصلت اليه رأيت البيت يطوف حولي ” …..أبو يزيد ألبسطامي.
ومن شطحات محي الدين إبن عربي:
” فيحمدني وأحمده …ويعبدني وأعبده ….ففي حال أقر به وفي الأعيان أجحده؟، فيعرفني وأنكره … وأعرفه فأشهده…فأنىّ بالغنى وأنا أساعده فأسعده “.
ومن شطحات حسين منصور الحلاج:
قال: ” أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني، وتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني “.
في حالة وجد تلفظ ألحلّاج بألكلمات ألشهيرة “أنا ألحقيقة = (ألله) – وألتي سببت له ألإدانة. وهذه ألمرّة، أثار ألحلّاج فقهاء ألشريعة ووحدهم ضده وهؤلاء أتهموه بألإلحاد، وكذلك أثار ألسياسيين، ألذين أتهموه بإثارة ألأضطراب في ألمجتمع، وأثار ألصوفيين أيضا.
مما يدعو للدهشة هو رغبة ألحلّاج بأن يموت ملعونا (أراد ألحلّاج تحريض ألمؤمنين لإنهاء هذه ألفضيحة لإنسان يتجاسر بألقول أنّه توحد مع ألألوهية ليقتلوه، وهتف في ألمؤمنين في ألجامع ألمنصور:
“إنّ ألله أحلّ لكم دمي: فأقتلوني… لا يوجد واجب في ألكون بالنسبة للمسلمين أكثر من إماتتي”.
في سنة 301 هجرية أُوقِف ألحلّاج وأُودِع ألسجن لمدة تسعة أعوام ثمّ تم قتله مصلوبا في سنة 309 هجرية، وقد روى بعض ألشهود أنّهم سمعوا هذه الكلمات ألأخيرة من هذا ألمُعذَب:
“إنّ ما يحسب بألنسبة للإنتشائي هو أنّ ألواحد يُرجعه للوحدة”.
هنالك تشابه كبير بين حياة المسيح وحياة حسين منصور الحلاج ألذي أدعى الألوهية فكلهما تم صلبهما وكلاهما مرا بمرحلة ألتألهن بعد رحلتهم الصوفية.
عندما يبلغ الصوفي ذروة فنائه تحدث محنته، محنة جميع الصوفية ، فبعد هذه الذروة تنعطف رحلة التصوف إنعطافتها الأخطر وذلك يوم يسأل الصوفي نفسه عن إستحقاقات حال الفناء، بالاحرى يسال نفسه عن مدى واقعية الجملة السحرية التي يرددها بينه وبين نفسه : ( إنني أنا الله )؟
أعتقد بأنّ المسيح قد تم قتله مصلوبا وهو في مرحلة التألهن ألتي أستغرقت ثلاثة سنوات ولو طال به العمر ولم يُقتَل فإنّ وعيه كان سيرتد ويدرك بإستحالة توحد ذاته مع ذات ألله وفنائه فيه ولأنتقل من مرحلة ألتألهن إلى مرحلة ألنبوة كما حدث لنبي الإسلام محمد.
أثناء صلب المسيح قال يخاطب ربّه:
” إلهي إلهي لماذا تركتني؟! إيلي إيلي لما شبقتني؟! ؟” Eli, Eli Lama Sabachthani….. (متى 46:27) هذه العبارة تعني بأنّ المسيح أنتقل من مرحلة ألتألهن إلى مرحلة الأنسنة وبعبارة أخرى أنّ لاهوته ترك ناسوته.
لو لم يتم صلب المسيح وقتله وأستمر في الحياة لعدة سنوات أخرى لتحول إلى نبي كالنبي محمد وباقي الأنبياء له تشريعات خاصة به ولم يكن المسيحيون بحاجة لدمج التوراة في العهد الجديد كما هو الحال في الكتاب المقدس الحالي.
وعكس هذه الحالة ينطبق على نبي الإسلام فلو تم قتل النبي محمد في مكة في مرحلة ألتألهن أي قبل أن يُعلن نبوته لجعله مريدوه إلها أو أبنا للإله.
إنّ اليقين بتحقق الفناء يوجب إختبار هذا الفناء، فيسعى الصوفي لتحقيق إلوهيته، أو التحقق من واقعية شعوره بها، لكن كيف يمكن التحقق من الألوهية؟
لكن الإستغراق بحال الفناء التام لا يدوم طويلا، ومهما كانت سكرة الصوفي ونشوته قوية فإنّها لا تستطيع أن تلغي شعوره بإستقلاله وحضور أناه المستقلة
عن المطلق إلى النهاية. وهنا تبدأ الازمة، أزمة الخوف من الإنفصال، فلا شيء يخيف الصوفي أكثر من خسارته هذه الحال وتلك النشوة، وعودته لإنسانيته.
لكن الخوف على حال الفناء لا يتأتى فقط من عودة الإحساس بالذات، بل من محاولات الإختبار التي يُعرّض فيها الصوفي إلوهيته للإختبار.
إنّ طبيعة القلق المركوزة بالإنسان تجعل الصوفي يتجنب إختبار إلوهيته إختبارات قوية ومباشرة بل هو يتجه أول الامر نحو البحث عما يؤكد حال الفناء لديه، فيبحث عن أية إشارة تؤكد هذه الحال كالأحلام الصادقة التي يعاملها معاملة النبوءات، أو الرغبات والأماني التي صادف أنّها تحققت.
وهنا يتوجب طرح التساؤل:
ولكن المعجزات التي رويت عن المسيح في الأناجيل تُثبت ألوهيته؟
أعتقد أنّ تلك المعجزات هي أساطير تم حبكها وحكايتها في الأناجيل بعد صلب المسيح بمائة عام أو أكثر لدعم الإدعاء بألوهية المسيح ولا يوجد أي دليل وثائقي أو تاريخي على ذلك.
وأخيرا نورد بعض فقرات من الكتاب المقدس تثبت بأنّ المسيح كان في مرحلة ألتألهن ولم يكن نبيا بل كان يتوهم في وعيه بأنّه أبن ألله أو ألله ذاته:
– “ليس كُلُّ مَنْ يقولُ لي: يا رَبُّ، يا رَبُّ! يَدخُلُ ملكوتَ السماواتِ. بل الذي يَفعَلُ إرادَةَ أبي الذي في السماواتِ” (مت7: 21).
– “ولماذا تدعونَني: يا رَبُّ، يا رَبُّ، وأنتُمْ لا تفعَلونَ ما أقولُهُ؟” (لو6: 46).
– “كثيرونَ سيقولونَ لي في ذلكَ اليومِ: يا رَبُّ، يا رَبُّ! أليس باسمِكَ تنَبّأنا، وباسمِكَ أخرَجنا شَياطينَ، وباسمِكَ صَنَعنا قوّاتٍ كثيرَةً؟ فحينَئذٍ أُصَرحُ لهُمْ: إني لم أعرِفكُمْ قَطُّ! اذهَبوا عَني يا فاعِلي الإثمِ!” (مت7: 22-23).
– “أجابَ توما وقالَ لهُ: رَبي وإلهي!. قالَ لهُ يَسوعُ: لأنَّكَ رأيتَني يا توما آمَنتَ! طوبَى للذينَ آمَنوا ولم يَرَوْا” (يو20: 28-29).
– “وإنْ قالَ لكُما أحَدٌ: لماذا تفعَلانِ هذا؟ فقولا: الرَّبُّ مُحتاجٌ إليهِ” (مر11: 3).
الخلاصة:
ألتصوف والنبوة والتألهن كلها أوهام تصيب وعي مدعيها لأنّ وعي الإنسان محدود بحواسه.
إنَّ هذه الحواس الإنسانية ليست لها القدرة على ألإتصال بالمطلق لأنّها لاتلتقط إلا الأشياء الطبيعية فقط، أما الأشياء الماوراء طبيعية فلا تقع بمديات تحسسها.
الجواب على التساؤل :هل ألمسيح أسطورة أم نبي أم إله؟ هو أنَّ ألمسيح لم يكن نبيا ولكنه كان يتوهم في وعيه بأنَّه إله أو إبن الإله وهذا في حالة كونه شخصية حقيقية وليس أسطورة كالأساطير التي تم ذكرها في هذا البحث.
نلتيقكم في مدارات تنويرية أخرى
مصادر البحث :
– سيد صديق عبد الفتاح، أغرب الأعياد وأعجب الاحتفالات، القاهرة: دار الأمين، 1994، ط1، ص 538- 541.
<p class