23 نوفمبر، 2024 7:02 ص
Search
Close this search box.

هاجس الحداثة ومآزق مابعد الحداثة ورقمنة التحديث

هاجس الحداثة ومآزق مابعد الحداثة ورقمنة التحديث

استهلال:

” الحداثة modernitéهي السعي وراء جمال الميول المؤقتة، لدمجها، لأغراض فنية، مع ما هو أبدي”

– شارل بودلير، 1863.

قد يتم دراسة الحداثة ومابعدها من جهة النشأة والتشكل وظهور الشخصيات والأسماء والمدارس من ناحية ومن منطلق سبر الاتجاهات والتيارات المتصارعة والمفاهيم المبتكرة والأفكار المطورة من ناحية أخرى.

قد يفترض أن تكون الحداثة قد عايشت تجارب سياسية غير مألوفة بالنسبة إلى العصور القديمة والوسيطة ويمكن أن تكون قد تحولت بعد ذلك إلى مفهوم سياسي بدا يحمل دلالة اجتماعية ويجري تحولات اقتصادية ولقد وضع مؤرخو الأفكار مفهوم الحداثة في مواجهة مفهوم الماضي التراثي أو التقاليد الموروثة وأشاروا به إلى نمط من التحضر النوعي الذي يعكس نظرة معرفية جديدة إلى الكون وتصور قيمي مختلف للذات.

بيد أن تجربة الحداثة طرحت نفسها على أنها تمثل ثقافة متجانسة تتضمن روافد متنوعة وعناصر متعددة وربطت انطلاقتها بتغيير في الذهنيات وقامت بتوسيع الجغرافيا السياسية الغربية وإنتاج تاريخا غامضا حول بدايتها، ولم تعد مجرد مفهوم، بل تشير بطريقة تأويلية إلى أبعاد الوضع البشري في الأزمنة الحديثة.

تعبر الحداثة من زاوية أنثربولوجيا الأشكال الرمزية عن حدث تاريخي وضع حدا لفكر القرون الوسطى بالاعتماد على حواضن تنويرية تعود إلى فكر عصر النهضة وتركت بصمتها على أنماط الوجود البشري.

بطبيعة الحال تمثل الحداثة اقترانا نوعيا بين الظواهر الحضارية التي تكشف عن تاريخ مقارن للأشكال الاجتماعية والثقافية وضروب التمثل للأنماط الرمزية وتظهر مقابلة مع حقبة حاسمة من تكشف الحقيقة من خلال تجربة الزمن أين تقوم بتشكيل تأويلات مركبة ومتحركة عن الوقائع المستجدة في التاريخ العام.

لقد تم التخلي عن التقاليد الموروثة وبرز الإنسان الحديث من حيث هو وعي منتبه إلى الواقع دون أن يظل خاضعا لذاكرة مثقلة بالمسلمات والأحكام المسبقة ومعتمد بالأساس على التجربة الحسية ومقولات الذهن ضمن تأمل فلسفي يجمع بين معالجة نقدية للمعطيات الخبرية وتنظيم نسقي بواسطة أفكار العقل الناظمة.

علاوة على ذلك وضعت الحداثة نفسها سواء في ثوب الأشكال الرمزية للثقافة أو في مستوى بنية الأنظمة المعرفية للذات الواعية على محك النقد والمراجعة ومحل تأويل مضاعف وعلى ذمة الاستيعاب والتجاوز.

بهذا المعنى متى انطلقت الحداثة؟ وماهي ظروف تشكلها وأسباب ميلادها؟ كيف تطورت ونمت؟ وماهي المراحل والموجات التي مرت بها وعرفتها؟ وهل تعرضت إلى أزمات وخضعت إلى مراجعات؟ ولماذا بلغ الحديث عنها نهايته وتكلم البعض عن أفولها؟ وكثر التنظير لتجاوزها والخروج منها والذهاب إلى أبعد منها؟ وهل مابعد الحداثة هي استمرار للحداثة ومواصلة لها أم إعلان عن ميلاد شكل بعدي من الحداثة؟ بأي معنى يجوز عن التبشير بحداثة متعددة الأصوات وتتكلم بكل اللغات؟ وما مصائر الحداثة حينئذ؟

ماهو مطلوب من هذا البحث الملخص من جهة النظر العقلي والتطبيق العملي ليس البلوغ بالمفهوم العلمي في مراتب تطوره التاريخي في مستوى الوعي الفلسفي بالحداثة، وإنما الاقتدار على طرح السؤال الفلسفي الشرعي الذي يعكس بصورة ملموسة الحاجة العاجلة عند التجارب الحداثية إجراء تشكيل نقدي للحاضر.

متى ظهرت النزعة الى التحديث في المجتمع البشري؟ أليست قديم قدم الوجود الانساني؟

1- ميلاد فلسفة الحداثة وانجازاتها:

“الحداثة ليست مفهوما اجتماعيا، ولا مفهوما سياسيا، ولا مفهوما تاريخيا. إنها نمط مميز للحضارة، يتعارض مع نمط التقليد، أي مع جميع الثقافات السابقة أو التقليدية”. الموسوعة الكونية

يبدو أن تاريخ النعت حديثmoderne هو أكثر طولا وامتدادا من تاريخ مفهوم الحداثة modernité وذلك بالنظر إلى أن الأول قد سجل حضوره منذ القدم وواكب كل محطات التجديد والخلق والابداع التي مر بها الفكر البشري عبر من خلالها على رغبته في القطع مع الماضي والاهتمام بالحاضر والتوجه الى المستقبل بينما اكتفت الحداثة بالترجمة الدلالية للسياق الثقافي وشكلت البنية الذهنية للأزمة الهيكلية للمسار التاريخي الذي وجدت فيه وعبر فيه الوعي البشري عن حيرته وتوتره وحاجته إلى نسق معياري مغاير.

لقد انطلقت حركت التحديث الفلسفي منذ صعود الامبراطوريات الجديدة بعد نهاية الامبراطورية الرومانية ولقد مهدت حركة الترجمة من العربية ومحاولة الإحياء الديني وفكر عصر النهضة لقيام الأزمنة الحديثة وذلك بالعودة إلى التقاليد العريقة في البداية ونسيان كل ذلك الماضي الموروث ومحاولة بذل الجهد قصد التخلص منه بالقطيعة والغربلة والانتقاء والتطوير والتعديل وفرز ما يصلح من أجل مواكبة روح العصر.

من هذا المنطلق تكون فلسفة عصر النهضة وحركة الإحياء الديني والنزعة الإنسانوية الأولى هي البذور الجنينية التي ساهمت في انبجاس التجربة الحداثية وإيجاد صخب وسط الهابيتوس الاجتماعي الوسيط وإحداث بلبلة وسط الأسوار الميتافيزيقية التي تحرس المنظومة المعرفية التي تعود إلى الإغريق والرمان.

على الصعيد الفلسفي يعتقد كل من هيجل وهوسرل أن بداية الحداثة كانت مع اكتشاف ديكارت للذاتية وما ترتب عن ذلك على صعيد الفن والسياسة والقانون والعلم والدين ولكن مثل هذا المنظور يهمل الأدوار التي قام بها كل من مونتاني وجوردانو برينو وفرنسيس بيكون وما دشنوه من شك في الغيبيات والعقل وما تعلقوا به من نزعة طبيعية واتجاه تجريبي يضع الاستقراء في المقدمة والاستنباط في مرحلة متأخرة.

بهذا المعنى تكون الفردانية الناشئة والعقلانية الديكارتية وحركة الأنوار هي من أهم الأسس الفلسفية التي مكنت الحداثة من الوعي بذاتها وشق طريق التقدم الفكري والتشريع القيمي والقطع مع الماضي العبودي.

من جهة ثانية ساعدت الثورة الصناعية على فقدان الدولة الممركزة التي تمارس حكما استبداديا بالتحالف مع السلطة الروحية للكنيسة على الأنفس والسلطة المادية التي تمارسها الشريحة الإقطاعية على الأبدان مشروعية نفوذها وقدرتها على الضبط والإخضاع، كما أفادت العلوم الطبيعية والفيزيائية التي عرفت تطورا مذهلا في توفير المعدات التقنية الهائلة بغية السيطرة على الطبيعة وتسريع غزو العالم الجديد.

بطبيعة الحال حملت الحداثة معها منطقا معرفيا مختلفا عن المنطق القديم بصورة معتبرة ورسمت طريقة في الوعي بالزمان واتبعت أسلوبا في التكلم مع العالم والحضور في المكان ودشنت تغييرا جذريا في شبكة المفاهيم ولقد تحولت إلى نمط عادي من الحياة اليومية ورسخت أقدامها في الأرض على هيئة إيديولوجيا.

لقد أدى التقدم المستمر في العلوم والتقنيات والتقسيم العقلاني للعمل الصناعي إلى إنتاج حياة اجتماعية تشهد تغييرات جذرية في المعاملات بين الأشخاص وإجراء تحطيم تدريجي للشيم الأخلاقية والعادات التقليدية وتسبب ذلك في بروز تحولات سياسية جذرية واندلاع نزاعات حادة بين الطبقات الاجتماعية.

زد على ذلك عرفت الأزمنة الحديثة نموا ديموغرافيا هائلا وتزايدا سريعا في عدد السكان في المعمورة وتشييد عدد محترم من المناطق العمرانية والمساحات الحضرية في الكثير من مدن وعواصم للدول وبناء شبكة عصرية للتنقل والسفر عبر البر والبحر والجو باعتماد وسائل اتصال ومنظومة إعلام متطورة.

بعد ذلك انغرست الحداثة بطريقة نهائية وحاسمة في المجتمع والدولة وتحولت إلى ممارسة اجتماعية وتم تثبيتها من حيث هي أسلوب في الحياة ونموذج ثقافي وقيمة عليا وصارت بنية العقل حداثية ووقع تخطي الأزمات والتوترات وتحقق الانتصار على القوى الماضوية والنزعات الظلامية والتصورات المثولوجية.

يكمن منطق الحداثة في بعدها التقني والعلمي في الهيمنة على الطبيعة وإحراز النجاعة في إنتاج المنفعة ويؤدي ذلك إلى تطوير قوى الإنتاج وتبديل شروط الحياة والتغير من حضارة الآلة إلى مجتمع الاستهلاك.

لقد توزعت حركة التحديث بين مختلف الفنون والآداب والعلوم والعمران والمعارف والفلسفات والتجارب والنظريات ولكنها ارتبطت بالفعل السياسي والحراك الاجتماعي والصيرورة التاريخية وظروف الإنتاج.

لعل الإطار الذي شهدت فيه هذه الحركة تطورها فهو الثقافة العلمانية التي دفعتها الاكتشافات العلمية إلى وضع المعتقدات الدينية التقليدية في مرتبة دنيا من السلم المعرفي والمنظومة القيمية والإعلاء من المعايير الحضارية والنظريات الفلسفية والممارسات الجمالية والتشبث بالتقدم التاريخي والتمسك بالمبادئ المدنية.

أما المعطيات التي وفرتها حركة التحديث فتدور حول الغزوات التي قام بها التيار العقلاني في مستوى ترييض الطبيعة وهندسة الفضاء والمعلومات التي تراكمت مع التيار التجريبي في مستوى السماء والحياة ونقاط الالتقاء التي تعددت في أروقة الثقافة والتي جعلت من تجديد الدين أحد المطالب الرئيسية للفكر.

في حين أن الرهانات التي تسعى إلى إبرازها هذه الحركة التحديثية تكمن في تخطي الحالة المتردية والصور النمطية التي كان المرء يحملها عن نفسه وعن ثقافته وتبني مبدأ ثوريا في الشأن الديني والسعي نحو تغيير ظروف العمل وشروط الحياة بحيث تتحقق المصالحة بين الذات والوعي وبين التجربة العقلية والمصلحة المادية وتحدث طفرة في المنظور الإدراكي للكون ويتم فتح الأبواب لكي تستقبل كل جديد.

مع هبوب رياح الحداثة والتنوير اعتقد الإنسان الحديث أن العديد من المثل العليا قد تلاشت وحلت محلها النسبية والتطور وأن التاريخ الاعتيادي الذي تغذى بالقوة والعنف قد انتهى وظهر تاريخ السلم والتسامح.

لقد بلغ الإنسان عصور التمدن حينما بدل طرائق الحياة التي تخصه وتخلص من أغلال التقاليد وأفرغ وضعه من القيود والسلاسل المكبلة وانطلق حرا طليقا في الوجود وأصبح يعيش الحاضر المباشر مبدعا.

لقد بلغت الحداثة ذروتها حينما انعكست على الوجود الاجتماعي وهذبت الحضور المواطني في السياسة وطورت الإنتاجية في المجال الاقتصادي وعكست الوعي الجمالي بالكون وسحرت الصور الفنية العيون.

لم تنحصر الحداثة في مظهر دون آخر وفي ميلاد مفهوم أو تأسيس مذهب مغاير بل ارتبطت بانبلاج زمن جديد وقيام حركة سياسية وإنتاج نظرية غير معهودة وإتباع منهج مختلف كأساس فكري للحياة المشتركة.

لكن لماذا فقدت الحداثة في العالم الغربي بريقها وتخلت عن قيمها وتنصلت من وعودها وارتدت لما قبلها؟

2-أزمات الحداثة وتداعياتها:

” الحداثة مفهوم غامض في امتداده ، وغير مؤكد في فهمه. إنها مصطلح مرجعيته ذاتية ومثير للجدل (وهذا لا يعني أنها غير مجدية أو غير ضرورية)”. الموسوعة الكونية

لقد انتقلت مابعد الحداثة من نقد الذات الأخلاقية والتطرق الى الوعي الشقي ووهم اللغة ونقد العقل إلى تصدع الوعي وتفكيك الأسس وإذابة الذات وسيلان الوجود واثم الحياة وتراجيديا التاريخ وعبثية الحقيقة.

لقد أنتجت الحركة التحديثية مجموعة من المكاسب والمزايا التي جعلت الإنسان يشعر بقيمته المضافة في مقابل الوضعية المأساوية الحرجة التي ظل يرزح عليها لمدة طويلة في الفترة القديمة والوسيطة والتي دفعته إلى فقدان إنسانيته والرضا بمرتبة دونية والحياة في وضع العبودية من أجل المحافظة على البقاء.

بيد أن الحداثة قد تحولت إلى علامة إيديولوجية لما ساعدت الدولة القانونية على بسط نظامها البيروقراطي عن طريق عقلانية الإدارة واستقلالية المؤسسات عن السلطة المركزية وحق الأفراد في التمتع بالحريات.

هكذا كان للحداثة وجهان: وجه مضيء يتمثل في الإيمان بالعقلنة في جميع مجالات الحياة والقيم الدنيوية والنزعة الفردانية والتقدم العلمي والتقني والحرية ، ووجه مظلم يتجلى في البعد الاجتماعي والاقتصادي ويرتبط بالقمع الذي يمارسه العقل والاستغلال الذي ترتكبه الرأسمالية والقسوة التي تمارسها التقنية على الشعوب وإفراغها العالم من كل محتوى شعري واعتدائها الصارخ على النواة الرمزية للسرديات الثقافية.

ان انعكاسات موجات التحديث كانت كبيرة على المجتمعات وان تأثيرات الحداثة على رؤية العالم وشكل الحياة كانت ملفتة ومثيرة وذلك لفرضها نماذج غير معهودة ونجاحها النسبي في احلال نظام متسلط جديد.

لقد تحولت الحداثة إلى عقلانية أداتية مكنت الإنسان من التغول في أرجاء الكون واستباحة قوانين الطبيعة حيث أنتجت سيطرة الإنسان على الطبيعة بواسطة التصنيع سيطرة تقنية للإنسان الصانع على عالم البشر.

أما عن صلة الحداثة بالزمن فلقد تشكل وعي مأزوم بالتحديث تجلى في محاولة فرض مقايسة نمذجية على كل المواضيع التي تخضع للمقاربة التحديثية دون إفراد الخصوصيات ودون التمييز بين الوضعيات وتم التأكيد على ضرورة التسريع من أجل تحقيق المزيد من الإنتاجية والمنفعة السهلة ولكنها وقعت في مطب الاختزالية والتعميم والخطية وهيمنة الحاضر على الماضي وغلبت البعد التاريخي على ديمومة الترسب.

لقد ترتب عن سرعة الحداثة تفكيك التقاليد بشكل غير مدروس والتخلص من الموروث بصورة تعسفية والسقوط في استنساخ تجارب فاشلة وتدمير المقدرات الذاتية في التطور وإلغاء المنظومات الدفاعية التي تتميز بها الذات الجماعية في مجال الرد وتمكنها من الجاهزية من أجل مقاومة المداهم والطارئ والغازي.

بهذا المعنى الحداثة ليست العقلانية ولا استقلالية الوعي الفردي الذي يؤسسها وإنما هي المرحلة المتقدمة من انتصار الحرية على الهيمنة وانعتاق الذاتية المفقودة من أغلال الأطر الاجتماعية والاغتراب الديني. ولا تكتمل بالانخراط في الجدل مع التاريخ وبتدعيم الثورة العلمية على أشكال الجهل الجديد وضمان استمرارية كل القيم المطلقة وإنما تحتاج إلى تحديث مع الواقع وتحيين مع الأحداث المستجدة والمشاركة الملتزمة والواعية في لعبة الكليات المعرفية واستكمال مسارات الثورات وتحرير كل الطاقات الكامنة.

لقد طرحت الحركة التحديثية مجموعة من المفارقات ووقعت ضحية جملة من المزالق وفي عدة مطبات، ولعل أهمها التباس المجتمع الاستهلاكي وتمزيق النسيج المجتمعي بتشجيع النزعة الفردية وحب التملك ومضاعفة تقنيات السيطرة وتوظيف الثقافة كجهاز إيديولوجي للهينمة الطبقية واتصاف التغيير بالمحافظة.

لقد تحولت الحداثة إلى واحدة من المسلمات والمبادئ والأوليات والمثل والمجردات والمطلقات التي تضع القيم التوجيهية للبشر بطريقة مجردة ومتعالية على الحقول التجريبية وغير مكترثة بالامتحان المنطقي. ولم تعد تعتمد بالأساس على الانكسارات والقطائع في حلقات مغلقة ودورات تراجعية في صورة لعبة شكلية من التغيرات وإنما صارت تستند على الثقافة اليومية والديناميكيات الذاتية للأفراد وتتحرك ضمن الإمكانيات التي تتطلبها الحرية لتصبح استطاعة والثقافة لكي تصير أسلوبا والشعب لكي يريد المستحيل.

لقد تم ترجمة الحداثة في الثقافة والأخلاق بالتأكيد على أهمية احترام الخصوصية وأساليب فن التذويت وأشكال استعمال الجسد وحرية الضمير وأبعاد الشخصية في مقابل التمركز البيروقراطي للحياة العامة.

لقد انتشرت الحداثة في كل الاتجاهات والحقول وتحولت إلى فردانية خلاقة واستطيقا القطيعة وظاهرة سوسيولوجية وعملت على تحطيم كل الأشكال التقليدية من الفن والأدب واستبدلتها بنماذج تعبيرية جديدة. كما فقدت الحداثة في ظل هيمنة ثقافة الحشود وتصنيع الوسائط الثقافية القيمة التقدمية التي كانت تمثلها بالمقارنة مع التقاليد التراثية التي بقيت تنظر إلى الماضي التليد، في حين صوبت هي نظرها إلى المستقبل وصارت تعبر عن جمالية التغيير من أجل التغيير وأنتجت أقوالا خطابية وفق نسق من الرموز المتنوعة.

بهذا المعنى لم تعد الحداثة ترمز إلى قيمة مضافة عن النقلة النوعية التي حصلت للعقل البشري بعد الثورة العلمية ولا تمثل قطيعة قيمية وإنما تتغذى من روافد متعددة وتعتمد على تثاقف توليدي بين الخصوصيات.

لقد كشفت التوجهات النقدية عن فشل الإنسان الحديث في التعبير بالشكل المطلوب من جهة المفهوم الفلسفي والنظرية العلمية والأثر الفني والتجربة الدينية والسلوك الأخلاقي والفعل السياسي والقص الرمزي والانتاج المادي والذوق الثقافي والعبارة اللغوية عن الأبعاد الجوهرية والقيم الحقيقية للحداثة.

لقد ضاعفت الحداثة من حضور النزعة العدمية في دوائر المعرفة والوجود ومثلت بمثابة الورطة الحقيقية للفكر والمأزق التاريخي بالنسبة إلى الحضارة لأنها تلتحق خلسة بالتقليد وتعلب على التناقضات التي تعصف بالمجتمعات وتنزل بالقيم إلى السوق وتعقد صفقة مع الأفكار وتعامل جميع الكائنات كسلع.

لكن كيف تعامل العالم الغربي مع أزماته التحديثية؟ وألم ينعكس ذلك على محاولة نشره في المعمورة؟

3-بلوغ مابعد الحداثة ونهاياتها:

” تتميز ما بعد الحداثة postmodernité بتفتت الكون ، وتجاور إشكالي ، ورغبة متناقضة ، وباروك في الحياة اليومية ، ورفض التقسيم التأديبي، والتسامح مع مناهج جديدة. لذلك، لا غنى عن فرضية معرفية واحدة في مثل هذا الكون ، وبالتالي يمكن أن تتعايش عدة مناهج إلزابات تيسييه دوسبوردوس – 1960-

إذا كانت التقاليد تنتعش من خلال الاستمرارية التاريخية والتواصل بين الأجيال وتسلم بامتلاكها الرمزية المطلقة والقداسة الطهرية وتميزها بالتعالي حقيقي عن التغيرات واذا كانت الحداثة قد راهنت على القطائع وحاولت إحداث انفصالات في أنظمة المعرفة وثورات في تاريخ الأفكار وأتمت دورة جديدة بهذا التمشي فإنها قد أفقدت العقل طموحه الإيديولوجي وتخلت بصوورة تدريجية عن فكرة التقدم وأبقت على التغيير من حيث هو لعبة صورية وجعلت أسطورة التفوق العلمي والتقني عند الحضارة الغربية ترتد على نفسها.

لقد عبرت القوى التحديثية إلى الأزمنة الراهنة بعد اكتسابها مناعة ضد الارتداد وتجسدت في منظومة من القيم الكونية التي تمت عولمتها عن طريق الحضارة الإمبراطورية التي تجسدت في ربط المعرفة بالقوة.

لقد كان منطق التحطيم والتغيير هو المحرك الأساسي للمسارات التحديثية التي تعتمد رأسا على التصنيع والتكنلجة وتبحر نحو أعماق الذرة والخلية والفضاء الخارجي وتغزو السوق والفضاء الرقمي والعالم الافتراضي وتؤثر على أنظمة السلطة عبر التأثير على الفضاء العام والمراهنة على مجتمع الاستهلاك.

لقد نظرت الفلسفة المعاصرة إلى الحداثة بوصفها إيديولوجيا اقتصاد السوق تنظر للحرية الفردية والملكية الخاصة وتجعل الديمقراطية الليبرالية هي الغاية التي وصل إليها العقل السياسي الغربي وأكمل التاريخ عند نقطة تمركزه خدماته دون أن يعيد توزيع الثروة والمعرفة والسلطة بشكل متوازن على الدول النامية.

لقد ارتبطت مابعد الحداثة بالفنون التشكيلية والرسم التجريدي والموسيقى الصاخبة والمسرح الصامت والأدب العبثي ولقد أجمعت هذه الأنماط التعبيرية عن نهاية التاريخ وموت المؤلف وخسوف القراءة وانتصار اللاّمعنى والمضاد للمعنى على المعنى وبلوغ البشري لحظة القطيعة الكارثية وانتصار اللاّيقين وتحول الحقيقة من المطابقة والتمثل إلى السرد واللاّإحتجاب وهجرة الواقع من المادي إلى الافتراضي.

إذا كان مؤسس الحداثة بمثابة المبدع للأنساق الكبرى والمشرع للقيم الكونية والمبشر بالرسالة التنويرية الحضارية فإن مدشن مابعد الحداثة هو النذير بقرب مداهمة المخاطر والمنبه على بلوغ المنحدر الخطر.

اذا كانت الأزمنة الحديثة قد قدمت مجموعة من الدروس الوضعية والتجريبية والعقلانية وبلغت درجة الفكر الموسوعي وأمنت بالتقدم والحرية وراهنت على قدرة العقل على تحسين الشروط السياسية والتنمية الاقتصادية فإن الأزمنة المعاصرة قد فضحت مثل هذه المزاعم وكشف الأوهام وأماطت اللثام عن الكذب.

لقد بدأت الفلسفة المعاصرة عند المؤرخون عام 1789 لما أعلن هيجل بلوغ الفكر درجة المعرفة المطلقة وطلوع طائر الفينيق عند المساء في زمن الصمت بغية التحليق والاستطلاع والتأمل ومواصلة التفلسف. لكنها تركزت أكثر وفق ملامح متفرقة مع أقطاب الظنة وكاشفي الأقنعة نيتشه وماركس وفرويد وتقمصت جسد الجنيالوجيا والحفر بالمطرقة والنقد الجذري للقيمة وتنزيل الفلسفة من السماء الى الأرض وممارسة المادية الجدلية على الصعيد التاريخي والاجتماعي ضمن نظرية صراع الطبقات وتطبيق التحليل النفسي على جوانب الحياة البشرية بداية من الماضي الطفولي بغية الكشف عن العقد الدفينة وتفكيكها تأويليا. لكن كيف يصبح التحديث ديناميكية من أجل التقدم ونشاطا مثابرا لبلوغ الوجود الأشرف والحياة الجيدة؟

4-راهنية التحديث الفلسفي ومستقبله:

” يشير التحديث modernisation إلى الانتقال من مجتمع “ما قبل حديث” أو “تقليدي” إلى مجتمع يسمى حديث عبر “التحضر”urbanisation الذي يرافق التحديث وعملية التصنيع السريعة”- كيندال.

ليست الحداثة مجرد نظرية معرفية تساعد على التحليل الثقافي لطبيعة المجتمعات تحولت الى مفعول تجاري في السوق العالمي ولا مجرد هوس بالجديد والانجذاب الى المختلف والمبتكر والمستقل والفاعل بل هي مجموعة من المعالم تصور الإنسان على أنه كائن يجتهد دوما على ادخال النظام في الفوضى وعلى فرض الحق على القوة وتحويل العمليات وتغذية التحولات المستمرة من أجل تحقيق طفرة نوعية.

لقد تفطن المفكرون مابعد الحداثيين إلى إمكانية وجود مكاسب أكثر أهمية من التي تحققت وأن المنجز غير كاف ودون المأمول ولا يلبي الانتظار والحاجيات المجتمعية والشخصية من أجل تحقيق الإقلاع.

لقد كان الحلم التاريخي الأكبر الذي اشتغلت عليه الحداثة بكل قواها الابداعية والنتقدمية هو تغيير الذهنية بشكل جذري وترسيخ القيم المدنية في البنية التحتية للحضارة التقنية وترويض الكائن البشري على الحياة.

غير أن المشروع الحداثي الواعد قد تم استنفاذه قبل تحقيقه ووقع الهروب به والالتفاف عليه قبل بلورته بوضوح ونمذجته وتحنيطه وتصديره إلى الآخرين قبل أوانه وقبل اختبار فاعليته وإنجاحه في موضعه.

لم تعد الحداثة الكلاسيكية هي التي تسطر نمط الحياة المتحضرة بالنسبة للكائنات البشرية ولم تظل تدخل في تحيد وجهة التاريخ العالمي من جهة بنية الثقافة وطبيعة المجتمع ومضمون الاقتصاد وقيم السياسة وإنما عصفت بها النزاعات السياسية وحروب الأديان وعودة المكبوت غير المتسامح وثورة الهوامش.

لكن الحداثة بقيت الموضع التي تزهر فيه كل الإبداعات وتولد على تربته كل النزعات التجديدية في جميع مجالات المعرفة والحياة وظلت الينابيع المتفقدة التي تمنح الوجود الاجتماعي معنى التلاحم والاستمرارية.

لقد انتهت الحداثة واستمر التحديث واستنفذ الموروث كل الطاقة التي كان يتمتع بها وتمنحه مقاومة الزمن وحافظ التراث على مخزونه الرمزي حيا وبلغت البشرية في الوقت الراهن مواضع بعدية وأزمنة مظلمة.

ما تتميز به الوضعية المعاصرة هو كثرة المنعرجات والمنعطفات والتحولات والمتغيرات والتغييرات والانقلابات والانتقالات والانزياحات والتبديلات والثورات والانكسارات والتقسيمات والانفصالات ولكن الحداثة في حد ذاتها لم تتخل عن العقلانية والتجريبية وعن استقلالية الوعي الفردي الذي يؤسسهما ولم تتملص من الثورة التكنولوجية والعلمية التي قلبت صناعيا العلاقة بين الفكر العلمي والظواهر الطبيعية ولم تبارح أرض التاريخ الذي جعل أحداث جزئية في مناطق عادية من الكوكب ترقى الى مرتبة العالمية ولم تقم بتحطيم كل القيم وتفكيك النسق المعياري الذي تبنى من خلالها الهويات الشخصية والجماعية. لقد استمر أمر هام من التجربة الحداثية ولم يتعرض للهدم والإزاحة والاقتلاع وذلك لأصالته ورسوخ قدميه على أرضية معاصرة وهو التحديث وقد تجلى في شكل مسارات ما انفكت ترسم ذاتها وصيرورات تتدفق.

يمكن المراهنة على مواصلة تجارب التطوير التي خضعت لها بعض المجتمعات في اتجاه تقوية درجات التحضر والرفع في مؤشرات التقدم وتمكينها من اكتساب مجموعة من المقدرات المدنية عبر الانخراط في مسار تشكيل كيان مجتمعي منظم بالانطلاق من عملية تخصيب اصطناعي للبذور الثقافية العصرية.

ليس هناك برنامج مسطر للتطوير ولا توجد وصفة جاهزة للمعاصرة وإنما تخضع كل العمليات التحديثية لإعادة التشكيل وإعادة البناء وذلك بالاستئناف على أنحاء جديدة وبإتباع طرق مغايرة وتغيير المنطلقات والمقاصد وتكثيف العمل المشترك والمجهود الجماعي بغية التأثير على التاريخ والتصالح مع الطبيعة.

حري عن البيان التذكير بأن عوامل نجاح التحديث في كل مجتمع تقليدي تتلخص في توفير مجموعة من المقومات المدنية ترتكز بالأساس على الاهتمام بتنمية الديمقراطية والتربية والاقتصاد والإدارة والثقافة والاستفادة من الثورة الرقمية وولوج المدينة الافتراضية والتوجه نحو رقمنة العلاقات وجل المعاملات.

لماذا يظل مشروع التحديث مؤجلا وممتنعا في الأوساط الثقافية التي يسيطر عليها التقليد والتراث؟

خاتمة:

“ما بعد الحداثة ليست نهاية الحداثة ، بل هي فرصة للالتقاء في نفس المجتمع ، وفي الوقت نفسه ، مع ما كان منفصل حتى الآن” – سليفار بيكات وايريك مارشندوت

يظل السؤال مطروحا حول المنزلة التي احتلتها كلمات على غرار الحداثة والتحديث ومابعد الحداثة في تاريخ الأفكار وتحولات المجتمعات ووجهة الحضارة وحركة التقدم والتأخر بالنسبة للثقافات والشعوب.

التحديث هو أن تكون وضعيات الأفراد جيدة وأن تصير المجتمعات متطورة وأن تنمو الحياة الاقتصادية وتحقق الثقافات ازدهارا بالخروج من الحالة البائسة ماقبل الحديثة والانتقال بخطوات واثقة إلى مابعدها.

غير أن المفيد في هذا الصدد الحركة الجدلية والصلة التفاعلية بين التحديث الفكري في مستوى النظريات العلمية والبني المعرفية من جهة والتحديث المجتمعي في حقول الاقتصاد والبنى التحتية من جهة أخرى.

من المهم الوعي بالراهن والإلمام بالماضي والتوجه نحو صناعة المستقبل ولكن الأهم أن يعيش الإنسان في الحاضر متحررا من عقد التراث وهموم التقاليد وأن يكون على درجة من النضج للإقامة في العالم.

لكن المقاربة الغائية للحداثة مثلها مثل المقاربة الوظيفية تصطدم بالواقع المتحرك وبالضعف في مستوى المردودية المادية والفراغ القيمي لما تبني عملياتها وبرامجها بالاعتماد على منطلقات ظنية وقوى منفلتة.

مهما تعرضت الحداثة من أزمات هيكلية وهزات اجتماعية وتحفظات ماضوية وعوائق تقليدية وموانع تراثية ومهما حاول البعض التخلي عن مناهجها ومقتضياتها والتملص من تبعاتها والتفكير في استبدالها وتعويضها بالعودة إلى ما قبلها وما جاورها من خيارات وبذل البعض الآخر جهدا من أجل تخطيها نحو آفاق غير معلومة أو تجاوزها إلى مابعدها من المعاصرة والراهنية فإن الأسئلة التي تمت صياغتها من طرف الاتجاهات التي حملت مشروعها والحركات التي رفعت بدائل تظل مطالب شرعية وحاجيات مجتمعية وإن الرهانات التي ناضلت من أجلها تبقى مقاصد كونية واستحقاقات مدنية يحتاج إليها كل كائن.

غير أن السؤال عن الحداثة هو مشكل عويص وسؤال غير قابل للحل وبالتالي لا يملك الفكر البشري له أجوبة فورية وإنما يرتبط بالتجارب التي تنخرط فيها الشعوب والمسلكيات التي تتبعها العقول المستنيرة. فكيف يمكن التخلي عن المواءمة بين الحداثة والتراث والتوجه رأسا إلى التحديث من محاور متعددة؟ وهل تقدر الرقمنة على التغلب على الموانع والعراقيل التي تمنع المجتمعات التقليدية من الانتقال إلى الحداثة؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات