خاص: إعداد- سماح عادل
ولدت “ألمظ” في الإسكندرية 1860 وماتت وهي في عمر 36 عاما في 1896، اسمها الحقيقي “سكينة” وكانت أشهر مغنية مصرية في القرن التاسع عشر.
في كتابه (فيض الخاطر) يقول “أحمد أمين”: “من عبده؟ ومن ألمظ؟ ولماذا كان لهما هذا الصوت الجميل والفن البديع؟ الله يعلم أين يضع سره من غير قانون معروف، ولا نظام مألوف، فعبده فتى من عامة الناس، وأبوه من سواد الناس، لم تعلمه مدرسة ولم يهذبه كتاب، ولم يتلق دروسا في “النوتة” والعود والكمان. ولم يعرف أبوه بفن ولا صوت، ولكن الله منح عبده صوتا رخيما، آية في الجمال، لفت إليه الأنظار. أما ألمظ فهي فتاة فقيرة يضطرها فقرها أن تشتغل “فاعلة” مونة الجير والتراب في “قصعة” لتناولها للبنائين، ثم تلهمها نفسها وحسها أن تغني للعمال فيسمعوا منها صوتا بديعا يخفف عنائهم ويزيد نشاطهم، ويشاء القدر أن تسمع صوتها وهي تغني “عالمة” من أكبر عوالم مصر اسمها “الست ساكنة” كانت تقطن حي السيدة سكينة بالقاهرة، فتأخذها وتربيها تربية فنية، فتتفوق “ألمظ” على معلمتها، ويكون منها أكبر “عالمة” أي مطربة وفنانة بلغة ذلك العصر، فسبحان ربي القدير يهب ما يشاء لمن يشاء. بدأت القصة بين”ألمظ” و”عبده الحامولي” بالمنافسة، حيث كانت “ألمظ” تغني أغنية فيرد عليها “عبده الحامولي” بأغنية أخرى، ومن ذلك أن غنت ألمظ أغنية تقول فيها، وكان كلامها موجها إلى الحامولي:
يالي تروم الوصال وتحسبه أمر ساهل
دا شيء صعب المنال وبعيد عن كل جاهل
ويرد الحامولي على هذه الأغنية بأخرى يقول فيها:
روحي وروحك حبايب
من قبل دا العالم.. والله”.
وقد عاصر الكاتب “أحمد أمين” في صباه السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر حيث كان الثنائي الغنائي في قمة الشهرة والنجاح وحب الناس لهما في كل مكان، ولم يلبث الحب أن ربط بينهما وتزوجا وعاشا حياة سعيدة، حتى توفيت “ألمظ”، فامتلأت نفس الحامولي بالحزن، ومن أجمل ما غناه “الحامولي” بعد رحيلها هذا الدور الذي يقول فيه:
شربت المر من بعد التصافي
ومر العمر وما عرفتش أصافي
عداني النوم وأفكاري توافي
عدمت الوصل، يا قلبي عليه
وكان عندما يغني يبكي، وكان الناس يبكون معه.
احترفت “ألمظ”، الغناء والتحقت بفرقة أشهر المطربات آنذاك، وتدعى “ساكنة بك” وكانت تغنى في بيوت الأمراء والكبراء، وبعد أن اشتهرت “ألمظ”، انفصلت عن فرقة “ساكنة بك”، وكونت تختا خاصا بها.
ومن أشهر أدوارها:
لازم أهشة دا العصفور وانكش له عشة دا العصفور
وابن الأكابر والعصفور ع العشق صابر دا العصفور
طار وعلا وعلا وطار ونزل على بيت العطار
وكبش ملبس واداني ولوز مقشر وعطاني
لازم أهشة ده العصفور
يا سيدي أنا أحبك على وربنا عالم وشاهد
لا صبر على أحكام الله لما يبان لي معاك شاهد
لازم أهشة دا العصفور
حرم “عبده الحامولى” على زوجته “ألماظ” أن تغنى لتطرب أيا كان. أقام مرة الخديوى إسماعيل حفلة سمر دعا إليها بعض الأمراء وأرسل إلى “عبده الحامولى” يأمره بأن يرسل زوجته لتغنى وتطرب المدعوين، وكان أمر إسماعيل لا يدفع ولا يرد، وجاء الرسول والجند يبلغون عبده أمر ولى النعم ولكنه أجابهم “ أبلغوا أفندينا أن عبده مستعد لأن يحضر ويغنى ثمان ليال دون أن يغمض له جفن، ولكن زوجته لا تغنى أمام أي كان ولو كان أفندينا المعظم”.
حاولت “ألمظ” أن تثني زوجها عن قراره في إبعادها عن ساحة الغناء وكانت تتوسل إليه ولكنه بقي متمسكاً بقراره، حتى عندما أطلق بعض حساده شائعة تقول إنه تزوج “ألمظ”وأبعدها عن الغناء غيرة منها ومن شهرتها ولكن الأمر لم يكن كذلك فقد كان يغار عليها لا منها، وكانت “ألمظ” تثق بذلك فنفذت رغبته بحب وبمنتهى الرضا.
اكتفت “ألمظ” بأن تتحول إلى سميعة لزوجها وكان يصطحبها إلى حفلات الأسر الصديقة فتجلس بين المستمعين له ولا يسمح لها تحت أي ظرف أن تغني، وانقطعت “ألمظ” تماماً للقراءة وجودت في أدائها بحيث أصبح صوتها الساحر أحلى الأصوات المرتلة للقرآن الكريم.
ووصل صيت “ألمظ” المطربة التي تحولت إلى مقرئة إلى الخديوي إسماعيل فرغب في سماعها مطربة أولاً ثم مقرئة، وأرسل وراءها ووراء زوجها الرسل من حاشيته يبدون له رغبة ولي النعم فثار “عبده الحامولي” في وجوههم ورفض أن تدخل زوجته القصر مطربة أو مقرئة وكانت نتيجة هذه الثورة غضبة شديدة من الخديوي إسماعيل، أوشكت أن تعصف به ومكانته في دنيا الطرب، وقد انتوى الخديوي أن يبطش به ونجح أصدقاءه ومحبوه في بلاط الخديوي في تخفيف غضب الخديوي إسماعيل فغفر له وهو يقهقه ضاحكاً من الفلاح الذي يرفض أن تدخل زوجته قصر الخديوي.
كان “عبده الحامولي” حريصاً على أن تسمع ألمظ أدواره الجديدة قبل أن يسمعها الناس وكان يطلب رأيها وقد كانت أبداً صاحبة الرأي النافذ والمشورة السديدة. وكان عبده ينفذ آراءها في أغانيه دون تردد وقبل أن ترحل عن عالمها، شب بينهما خلاف عارض كاد يعصف بحياتهما رغم كل هذا العشق الذي جعل منهما أشهر زوجين في ساحة الطرب لولا أن “ألمظ” كانت سباقة إلى التسامح والمغفرة فقد كانت ترى في حبها ل”عبده الحامولي” قمة العطاء والتفاني.
“عبده الحامولي”..
ولد “عبده الحامولي” بالقاهرة عام 1836 في قرية الحامول بمحافظة كفر الشيخ بمصر. حفظ الكثير من تراث الموسيقى العربية من الموشحات والقدود الحلبية التي بدأ بغنائها، وكان نجما دائما في حفلات مقهى عثمان أغا بحديقة الأزبكية بالقاهرة، حيث عمل مع المعلم “شعبان” أحد حفظة الموشحات وتلقى عنه الكثير منها. كما انضم إلى فرقة “أبو خليل القباني” المسرحية ثم كون فرقته الخاصة. وبدأ بتنقيح التراث وتثبيت أشكاله وإضافة إبداعات جديدة إليه، ساعده في ذلك إمكانياته الصوتية الهائلة، إلى أن تولى الشيخ “محمد عبد الرحيم المسلوب” و”محمد عثمان” مهمة تلحين الدور فاستقر على ما أصبح عليه حتى مقدم “سيد درويش” في أوائل القرن العشرين.
كون “عبده الحامولي” مع ملحن الأدوار الفذ “محمد عثمان” ثروة هائلة من الأدوار التقليدية مازالت تسمع لليوم، وبفضلهما تطور قالب الدور العربي القديم إلى القالب الأساسي الذي بنى عليه “سيد درويش” أدواره العشرة الشهيرة. غير أن “سيد درويش” أضاف إلى الدور إمكانيات وأشكال جديدة كما أضاف إليه البعد التعبيري. ويرجع إلى “الحامولي” و”محمد عثمان” فضل تمصير الغناء أي أداء المقامات التركية على درجات المقامات المصرية التي تلقى قبولا أكبر لدى المستمع العربي.
استخدم “الحامولي” مقامات موسيقية جديدة لم تكن معروفة في مصر قبله منها الحجاز كار، النهاوند، الكرد، العجم، قام “عبده الحامولي” بتلحين الشعر العربي القديم، وتعرف إلى العديد من شعراء عصره ومثقفيه مثل “محمود سامي البارودي”، “إسماعيل صبري باشا”، و”الشيخ عبد الرحمن قراعة”، و”عائشة التيمورية”، وكان يطلب منهم الكتابة له. لحن “الحامولي” القصيدة التقليدية مثل “أراك عصي الدمع” ل”أبي فراس الحمداني” لكنه اشتهر بأداء الأدوار.
أعجب بصوته “الخديوي إسماعيل” واصطحبه للغناء في الآستانة (استانبول) عاصمة الدولة العثمانية، فانتهز الفرصة للتعرف أكثر على الموسيقى التركية ومقاماتها وأشكالها. كما سافر إلى البلاد العربية فتعلم نغمات استخدمها في أدواره الجديدة فأضاف لها مذاقا جديدا. وعلى غير ما توقع فإن النغمات المصرية التي مزجها بها جعلت أدواره ذات مذاق جديد على الأتراك أيضا فراجت في تركيا كما في مصر.
تمتع “عبده الحامولي” بصوت قوي واسع المجال، وشديد الجاذبية والتأثير. وكان يؤدي أدواره بالأسلوب التقليدي الذي يبدأ من
قاعدة المقام متدرجا في الصعود إلى مناطق صوتية يصعب على أي مطرب الوصول إليها، ويقال إن صوت “الحامولي” تجاوز أعلى طبقة في آلة القانون المعروفة بارتفاع طبقاتها عن الصوت البشرى. ووصف صوته أمير الكمان “سامي الشوا” الذي عاصره بأنه أعجوبة.
تأثر ب”عبده الحامولي” كبار المطربين الأوائل في القرن العشرين مثل “عبد الحي حلمي”، “يوسف المنيلاوي”، “صالح عبد الحي”، و”سلامة حجازي”. لكن أسلوب الأداء الذي جمع بينهم تغير كثيرا مع ظهور التكنولوجيا الصوتية الجديدة التي غيرت الأسلوب من الأداء المسرحي إلى التعامل مع الميكروفون.
“ألمظ” لم تكن زوجة “عبده” الوحيدة، بل إنها كانت الثانية، حيث تزوج الأولى من ابنه المعلم “شعبان” القانونجى من طنطا، وتزوج مرة ثالثة بامرأة من قسم الخليفة أنجبت له نجله محمود، والرابعة رزق منها بنات فقط، منهم زينب، أما الأخيرة فهي سيدة تركية اسمها “جولنا” هانم، أنجبت له محمد الذي كان في الرابعة من عمره حين توفى “عبده الحامولى”.
وفاته..
توفي “عبده الحامولي” عام 1901 بعد وفاة “محمد عثمان” بعام واحد، وله شارعان يحملان اسمه في كل من القاهرة والإسكندرية.
https://www.youtube.com/watch?v=CMlkX2wbhLg