إن من لديه أدنى اطلاع على ما كتبه المتكلمون ـ الذين يزعمون أنهم مكلفون بالدفاع عن العقيدة الإلهية ـ يجد أنهم يجعلون دليل (النظام) من الأدلة على إثبات واجب الوجود!!! وليت شعري لا أدري كيف صاغوا هذه العبارة : (الدليل على إثبات واجب الوجود)؟؟؟!!! لا يحتاج من لديه مسكة عقل أن يلحظ المغالطة الواضحة في هذه العبارة، وله أن يسأل: كيف واجب الوجود يحتاج إلى إثبات، ويحتاج الإثبات إلى دليل؟؟!! وكأن المتكلمين وخاصة الذين يزعمون أنهم أتباع مدرسة أهل البيت(ع) لم يسمعوا قول الإمام الحسين(ع): (كيف يُسْتَدلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بَعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! …)(من دعائه (ع) في يوم عرفة على ما أورده الكفعمي في كتاب البلد الأمين).
لكم أن تتفكروا كيف أن يد الخرافة صنعت أدلة لإثبات واجب الوجود، ويد الغيب كيف كشفت السنن القانونية الكونية الهادفة التي تقلب معادلة المعرفة رأساً على عقب؟؟ فالذي يحتاج إلى دليل يدل عليه هو ممكن الوجود، وليس واجب الوجود، ومن شاء أن يستزيد فلينظر إلى قول الإمام الحسين(ع) ويتفكر فيه، ولينظر فيما كتبه المتكلمون من أدلة لإثبات ما يزعمون.
وهنا دعونا أخوتي الكرام أن نسأل أولئك المتكلمين: إذا كان (النظام) دليلاً من أدلتكم المُثبِتة لواجب الوجود فكيف تزعمون أن المعجزة التي تعدونها دليلا على وجود واجب الوجود تقع خارج السنن القانونية الكونية، أي خارج النظام؟؟ أليس هذا تناقض واضح؟؟ لقد غزلتم أدلة الإثبات فلماذا تنقضون غزلكم من بعد قوة أنكاثا عندما تعرِّفون دليل المعجزة؟؟؟!!!!
سأنقل لكم تعريف المعجزة من مصدر لعالم يعده الناس من كبار العلماء في زمانه بل إليه انتهت قيادة المؤسسة الدينية، ولكم أن تتفكروا في التعريف، وعرضه على ما أثبته المتكلمون في مسألة دليل (النظام)، وكذلك عرض هذا التعريف على المعرفة الإلهية الجارية بحسب السنن القانونية الكونية التي تحدث عنها الإمام الحسين(ع) في دعاء يوم عرفة، حيث يُعَرِّف المعجزة بالقول: (الإعجاز في الاصطلاح؛ أن يأتي المدَّعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره، شاهداً على صدق دعواه.)(البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 33).
وهنا ملحظ آخر أسجله على تعريف المعجزة ودليل النظام، وهو: هل يبقى النظام دليلا إذا أمكن خرقه بالمعجز ـ بحسب تعريف المتكلمين للمعجز ـ إذ المعروف أن الاستدلال يبطل بدخول الاحتمال، فإذا طرأ الاحتمال على دليل النظام، يسقط الاستدلال به، فما بالك بأنهم يقرون بوقوع الاحتمال وتحققه بتحقق المعجز؟؟! واستنادا إلى فهمهم الذي يقدمونه للتعريف بالمعجزة يسقط دليل النظام الذي يعدونه من أدلة إثبات واجب الوجود!!!
نعم دليل (النظام) دليل للتعريف بواجب الوجود وليس لإثباته، فالإثبات متحقق بالقول (واجب الوجود)، ولكن ممكن الوجود الذين هم الخلق فهم بحاجة ماسة لمعرفة خالقهم سبحانه من خلال التفكر واكتشاف السنن القانونية الهادفة، التي من أجلها كان ممكن الوجود موجوداً، ولذا فالمعجزة التي يجريها الله سبحانه على يد أحد حججه هي لبيان السنن القانونية التي تحكمها وكون هذا الذي جرت على يده المعجزة لديه من العلم والمعرفة ما فاق به الذي بين يدي الناس وبذلك انماز عليهم وكان تنصيبه استحقاقا له وليس محاباة من الذي نصبه، تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
إذن المعجزة لا يمكن أبداً أن تكون خارقة للنواميس الطبيعية، بل هي جارية بها، ولكن الذين يقولون بالخرق يكابرون ويتعالون على جهلهم، فلا يعترفون أن المعجزة وقعت بسنة قانونية هم يجهلونها، وجاء المنصب من الله سبحانه ليعرِّفهم بتلك السنة القانونية من جهة فيطهرهم من الجهل، ومن جهة أخرى يثبت لهم أن حجيته كانت باستحقاقه وإخلاصه، وليس محاباة، وبذلك يتبين لنا أن يد الغيب لا تعمل في ساحة تجهيل الناس واستغفالهم وتسطيح عقولهم، كما تفعل يد الخرافة، فيد الغيب حريصة غاية الحرص على جعل كل مخلوق مكلف يتحمل مسؤولية تكليفه، فكل واحد منا محاسب على عمره فيما أفناه، وليس في ساحة يد الغيب (ذبها براس عالم واطلع منها سالم)، أي ليس في وارد يد الغيب بناء قوالب وصناديق للمكلفين ليحبسوا أنفسهم فيها كما تفعل يد الخرافة، بل يد الغيب تقول: اقرؤوا وابحثوا ودققوا …..
أريد أن اسجل هنا ملحظاً أتمنى على الأخوة القراء أن يتفكروا فيه لتتبين لهم هوية يد الخرافة وتمييزها عن يد الغيب، وهو: كيف تكون الشريعة الحقيقية فقرة من فقرات التشريع الوضعي؟؟ بمعنى كيف يكون الإسلام والقرآن الكريم (الشريعة الحقيقية) فقرة تشريعية في الشريعة الوضعية التي يعترف كاتبوها والراعون لها أنها شريعة متغيرة متبدلة وليست قرآنا؟؟؟!!!
هذا باب جديد نفتحه لنفكر معا ونرى من هي يد الخرافة التي تعمل على تسطيح عقولنا، ومن هي يد الغيب التي تأخذ بنا إلى مراقي إنسانيتنا، بينما تجتهد يد الخرافة في سلبنا إنسانيتنا وجعلنا كائنات مستلبة لا تعي ما تقول، ولا تفهم ولا تتفكر فيما يقال لها,
قال تعالى{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر/21).