1
اذا كان ابن خلدون يربط نشوء الدولة بالعصبية فإن البريطاني (توينبي) يربط نشوء الحضارة وانهيارها بما يسميه (الأقلية المبدعة) وعليه عندما يواجه أي مجتمع تحديات خطيرة فإن ذلك الأمر يفرض على النخبة الفاعلة أن تتقدم الصفوف الداعية للتنوير ولكن عقليات الناس وكفاءاتهم وتفاعلاتهم واسقاطاتهم تتفاوت وبهذا تختلف استجاباتهم لمثل هكذا تحديات ماثلة أمامهم بضراوة لا مثيل لها، لذلك علينا أن نحذر مرة أخرى من عودة قد لا تكون مفاجئة لممارسات الدولة العقائدية المغلقة .
كان بدر شاكر السياب يردد (أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود) وهنا نقول أن مانراه أصدق أنباءً مما نسمعه، فالعراق على مرمى حجر من الرعود، الوضع معقد وخطير وكل من يقول خلاف ذلك عليه مراجعة قدراته العقلية (فالنخب السياسية أو الثقافية) التي عبثت وتعبث الآن بدأت تسيير البلاد وتدفعه إلى فوهة البركان فالمشكلة ليست بنزاهة السياسي/الثقافي أو عدمها هذه التوصيفات يراد منها خداع البعض بأن هنالك تغيراً سيأتي وهذا الأمر يبدو إشارة لبداية أزمة قادمة، فالأزمة متعددة الجوانب وتمس كل مفاصل الحياة العراقية وهنا أيضاً لا استثني الحجر والشجر والهواء، ثمة متفائل سيقول: أننا نمر بمرحلة جديدة متسارعة وعلينا الانتظار والعمل الجاد لابأس، سأفترض جدلاً وأقول له أنا معك في الرأي ولكن هل بامكانك يا سيدي المتفائل أن تريني هذه الآفاق االمخملية التي تبعث على الأمل؟ ثانية أقول نحن لا نبحث أو نشير لحلول سحرية، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، فالبلاد تذخر بالرعود منذ الأزل .
2
هل هناك سياسية عراقية مؤهلة لاستلام مقاليد البلاد؟ هل ستعمل أميركا على استعادة الحليف القديم لتنظيم أمور البلد؟ لا أشك في النوايا الأميركية فالحليف القديم سيكون له دور مؤثر، كما يبدو لأميركا، طبقاً لنصيحة الأمير (ميكافلي) المعروفة والتي مفادها: (لا تستعن في الحكم بمعارض النظام السابق فمهما أعطيتهم فسيرونه أقل بكثير مما يستحقون، أستعن بأعوان النظام السابق فهؤلاء سيعملون عندك باخلاص لأنك حافظت على وجودهم) من هنا نستطيع البت في القول عن ملابسات ما يحدث في البلاد، فمنذ اليوم الأول للاحتلال الاميركي لبلادنا ونحن نكتب وننبه ونشير إلى طبيعة المشاريع المريبة والطائفية والعقائدية الجديدة التي تبثها المؤوسسات الاعلامية المملوكة والمدعومة ولكن (لعمري لقد ناديت لو ان سامعاً) فقد بدأت هذه الممارسات منذ اللحظات الأولى تأخذ شكلاً واضحاً وصارخاً لا يحتاج إلى تبصر، ويبقى السؤال التلقائي الذي يطرح نفسه اليوم على السياسي أو الثقافي: ما الذي ستستطيع فعله إزاء هكذا ممارسات، وأين ذاك الذي سيدرك مدى خطورة القادم من الأيام؟
3
أنْ أفهم العراق يعني أن أتفهم علاقته بالخراب والموت والحروب والانقلابات، لا أن أتفهم فنّ التفاؤل الساذج، ولا فنّ تعبئة الورق الأبيض بالكلمات الغبية أو كتابة المقالات الراعشة، ثمة سؤال عابر: كيف للعراقي أن يقاوم الموت والخراب والاصطفافات المذهبية والعقائد والانفجارات وذئبية الساسة وخراب الطبيعة ولوثات الشعور والضمائر والقلوب وهو فاقد القدرة على الحياة، يرصد اضمحلاله وهو محروم من أي وسيلة إيجابية لأن يمنح الحياة معناها؟ في مثل هذه المواقف تصبح معضلة الإنسان العراقي غير مرئية في قدرته على التواصل أو منح الحياة معناها وجمالها ودلالاتها المعنوية واللفظية، في هذا الموقف بالذات عليه أن يبحث عن معنى آخر للحياة أو للعراق والمعنى مدفون في أعماقه لا أن يستعين بالحمامات الطائرة فوق صحن العباس بمدينة كربلاء مردداً مع نفسه بمنتهى الاستسلام قول الشاعر: (ألا يا حمامات العراق أعنني على شجني وابكين مثل بكائيا) .
4
ليذهب العراق إلى الجحيم، عندما يستشري وباء الريبة واللامبالاة والقبيلية بين الأفراد، وعندما ينتشر الكذب والخداع كالنار في الهشيم، وعندما تفتك (الغرغرينا) الطائفية بالبلاد والعباد، وعندما يستحيل التعايش بين مذهبين، ولوكانا مسلميين أو عراقيين، أو ديانتين، أو قوميتين فالحل الوحيد كما ترى الطائفية وأقطابها وكّتابها هو انفصال الأجساد، والواقع أن جميع هذه التفاصيل لا تختلف مطلقاً عن الدعوة التي أطلقها بول بريمر في بداية تكوينه لمجلس حكمه المحلي وأكد عليها في مذكراته التي صدرت مؤخراً قائلاً بالحرف الواحد: (لا يمكن الحفاظ على مصالحنا في العراق إلا في إطار تقسيمه ولدينا من يساعدنا على ذلك) وهذه إشارة واضحة إلى من سيقوم بدور تقديم المساعدة .
5
لا يوجد شعب عراقي، لم يكن هناك شعب عراقي على الاطلاق ولن يكون، هناك مجموعة أو مجاميع سكانية مبعثرة ومتنازعة من الطوائف والفئات والحمائل والعائلات، وتوزيعها الداخلي لا يقل تعقيداً ونزاعاً، أدخلت رغماً عنها ومن دون استفتائها إلى إطار سياسي ثقافي، وفق مصالح واملاءات ادلاء الاحتلال وبعض الدمى الحاكمة الآن، لا يوجد بلد اسمه العراق، لم يكن هناك بلد اسمه العراق على الاطلاق، ولن يكون .
6
لقد تبدلت حياتنا على أوجه كثيرة لا تحصى، مثلما تبدلت الأماكن وعلاماتها، المدن وأسماءها، حتى أزدحمت الشوارع بالحواجز والممرات الممنوعة، أخبار موت ومصائب متتالية واندثارات، حروب، اغتيالات، مؤامرات وعمائم، لقد كان من حسن حظنا أن نصبح شهوداً عليها لا شهداء، أهدر عمرنا وشردّنا مراراً، لاشك أن حياتنا لم يعد من الممكن أن يستقيم سردها إلا على نحو واحد فقط لا غير هو، حياتنا ما قبل الخراب وما بعده وما بينهما الحرب، وكل محاولة للابتعاد عن هذا السياق ستكون فاشلة ذاك لأن عقدة التذكر والمقارنات والسعي لاستعادة الأشياء المفقودة مازالت قائمة، أما الحاضر الذي ننسجه فهو نوع من التقمص والانتحال والمحاكاة السردية الواهمة التي تجعلنا، دوماً، نسعى لترسيخ صورة خرافية عن التاريخ متأتية من الحنين الفارغ الذي يتحسر عليه الآباء والندم المستعار من الأجداد، وإذ تزداد احتمالات اليأس تزداد معها احتمالات الخراب في عالم سردي يحتله البلهاء وقبل أن نستغرق في الضحك المرير من هذا السواد أو ذاك السرد الذي يلفنا بعباءة الفاظه الغائمة سنبقى ننتظر لحظة البرق التي ستقسر العتمة المهيمنة على نهار البلاد بالهرب .
البلاد غارقة بالخراب والتفاهات واللصوص، غارقة بحروف العلة وعلامات الذكورة، هذي البلاد لا تحتاج إلى من يخلخلها من وقت لآخر كي يسمح للهواء الملوث بالتسلل إلى رئتيها، لقد شبعنا موتاً، أن حالات الذهاب إلى الخراب تتم في لحظة ضعف وغياب البصيرة ومن خلال وعي ناقص مبتسر بحلم البراءة أو التغيير، وأنا أزعم بانني أحاول جاهداً الكشف عن الحالة النفسية للإنسان المريض في مستويي القوة والضعف، النهوض والانكسار، الحياة والموت والإنسان في النهاية هو هذا التركيب المتناقض، فبالنسبة لي ككاتب يعيش عصره بكل تناقضاته، تقلباته وانهياراته لابدّ أن أكون مخلصاً ما أمكن في رصد واستكشاف مكامن العطب فيه والمعضلة في المحصلة أعمق من السياسي والثقافي والنقدي ولهذا أقول نحن لسنا بحاجة إلى زلزال (ثوري) يقوده (ثوار) من نمط ذاك أو هذا الخرافي الخارج تواً من روايات الرعب أو الخيال العلمي، المترسب في أعماقنا منذ زمن بعيد، هناك دائماً شخصية هامشية يجري رصدها وتحليلها لانها تريد رسم معالم حياتنا على طريقتها السادية التي لا تسع المجال لمحاورتها لقناعتها المطلقة بصواب مشاريعها وساديتها وانحرافاتها حد إنعدام التمايز بين اللون الأبيض والأسود أو بين الماء والهواء .