19 ديسمبر، 2024 12:37 ص

ملامح اللغة العذبة في سرديات الشاعر : نصيف علي وهيب

ملامح اللغة العذبة في سرديات الشاعر : نصيف علي وهيب

اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذا الضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقى أفقاً شاسعا للتاويل , يغامر الشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لا تمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتب اليوم باسم قصيدة النثر وهي براءة من هذه التهمة .

وبعد ان حققت قصيدة النثر هذه المصالحة مع الذائقة العربية بالخصوص وكسرت حاجز النفور بينها وبين القصيدة العمودية ومنحتنا فسحة تنفّسنا من خلالها هواء جديدا صار لزاما للشاعر ان يمتلك لغة يشكّلها ويدمّرها كيف يشاء , لغة تفقد الحدود وتتفتّح عن عوالم تنبعث مما وراء الحلم تمتلك حضورا قويّا تلهبنا بسحرها وجماليتها . واليوم تظهر اللغة السردية التعبيرية منحت النصّ امكانيات كبيرة , لان السرد يتطلب وبشكل ملحّ لغة عذبة سلسلة تترقرق كالينبوع تحلّق عاليا مدهشة مبهرة تنفذ الى اعماق النفس والوجدان عند كل قارىء .

وهنا نتساءل ما هي السردية التعبيرية ..؟

(مظاهر السرد التعبيري و الذي يكون القصد منه ليس فقط الحكاية و الوصف و بناء الحدث ، و انما القصد الايحاء و نقل الاحساس ، و تعمد الابهار ، فيكون تجلّ لعوالم الشعور الاحساس بمعنى اخر ( ان الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل السرد ، فانه في الشعر السردي يكون موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية. ) ( انور الموسوي ) .

عن طريق السردية التعبيرية اصبح بامكان الشاعر ان يرسم لنا عالم يعجّ بالجمال وتراكم جمالي مدهش , وتحقق لنا ادبا رفيعا وبنكهة عالمية حيث تتوهّج فيه اللغة وعمق نفوذي الى الذات الانسانية وموسيقى داخلية عذبة جدا .

نماذج من قصائده السردية التعبيرية

ان الملاحظ لدى الشاعر من خلال متابعتنا اليومية والمستمرة لكتاباته انها تمتاز بالتكثيف الشديد والايجاز والتوهّج , وان اغلب قصائده جاءت على شكل مقطوعات صغيرة كأنها غيمة حبلى بالامطار الغزيرة تلقي حملها وتذهب بعيدا وتترك المتلقي يعيش تحت ظلالها متنعما منتعشا متلذذا بما تبعثه في نفسه . فمثلا نجد الرسالية الاجتماعية / البوح التوصيلي / حاضرة في قصيدته / لغة الأمل / والذي نقصد به التوصيلية الامينة والمخلصة المحمّلة برسالة واضحة بغية الخلاص , كما في هذا المقطع ../ .. مملوء قلبي بالألحان، تسكن سلم اضطرابي لوعة، أدونها مجلوة بالدمع، تتساقط من ألمي أغنية، ترددها الحناجر ../ . فنجد هنا اللغة العذبة تتجلّى من خلال هذا التضاد اللغوي في الفقرات النصيّة او بين المفردات , والتي كشفت لنا عن حركة تموج بها المعاني في داخل النسيج الشعري , فنجد بان هذه الحركة حركة دائبة ومستمرة ما بين عناصر متضادة , او صراح حركي ما بين مواقف او حالات مختلفة داخل نفس النصّ , فنحن نحسّ بحجم اللوعة والألم في المقطع السابق الان اننا في هذا المقطع نحسّ حالة الانفراج كما في هذا المقطع ../ مملوء قلبي بالألحان، تسكن سلم اضطرابي لوعة، أدونها مجلوة بالدمع، تتساقط من ألمي أغنية، ترددها الحناجر ../ . وفي نصّ / ابناء الأرض / نجد اللغة العذبة متمثّلة باللغة المتموّجة التي تتناوب ما بين فقرات وتراكيب توصيلية واخرى انزياحية , كما في هذا المقطع ../ هكذا نحن أبناء الأرض، نزرع الزيتون، نلوح بالغصن الأخضر إيماءة زهو في درب الشمس، نلمس أحلامنا، تتفتح أملا، نتنفسها مع الفجر حياة ../ .. فبعد ان افتتح الشاعر قصيدته بهذه المقاطع التوصيلية لخبرنا عن انفسهم ومهنتهم , نجده يمارس لعبة الانزياح اللغوي في هذه المقاطع الجميلة حين نجدهم يتلمسون أحلامهم التي تتفتح على شكل آمالا يتنفسونها مع كل اشراقة فجر حياة زاهية . ومن الملاحظ ايضا هنا وفي هذا المقطع قد اختزل ضمير الجماعة وعبّر عن رؤيتها من خلال موقفه ورؤيته . اما في نصّ / لطافة الريح / متمثّلة باللغة التجريدية حيث تتخلى المفردات عن وظيفة نقل المعنى وتسعى الى نقل الاحساس المصاحب له كمركز للتعبير , فنجد هنا المشاعر والاحاسيس أكثر مما نرى المعني , كما في هذا المقطع ../ .. لطافة الريح غضبها وأنت قوي، هل كلمت الريح يوما؟ جرب صوت هزيزها، ستنشدك الفراغات أنينا، لتعرف تفعيلات الغضب .. / .. فاللغة هنا مهمتها نقل الاحاسيس والمشاعر وليس الحكاية . فنجد هنا العنصر الخيالي والمقدرة على تصوير الاشياء تصويرا مجسّما وكأننا نتلمس هذه الصور وظلالها الرائعة , فالمفردات مشحونة بشحنات حسّية بعثت فيها كل هذه الطاقة والجمالية . أما في نصّ / النهر بريء / نجد اللغة الجميلة والعذبة متمثّلة من خلال هذا التوافق النثروشعري , حيث اللغة تتمازج ما بين القرب والتوصيل وبين الرمز والايحياء وبين التجلّي والتعبير , اي بما يسمى وقعنة الخيال , اي اظهار الخيال بلباس واقعي مما يعطي للنصّ عذوبة أكثر وقربا وألفة ويزيل عنه حالة الجفاء او الجفاف والاغتراب بفعل الرمزية والايحياء , وكما في هذا المقطع ../ الخيبات درس، كتبهُ الزمن على سبورة الأيام، الرقم السادس للأشهر حزيران، تشرين الأول رقم عاشر، عالم الأرقام دنيا متناقضة، الصفر حدٌّ فاصل بين السلبي والايجابي ../ .. فهذا النصّ يتحلّى بين الوضوح والعمق والسموّ , فالشاعر أراد ان يعبّر عن معنى معين بلفظ اخر مستخدما التشبيه , فألفاظه هنا مهذّبة مصقولة مشحونة بالمشاعر والاحاسيس . اما في نصّ / النهر يردد / نجد الرمزية التعبيرية واضحة , بحيث ينطلق كل شيء في النصّ من داخل المؤلف وبواطنه وتصوراته فمثلا ../ الخيبات درس، كتبهُ الزمن على سبورة الأيام، الرقم السادس للأشهر حزيران، تشرين الأول رقم عاشر، عالم الأرقام دنيا متناقضة، الصفر حدٌّ فاصل بين السلبي والايجابي ../ .. فان كل التعبيرات والرؤى ومحور الكلام يتمركز على ما في قلب الشاعر , فالمتلقي لا يرى الاشياء الا وفق ما يراه الشاعر , لقد طغت الفردية في هذا النصّ على الرؤية فاصبح الجو العام يضجّ بالانزياحات والرمزية . اما في نصّ / لحظات الشوق / نجد البوح الاقصى متمثّلا بوضوح في لغة عذبة زاهية , فالكتابة هنا تشتمل على تعابير شديدة البوح , كما في هذا المقطع ../ .. أتخلى عن نغمتي، لأتبع دقات قلبي، نبضي يتسارع ملهوفا، للتي ربتت على كتفي، وأنا أصغر من حلم، أكبر بعينيها، تكبر بعيني جنة، أحلم بعودتها يوما ../ .. ان هذه التعابير تحمل أقصى اشكال ابراز المكنونات النفسية عن طريق كلمات تحمل أقصى درجات البوح , فهي تتمثل في / نغمتي / قلبي / نبضي / ملهوفا / ربتت / حلم / بعينيها / جنة / احلم / وهي مفردات قادمة من اعماق الذات الشاعرة مشحونة بالعواطف النتأججة والمشاعر المرهفة . اما في نصّ / لحظات اخرى / نجد اللغة العذبة واضحة من خلال استخدام المفردات الدالة على الرقّة والعذوبة والجمال كما في هذا المقطع ../ .. ما بيننا؛ شذا الورد، نتقاسمهُ محبة، شوقي وشوقكِ وجهانِ للحب، لنتدفأ به كثيراً، القلوبُ المحلقةُ في السماء، ستغيثنا مودة ../ .. فالمفردات هنا رقراقة تنبع من نفس صافية نقيّة , استطاع الشاعر ان يمنحها هذه الطاقة من الشحنات التي تغور في نفس المتلقي دون عناء او جهد او مشقة . اما في نصّ / وردة / فنجد الشاعر قد استطاع ان يمزج ما بين الصورة الشعرية الحسّية والشمّية والذوقية والسمعية بهذا الكمّ المشرق , وكما في هذا المقطع ../ .. أتمعنُ في بتلاتِ الورد، عطرٌ يفوح غوايةَ نحلٍ لشفاءٍ إلينا، رضابُ العشقِ، يتوهج في الشمعِ ضياء، شدَّتهُ وضوحي ../ .. فمثلا / اتمعن – دلالة عن الصورة البصرية و / يفوح / دلالة عن صورة شمّية و / رضاب / دلالة عن صورة ذوقيّة و / يتوهج / دلالة عن صورة حسّية . هذا المقطع عبارة عن صورة عذبة مدهشة رسمها لنا الشاعر كونه ممن يكتب القصيدة السردية التعبيرية منذ أمد طويل .

لغة الأمل
مملوء قلبي بالألحان، تسكن سلم اضطرابي لوعة، أدونها مجلوة بالدمع، تتساقط من ألمي أغنية، ترددها الحناجر، وطنٌ باسمٌ رغم الموت، هنا في الساحات، في قاع النهر، على الحدود، في ظلٍّ أستعيرهُ لقراءةِ رواية، يعيرني لغة الأمل، أبجديتهُ حلُم يتوزع في العيون، ترونهُ يقظة، أراهُ يصحو في الفجر حياة.
نصيف الشمري

أبناء الأرض
هكذا نحن أبناء الأرض، نزرع الزيتون، نلوح بالغصن الأخضر إيماءة زهو في درب الشمس، نلمس أحلامنا، تتفتح أملا، نتنفسها مع الفجر حياة، تبدأ رحلة إيمان بالحب، لتدق في كل القلوب نبضة فرح، حين نرمي من جزء الأرض حجارة، تفتت أفكار الغازين.
نصيف الشمري

لطافة الريح
لطافة الريح غضبها وأنت قوي، هل كلمت الريح يوما؟ جرب صوت هزيزها، ستنشدك الفراغات أنينا، لتعرف تفعيلات الغضب، لوعة مخيم غاضب، للأرض المسلوبة، توأم الواقع خيال، وأنا أصحح بلغة الترحال مواسم الريح، حينما تعود، ستجدني أقوى، أواجه كل الصعاب، وأغير بالكلمات حياتي.
نصيف الشمري

النهر بريء
الخيبات درس، كتبهُ الزمن على سبورة الأيام، الرقم السادس للأشهر حزيران، تشرين الأول رقم عاشر، عالم الأرقام دنيا متناقضة، الصفر حدٌّ فاصل بين السلبي والايجابي، يسارهُ رقم بإشارة سالبة؛ برد قارس، أمامهُ عقود عمري الستة، فيها خمسة حروب ومشانق؛ على عمود الكهرباء، تغرق العبارة، النهر بريء، الأرقام تعدُّ المائة؛ في القاع أكثر، الربيع يرتدي رداء الخريف خجلا، وأنا أتوارى خلف الأمنيات، أغسل كفي بدمعة من دعاء.
نصيف الشمري

النهر يردد
جزءٌ مني أنت، جزء منك أنا، اضرب وجهي بيديك، حيٌّ في جوفِك أنا، حيٌّ في جوفي أنت، ساعدني كي أحمِلَك، كان النهر يردد، ساعدني كي أحمِلَك.
نصيف الشمري

لحظات الشوق
الحكايات التي رقدت على السطر، لا زالت تصحو سردا، بتعبير المشاعر رؤى، بين نقرة وأخرى، أتخلى عن نغمتي، لأتبع دقات قلبي، نبضي يتسارع ملهوفا، للتي ربتت على كتفي، وأنا أصغر من حلم، أكبر بعينيها، تكبر بعيني جنة، أحلم بعودتها يوما، أرحل إليها بإيمان، تحتاج الجنة حبا، يسمو عشقا، أمي قالت ذلك يوما، مرت عليها اللحظات شوقا.
نصيف الشمري

لحظات أخرى
ما بيننا؛ شذا الورد، نتقاسمهُ محبة، شوقي وشوقكِ وجهانِ للحب، لنتدفأ به كثيراً، القلوبُ المحلقةُ في السماء، ستغيثنا مودة، تلك حكاية بدأت، مذ عرف نبضي حياتهُ نغمةً، نعزفها معاً هارمونية ودادَ القلبين لكلِ القلوب، هي لحظاتٌ أخرى للحلُم؛ نرسمهُ بلون الورد، اتفقنا عليه لوناً وردياً.
نصيف علي وهيب

وردة
أتمعنُ في بتلاتِ الورد، عطرٌ يفوح غوايةَ نحلٍ لشفاءٍ إلينا، رضابُ العشقِ، يتوهج في الشمعِ ضياء، شدَّتهُ وضوحي ، كلمةٌ أذوبُ فيها، أكبرُ حرفاً، أصبحُ جملة، أدورُ على الشفاهِ سعادة، من وردةٍ كانت بيدي، عاتبني شوكها؛ حين القطف.
نصيف الشمري