17 نوفمبر، 2024 10:45 م
Search
Close this search box.

المثقف الذي يدّس أنفه…

المثقف الذي يدّس أنفه…

باتت كلمة ( المثقف ) مريبة، غامضة بعض الشيء، ربما لارتباطها بكلمة ( اليسار ) والتي هي الأخرى لم تسلم من الهجوم والتشكيك.. اليسار الذي شُوهت سمعته عبر الدعاية الديماغوجية المعولمة.. وقد حاولت قنوات إعلامية انقادت لها أحياناً مؤسسات مختصة في صناعة السينما والدراما التلفزيونية في تصوير المثقفين كمجموعة من غريبي الأطوار، أو أقلية من العاقّين، المتمردين على أعراف المجتمع وتقاليده الموروثة المتبّلة بالقداسة، أو كشرذمة غير نافعة غارقة في سجالات بيزنطية لا تقدّم ولا تؤخر. ومع حلول عصر العولمة وما بعد الحداثة جرى ترسيخ فكرة الاحتراف والتخصص الدقيق بديلاً عن فكرة المثقف المهتم بالحيّز العام وهمومه، والذي يجب أن يظلّ، كما يرى دهاقنة التعولم، من شأن السياسيين وبعض المختصين المرتبطين بقوى ومصالح ومواقع سياسية واقتصادية عضوية، حصراً. وبطبيعة الحال بعد تفتيت ذلك الحيّز إلى شظايا وشذرات من الظاهرات والقضايا الجزئية والقابلة لتبدّلات وتفتيات أكبر إلى الحد الذي تضيع معه الصورة الكليّة للوضع العمومي ومن ثم الحقيقة.. أوليست الحقيقة تخريجاً متخيلاً في نظر بعض دعاة ما بعد الحداثة؟!.
   أتحدث في هذا المقام عن المثقف المبدع، والمثقف المفكر. المثقف المنشغل بإشكالية المعنى، وبنقد الواقع الاجتماعي والتاريخي، والمنغمس بصياغة فرضيات وتصورات فكرية قابلة للنقاش. وقد مارس مبدعون كبار، من خلال أعمالهم الأدبية والفنية دوراً ثقافياً تنويرياً راقياً ساهم في إنضاج الوعي الاجتماعي والسياسي للمجتمع. ويكفي أن نستعيد أسماء مثل تولستوي وديستويفسكي وغوركي وأميل زولا وبيكاسو وإنغمار بيرغمان وطه حسين ويوسف شاهين والزهاوي والجواهري لنفهم حجم وعمق ما يستطيع المبدع أن يحققه بهذا الصدد. وفي كتابه ( النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ) يشير غالي شكري إلى مكانة وفعل روائي مهم كنجيب محفوظ، في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. حيث “كان نجيب محفوظ في هذه المرحلة، بمفرده، حزباً كاملاً”. يودع في متون رواياته وقصصه “شيفرة سرّية كان الناس سرعان ما يفكّون رموزها فتفعل فيهم الأعاجيب”.
   فقدت كلمة المثقف منذ سبعينات القرن الماضي، على الأقل، بريقها.. لم تعد تحتفظ بتلك الهالة الرومانطيقية التي اكتسبتها مذ كتب أميل زولا مقالته الشهيرة، في نهايات القرن التاسع عشر، بعنوان؛ ( إنّي أتهم ) حول القضية التي عرفت يومها باسم قضية دريفوس، وحتى وقوف سارتر ملهماً وموجِّهاً لثورة الطلاب في فرنسا ربيع العام 1968.. سارتر الذي يصف المثقف، بعبارة لا تخلو من التهكم: بأنه ذلك الشخص الذي يدّس أنفه في ما لا يعنيه ( وإن كانت كل قضية مجتمعية تعنيه في الصميم ). وتكون وظيفته الأولى هي إزعاج السلطات بأشكالها كافة. كما تكمن فضيلته في الوقوف ليس إلى جانب من يصنعون التاريخ وإنما إلى جانب من يعانون من صنعه. والعبارة الأخيرة لألبير كامي صديق سارتر وغريمه اللدود فيما بعد.
   تحدّث فرانز فانون، إبان عهد الاستعمار، عن المثقف المستعمَر المنتج لثقافته بالتوازي مع الكفاح الوطني الثوري ضد المستعمِر والذي كان عليه في البدء أن يكتشف “وراء البؤس الراهن، وراء هذا الاحتقار للذات، وراء هذا الانسحاب وهذا الإنكار عصراً جميلاً جداً ساطعاً جداً يرد إلينا الاعتبار في نظر أنفسنا وفي نظر الآخرين”. كان ذلك رداً على ادّعاء الاستعمار بأنه بممارساته إنما ينتشل الشعوب المستعمِرة من الظلام ومن تاريخها الهمجي.. ذلك “أن البرهان على وجود حضارة قومية قديمة، لا يرد الاعتبار فحسب، لا يدل على أن حضارة قومية جديدة ستقوم في المستقبل فحسب، وإنما هو أيضاً، على صعيد التوازن النفسي العاطفي، يحقق للمستعمَر وثبة كبرى”. غير أن فانون كان يخشى من أن تسبغ مثل هذه المحاولات طابعاً عرقياً على الظاهرات الثقافية، “وبذلك تنقطع الثقافة عن الواقع الراهن، وتروح تعتصم ببورة عاطفية متأججة، وتعجز عن أن تشق لنفسها طرقاً محسوسة هي الطرق الوحيدة التي يمكنها مع ذلك أن تهيء لها صفات الخصوبة والتجانس والقوة”.
   يستعير المثقف المستعمَر من المستعمِر لغته ومفاهيمه وأفكاره وقد يتجنس بجنسيته، يصبح مزدوج الجنسية واللغة والثقافة فتنشأ تلك التناقضات والالتباسات كلها في تفكيره، حتى يجد نفسه في طريق مسدودة.. ويحدد فانون ثلاث مراحل لتطور هذا المثقف، الأولى حين يتمثل ثقافة المستعمِر ويكون إلهامه أوروبياً. والثانية حين يعود ليتذكر نفسه، فيتغنى بعادات مجتمعه حتى السيئة منها. وفي مرحلة أخيرة يسعى ليهز شعبه ويوقظه، لا أن يغفو معه. ينخرط في الكفاح لينتج أدباً ثورياً وقومياً، ويكون الناطق “بلسان واقع جديد يتحقق”.
      ينظِّر هومي بابا لعصر ما بعد الكولونيالية، من غير أن يتناسى فرانز فانون.. والمابعد تنطوي عنده على طاقة قلقة للمراجعة وإعادة النظر. فمنذ أن كتب فانون ( جلد أسود، أقنعة بيض.. ومعذبو الأرض ) صار العالم غير العالم. والتناقضات والصراعات راحت تأخذ مناحي خطرة لم يعهدها الإنسان من قبل، على الرغم من التطورات المذهلة التي طرأت في حقول العلوم والتكنولوجيا المختلفة. وما حصل في غضون عقود ثلاثة أو أربعة في مجالات الاقتصاد والطاقة والجغرافية السياسية والتوزيع السكاني والعلاقات الدولية وأشكال العنف وتغيّرات البيئة الطبيعية وتقنيات الإعلام والاتصالات، الخ.. أوسع وأعقد من أن يلمّ بها منهج واحد أو حقل معرفي واحد، بعد أن فككت عقلانية ما بعد التنوير، ناهيك عن هَوَس ما بعد الحداثة بالتشظي، ( أو حاولت تفكيك ) السرديات الكبرى. وها هو هومي بابا يتحدث عن ديموغرافيا أممية جديدة “هي تاريخ الهجرة ما بعد الكولونيالية، وسرديات الشتات الثقافي والسياسي، والانزياحات الاجتماعية الكبرى التي حلّت بالجماعات الفلاحية وجماعات السكّان الأصليين، وشعرية المنفى، ونثر اللاجئين السياسيين والاقتصاديين المتجهم”.
   هنا نكون إزاء معجم جديد للمفاهيم، وآليات منهجية مبتكرة، وخطاطات للتصورات والأفكار لا تني تتطور وتتغير. وإذا كانت معضلة الهوية أساسية في فكر فانون فإن هومي بابا الذي يستعمل مفاهيم الهجنة والتجاذب والتفاوض والترجمة والفرجات الخلالية والسطوح البينية وغيرها يقف أمام حالة للعالم يتواصل ويتلاقح ويتصارع ثقافياً فتلتبس فيه فكرة الهوية وتتلون بألوان غير تلك التي ميّزها فانون. وإذن فإن “هذه الفضاءات البينية تفسح المجال لبلورة الاستراتيجيات المتعلقة بالذات والذاتية ـ فردية كانت أم جماعية ـ الأمر الذي يطلق دواليل ( اجتماع الدوال والمدلولات ) جديدة للهوية، ومواضع جديدة للتعاون، والتنازع، لدى القيام بتحديد وتعريف فكرة المجتمع ذاتها”.
   يسعى هومي بابا للتعريف بإشغال موقع ثقافي مغاير يكون “على هوامش الانزياح الثقافي المتحوِّلة. تلك الهوامش التي تربك وتبلبل أي إحساس عميق أو ( مؤصَّل ) بثقافة؛ قومية، أو مثقف؛ عضوي”. وهو يتساءل: “ما الذي يمكن أن تكون عليه وظيفة منظور نظري ملتزم، ما أن تؤخذ هجنة العالم ما بعد الكولونيالي الثقافية والتاريخية على أنها المكان النموذجي لاكتشاف منحى جديد؟”. وفي هذه الأثناء لا يغيّب، في منظومته النظرية، العامل السياسي. وإنما يموضعه في خريطة العلاقات حيث تحضر مفاهيم الثقافة والخطاب والمعرفة العملية والإيديولوجيا والفاعل الناشط والمحرِّض/ المثقف. وبالمقابل يستبعد البنيات الثنائية من التقابل والتضاد؛ الشرق والغرب، السيد والعبد، الأنا والآخر كما أنتجتها في سرديات زائفة مخيال المستعمِر ليتقبلها المستعمَر مضطراً. ويرفض أن تكون هناك أشكال نهائية من التفسير فيما ديدنه استكشاف الموقع الثقافي الهجين والبيني إذ تُطرح مسائل الاختلاف الثقافي والهوية.
   كانت الثقافة، وفي ضمنها إشكالية الهوية، في منظور فانون، كفاحاً سياسياً، تقع “في ذلك الموضع من عدم الاستقرار الخفي حيث يقطن الشعب”. وكان إنكار الذات من قبل الآخر المستعمِر، في رأيه، يعزز تعيين الهوية التي هي ليست بأية حال معطى قبلياً، أو تكويناً مكتملاً. حيث مسألة التعيين “لا تظهر إلا بينياً بين الإنكار والتحديد”. وفي مواجهة خطاب حداثة الغرب المتمركز على ذاته، المطمئن على تفوقه، كان لابد من سرديات مزيحة، وأسئلة استنطاقية، تلقي الاضطراب في صميم ذلك الخطاب.
   تُصاغ الهوية في ظل الكولونيالية في ضوء مفاعيل القوة والهيمنة.. تتحدد صورة المستعمَر في المرآة الكولونيالية، ويتم تمثيلها جوهراً ثابتاً في الخطاب الثقافي وسردياته.. ولاحقاً مع سرديات المستعمَر المضادة في خضم الكفاح، وبعد الحصول من ثم على الاستقلال، تبرز الحاجة إلى أطقم إضافية من المفاهيم الدافعة والممهِّدة للتحليل والنقد يجعل للمثقف موضعاً آخر يمكِّنه من دّس أنفه في هذا الذي يعنيه تماماً بشكل حيوي. مع التأكيد أن المشكلة القديمة لم تحل بل تشعبت وازدادت إبهاماً وتعقيداً. وهذا يطرح ضرورة إعادة النظر في التسميات، وتبديل في المنظور، وتحقيق انزياحات في المفاهيم والتصورات.
   من زاوية النقد ما بعد الكولونيالي ينظر هومي بابا إلى الثقافة “بوصفها استراتيجية بقاء هي عابرة للقوميات وترجمية في الوقت ذاته… وأن موقع القيمة الثقافية الهجين هذا ـ العابر للقوميات والترجمي ـ هو المكان الذي يحاول منه المثقف ما بعد الكولونيالي أن يبلور مشروعاً تاريخياً وأدبياً”. محدِّقاً في المستقبل، مؤمناً بتغيير “لا سرديات تواريخنا وحسب، وإنما أيضاً إحساسنا بما يعنيه أن نعيش، وأن نكون، في أزمنة أخرى وفضاءات مختلفة، إنسانيين وتاريخيين على السواء”. إذ ذاك، فقط، ستتخذ الممارسة الثقافية بعداً عالمياً ممتداً في الأفق الإنساني العظيم.
[email protected]

أحدث المقالات