19 ديسمبر، 2024 9:14 ص

الزيارة الثالثة لبغداد… سرقة الحلم

الزيارة الثالثة لبغداد… سرقة الحلم

في ليلة شتوية وسط اجواء عائلية حميمية، حفل عشاء ساهر للوداع، أغنية “مرة ومرة” “لرياض أحمد” تصدح في فضاء البيت، يختلط ضحك وصخب أطفال مع دخان السيكائر. في صالة بينتا مع أخوتي، جالس أنا على المقعد، بجانب حقائبي، فيها ملابسي وكتب جاهزة للسفر. يجلس أمامي أخي الكبير بيده سبحة سوداء مائة وواحد. إنه مساء بغدادي، غبار في غبار في غبار، كاربون المدفأة يرسم اشباحا في الفضاء، رائحة العرق تمتزج مع رائحة الجواريب، الكل يتحدث، صداع في راسي، لحظة صمت، ثمة اسئلة ترتسم على الوجوه. “انها الزيارة الثالثة” قال لي أخي الكبير.

شتاء 2007
أعتدل أخي الكبير في مقعده وقال لي “لماذا ترجع غداً إلى أمستردام؟ ” أنت تقدمت في العمر لماذا لا تتزوج وتبقى هنا”؟ الصمت كان جوابي، لم التفتُ اليه وأنا أداعب شعر أبنة أخي في حضني. أفكر في اليوم التالي حين أصل أمسترام، أتوق إلى بيتي، رسائل تنتظرني في صندوق البريد، فئران تمرح في المطبخ وهي سعيدة بغيابي، شجرة عنب جارتي تتسلق البالكون بعنوة، لم تثمر بعد، كعلاقتها السابقة مع صديقها الذي خانها مع صديقتها، الأخرس يقف أمام باب السوبر ماركت يغازل ويغوي النساء بنظراته غير البريئة، بقالة التركي تفوح منها رائحة اللحم، حبيبتي شجرة التين العارية في الحديقة نهاية الشارع، ومشروعي المسرحي الجديد.

الزيارة الثالثة لبغداد
ثلاثة أسابيع، قبل ثلاثة اسابيع وصلتُ بغداد، هذه الزيارة الثالثة لبغداد. لا أحد يستقبلني في مطار بغداد الدولي، وحدي لا أحد معي، أقف في ظل دافئ هروبا من حرارة الشمس أنتظر خارج المطار، أدخن سيكارتي بنهم بعد رحلة طويلة. أتأمل سيارة اجرة آمنة توصلني للبيت؟ “كن حذراً، الطريق لازال خطراً، اختطاف، وقتل” هذا ما اخبرني به أهلي هاتفيا.
 تاكسي، حين نطقتها هجم عليَ السائقون كالكلاب المسعورة التي تهجم على فريستها، تشاجروا فيما بينهم، نهشوا حقائبي، تسمرت في مكاني، في لمحة بصر وضع أحدهم حقائبي في صندوق السيارة. “مائة دولار” قال لي السائق الشاب ذو اللحية الخفيفة البيضاء، شعر راسه أبيض كالقطن وهو لازال في العشرينات من العمر، يرتدي بنطلونا اسود، قميصا اسود، خاتم فيروزي في اصبعه اليمنى، ساعة يدوية سويسرية حديثة باهظة الثمن في يده اليسرى. صعدت سيارته “كابرس” الانيقة،”شلونك”؟ أول كلمة اسمعها في بغداد؟ “شعرك اسود خال من الشيب، أكيد أنت تعيش خارج البلاد”! قالها لي السائق مع ابتسامة مصطنعة فيها حسد وغيض. في صمت طويل وخوف مجهول، احاور نفسي هل سوف يفجرني ويدخل الجنة من أجلي؟ أي جنة هذه؟ وأنا أذهب للجحيم!. يالله مالذي فعلته لأموت هنا؟.
محاولاً أن اكسر الصمت والخوف في داخلي قدمتُ له سيكاره مارلبورو، مع ابتسامة خبيثة قال لي: “شكرا أنا رياضي لا أدخن”. غداً عندي مباراة مهمه لكرة القدم “. أجتزنا نقطة التفتيش دون عناء، التفت لي السائق قال “هذه الكرادة ليست كما تركتها” عبر طفل أمام السيارة بسرعة برق، كاد يدهسه السائق لولا انتباهه. اللون البيجي يطغي على واجهة البيوت. العباءة السوداء تلف النساء، والحجاب يخنق الجمال، اللحى تغطي الوجوه، زحام، متسولون على الأرصفة، امريكان، حواجز كونكريتية، ضجيج، آثار طلقات نارية في  الجدار. من النافذة انظر إلى السماء، سحب دخانية سوداء تأتي من بعيد تخيم فوق المدينة.
“حمد لله على السلامة ياجاي من السفر” غنتها بفرح طفولي بنت أخي وهي واقفة تنتظرني فوق سطح الدار، تلوح لي بيدها، ملابسها ملونه زاهية كأنها ذاهبة لمراجيح العيد. رائحة البهارات البغدادية تنفذ إلى انفي، تختلط مع رائحة البخور الهندي رخيص الثمن، صور ائمة مؤطرة بزخارف ذهبية اللون، كبيرة الحجم معلقة على الجدار، صوت قرآن يأتي من الجيران، بكاء طفل، كرة من الجيران سقطت على علبة صينية متروكة في حديقة بيتنا مخلفة قرقعة مفزعة. نفط، نفط، نفط، صوت بائع النفط يجوب الشوارع في بلد نفطي!. قال لي اخي الأصغر “ماذ ترغب الان؟” “زيارة مدينة الثورة” قلتُ له. صعدنا السيارة باتجاه مدينة الثورة داخل، مدينة الصدر حالياً.

الثورة
استيقظت المدينة مبكراً، فرشت أحلامها على الأرصفة، فتحتُ عدسة كاميرتي: مدينة بائسة، هرمة، آيلة للسقوط. منسية ،مهملة، هامشية،، لا لون فيها، ولا حياة، مدمنة على الفقر، كأنها باص خشبي قديم، مكتضة بناسها وأحزانها، متراصة ومتلاصقة مع بعضها، تخاف الزوال والأنهيار، متشابهة في البناء والحزن، الصبر والأيمان هما زادها، ترتدي زياً ملوناً، تعيش في العالم السفلي. ذبلت رائحتها، اسوار من الاوهام والأحلام، السدة من الشرق ، مفخخات من الغرب. ايقاعها سريع، اصوات، سيارات مفخخة، غبار وتراب هو لون المدينة، صور الائمة معلقة على الاعمدة والبنايات، صور أرهابيين مطلوبين للعدالة، عجلات سيارات مهمله، نفايات، جزرات وسطية، باعة يفترشون الأرض، سمك مسقوف، ملابس قديمة وحديثة، أوراق مهمله، قنان زجاجية فارغة، مطاعم، اسواق تنتشر بشكل فوضوي، انفجار في “شارع مريدي” قطع علينا حديثنا، أربك رحلتنا وعدنا الى البيت محملين بالاسى، ننتظر اليوم التالي.

سرقة الحلم
في اليو التالي يزحف الوقت بطيئاً، بغداد مسرح أحداث دامية، حكاية درامية، سيناريو مسرحي جديد، شخصيات من لحم ودم تعيش بينكم، اليكم أحداثها. انها قصة حقيقية.
“الله اكبر، الموت موجود في كل بيت بغدادي، تعج المدينة بالاموات ولافتات النعي”. قالتها أختي الصغيرة محمرة العين، بصوت مخنوق، بيدها سكين حادة، ومضت صوب المطبخ، تقطع البصل، عرفتُ فيما بعد غزارة دموعها ليس بفعل البصل فحسب بل من حجم الكارثة.
أنظر الى أخوتي وسط صمت وذهول، لا أحد يكلمني، يسألون، يبحثون، يتشاورون يتهامسون، يتبادلون النظرات بينهم، أتقدم اليهم يصمتون. تبين لي أن أخي قد أختطف، أقتادته مجموعة ملثمة، واختفى. بكيت أكثر من أختي التي تقطع البصل، صرخت، زاد نحيب النساء وصراخ الأطفال، عزاء كبير والجثة غائبة. “النساء جهزن حليتهن لمساومة الخاطفين، فدية تعويضية” هذا ما قاله لي أخي الأصغر. موبايل، موبايل، موبايل، الكل يمسك تلفونه وينظر اليه، حتى أبن أخي الصغير تحت السرير وهو يبكي. المشهد في البيت برمته يشبه لوحة حزينة لبيكاسو، لا نرى فيها غير الدموع، يأخذ طابعا جنائزيا بامتياز. أو مشهدا لمسرحية في انتظار غودو، الانتظار هاجسنا، قلقنا.

قالت لي زوجة أخي مالذي تعمله هنا؟ اهرب من العراق، ما الذي تنتظره هنا؟ لا شئ يسر في هذه المدينة المنكوبة غيرعويل النساء والفساد والرشوة والقتل، لا مكان للفرح”. واردفت قائله ” لولا كثرة الباكين حولي، لقتلت نفسي” لا تعرف هي ان هذا البيت الشعري للخنساء، لكنها حورته قليلاً. ثم قالت: “ضاقت بي الدنيا خذنا معك إلى أمستردام”. لن يتواني أبن أخي الصغير وهو يدفن رأسه في الوسادة التي تبللها الدموع، في تقديم اسئلته الطفولية الصارخة “عمو أريد بابا” متى يخرج؟ أين هو؟”هل مات؟ ورموه خلف السده؟ أريد أن أراه؟.لا أعرف ماذا أقول حينها، دموعي، كانت كافية أن تقول كل شئ. أختي قالت: “لا تذهب أبق هنا” أبن عمتي “صرخ في وجهي” اين هو الله؟ ولماذا يحل بنا هكذا؟ نحن نؤدي الصلاة بأوقاتها، خلصنا من صدام جاء الف صدام” ربتت على كتفه، ثم قاطعتنا ابنت أخي بلغة بريئة غاضبة “من هم هولاء القتلة؟ أين ينامون، وهل هم بشر مثلنا؟ لماذا لا احد يموت من رجال الدين ذو الوجنات الوردية المنتفخة، أو أحد من رجال السلطة”؟.
 فرح، فرح، فرح، هلاهل وزغاريد، اطلقوا سراحه، حزن يختلط بالبهجة، عناق، صور تذكارية مبلله بدموع الفرح، اطلاق عيارات نارية في الفضاء.

جلس أخي على حافة السرير، أشعل سيكارته بالمقلوب، يرتشف الشاي بصعوبة، وجنتاه مزرقه، جسده يئن، يروي حكايته بمرارة حادة وهمس لا زال خائفاً: “بعد خروجي من المطعم، هجمو علي مجموعة ملثمين، ملابسهم رثه، وعيونهم يتطاير منها الشرر. قيدوني، عصبوا عيني، أصعدوني سيارتهم، وتوجهو بي الى هناك، في مكان مجهول لا أعرف وجهته، مكان لا يمكن لي أن أعرفه، ولا أريد  ان أتذكره، حينها كنتُ أحلم بالفرار أو الموت، لا أريد التعذيب على ايدي هولاء القتلة، القذرين، لكنهم فعلوها”. اصغي له باهتمام بالغ وفضول أريد أن اعرف كل شئ دفعة واحدة، “أطفأوا السيكائرعلى جسدي، اعتدوا عليً، ضربوني، أنواع الشتائم، كلمات نانبية لم اسمعها من قبل. ختم قصته بالقول: أخيراً تم اطلاق سراحي، وها أنا بينكم، لأ أعرف ماذا أقول؟ هل أنا محظوظ في بلد لا حظ فيه؟”
قاطعه أخي الأكبر قال لي: “أرحل من هنا أفضل لك ولنا لا تبق هنا ولا تتزوج مو مشكلة”. اصبحتُ مثل اوديب أخترت أن اقتحم المكان وهذا قدري، هل عليً أن أفقأ عيني؟ أم أرحل من حيث أتيت؟. سأودعك يابغداد وإلى الأبد، اقولها دائما حين اغادرك، بغداد التي أحب غادرتها إلى بيروت وفي قلبي غصة كبيرة.

بيروت
هربت من حرب إلى حرب، من بغداد إلى ضفاف البحر المتوسط لبيروت، المدينة تفرش رموشها على الشاطى، شربت القهوة في الصباح الفيروزي على شاطئ البحر، رذاذ البحر يدفدغ  نافذتي، أغنية فيروز”كيفك أنت” تأتي من بعيد، كأنها تخاطبني.”مالذي أتى بك إلى هنا” “الخوف من الحرب، هربتُ من حرب إلى حرب”. طبعت قبلة كبيرة على وجهها، تسعكت في عيونها، شربتُ من دموعها، كتبتُ اسمي على جسدها، حملتها على كتفي، غادرتُ إلى أمستردام ولا زالت رائحتها عالقة في ذهني.. 

*مسرحي عراقي يقيم هولندا

أحدث المقالات

أحدث المقالات