صوفي لافيت – بروفيسورة في جامعة باريس , التقيتها عام 1966 عندما وصلت الى باريس ( بعد انهاء دراستي في الاتحاد السوفيتي) للالتحاق في قسم الدراسات العليا بتلك الجامعة , وقد تحدثت عن هذا اللقاء الطريف في مقالتي بعنوان – ( تشيخوف في العراق وتشيخوف في فرنسا ) , حيث كتبت بالتفصيل كيف ان لافيت قامت ( في ذلك اللقاء الاول معها ) بتدقيق معلوماتي عن تشيخوف , بل يمكن القول انها اجرت لي امتحانا في الادب الروسي من حيث لا ادري ( وهو اسلوب رائع من اساليب التدريس , حيث يتخلص الطالب من حالة التوتر النفسي عند الامتحان , وغالبا ما استخدمته انا لاحقا في حياتي التدريسية في جامعة بغداد) , وكيف سألتني عن بحثها حول تشيخوف , وكيف اني تحدثت لها عن ذلك البحث العلمي لكني لم استطع الاجابة عن سؤالها – ( من هو كاتب ذلك البحث؟) واجبتها اني لا اتذكر ذلك الاسم الفرنسي , وكيف خجلت وانحرجت واعتذرت لها عندما قالت لي وهي تبتسم , انها هي التي كتبت هذا البحث . بعد ذلك اللقاء (الغريب والحاسم في مسيرة حياتي) وافقت البروفيسورة صوفي لافيت على قبولي في جامعة باريس و ان تكون المشرفة العلمية على اطروحتي في تلك الجامعة , وقد فرحت انا طبعا وسألتها رأسا – ( متى يجب عليّ ان اؤدي امتحان القبول ؟) , فابتسمت المرحومة صوفي لافيت وقالت لي – ( لقد أدّيت هذا الامتحان الان وبنجاح) , وهي جملة لن انساها مدى الحياة .
انتهيت من الدراسة عام 1971 , و عدت الى بغداد بعد اكمال دراستي, ثم تراسلت قليلا معها من بغداد, وانقطعت المراسلات واقتصرت على المناسبات , ثم علمت بوفاتها بعد فترة وجيزة .
تذكرت المرحومة صوفي لافيت اليوم ( ونحن في نيسان / ابريل من عام 2019) , بعد ان اطلعت على بحث علمي عميق وجميل كتبه المرحوم البروفيسور في جامعة باريس نيكيتا ستروفه ( الفرنسي الروسي ايضا مثلها ) عن تشيخوف , وجاء هناك اسمها وموقف ايليا ايرنبورغ منها في كتابه عن تشيخوف , والذي ترجمته أنا الى العربية في سبعينيات القرن العشرين , وصدرت طبعته الاولى في بيروت والثانية في بغداد والثالثة في القاهرة دون موافقتي , بل ودون ان أعرف ذلك . عندما قرأت بحث البروفيسور نيكيتا ستروفه , تذكرت طبعا مشرفتي العلمية المرحومة البروفيسورة صوفي لافيت , وقررت كتابة هذه السطور عنها تحية لذكراها العطرة , و لتعريف القارئ العربي بهذه الباحثة الكبيرة في مجال الادب الروسي في فرنسا .
لا زال اسم صوفي لافيت يرتبط باسم تشيخوف في فرنسا رغم انها رحلت منذ سنوات طويلة , اذ انها مؤلفة كتاب مهم جدا حول تشيخوف بالفرنسية عنوانه – ( تشيخوف بقلمه) , وقد صدر ضمن سلسلة كتب مشهورة جدا في فرنسا تتناول حياة المشاهير استنادا الى ما كتبوه هؤلاء المشاهير من رسائل او مذكرات او اي كتابات اخرى . لقد اثبتت لافيت في كتابها ذاك معرفتها الدقيقة والعميقة والشاملة بابداع تشيخوف وتفاصيل حياته , واستطاعت في كتابها ان ترسم للقارئ الفرنسي صورة تفصيلية لهذا الكاتب الروسي الكبير , مستخدمة مقاطع من رسائله ونتاجاته الفنية من قصص ومسرحيات , اي انها واقعيا أعادت للقارئ صورة تشيخوف كما رسمها هو لنفسه ( دون ان يعرف تشيخوف نفسه بذلك واستغرق برسمها طوال حياته , ولا قارئ نتاجاته كان يعرف بذلك ايضا), أقول , أعادت لافيت رسم صورة الكاتب الروسي الكبير هذا وعبر تفاصيل دقيقة وصغيرة لا يمكن للقارئ ان يلاحظها حتى عندما يقرأ نتاجات تشيخوف , وبالتالي , فان القارئ (والباحث ايضا) يجد في كتابها هذا كل الاجابات عن اي سؤال يخطر بباله عن تشيخوف , وهذا عمل رائد وأصيل في النقد الادبي وفي علم الادب بشكل عام , عمل لا يستطيع ان يقوم به سوى الباحث الحقيقي الذي يعرف بعمق كل نتاجات تشيخوف ورسائله وما كتبه عنه الباحثون والنّقاد من دراسات وابحاث, وقد استفدت انا شخصيا منه كثيرا في اطروحتي عن تشيخوف , اذ وجدت هناك تفصيلات صغيرة و لكنها مهمة عن خصائص بعض قصص تشيخوف القصيرة … وكم نحن بحاجة الى مثل هذه النوعية من الكتب والبحوث بالنسبة لكتّابنا وفنانينا ومبدعينا في عالمنا العربي , كتب يؤلّفها متخصصون عرب حول ادبنا العربي . لقد سألني مرة أحد أقارب الجواهري والمهتمين بالحفاظ على ابداعه , ما هو مقترحي الذي يمكن ان اقدّمه له حول شاعرنا الكبير , فقلت له رأسا – اتمنى ان أرى كتابا بالعربية عنوانه – الجواهري بقلمه , والذي يجب ان يؤلفه أحد الذين يعرفون بعمق ابداع الشاعر الجواهري وتفاصيل مسيرة حياته , وهي مهمة علمية في غاية الصعوبة , ولا يستطيع ان يقدم عليها سوى العلماء .
الرحمة والطمأنينة و السلام لروح هذه الباحثة الفرنسية ( ذات الاصول الروسية), المتخصصة المرموقة في الادب الروسي , البروفيسورة في جامعة باريس – صوفي لافيت.