22 ديسمبر، 2024 5:18 م

الثقافة الاسلامية والظاهرة الدينية

الثقافة الاسلامية والظاهرة الدينية

عندما نتناول الثقافة الدينية اليوم ونحن نعني الاسلامية هنا ، ينبغي ان نميز بين مسألتين :- ما هو مصطنع في انتشار هذه الثقافة ، وهو موجة لابد ان تنحسر وتنتهي . واذا رصدنا هذه الموجة خلال السنوات القليلة الماضية .. لوجدنا انها بدأت في الانحسار واصبح التفكير العقلاني يتقدم من اجل ان يضع الظاهرة الدينية في مكانها الصحيح .

والمسألة الاخرى في انتشار هذه الثقافة ، ما هو ايجابي ، اي ان الثقافة الدينية جزء مكون من الثقافة القومية . ذلك ان الاسلام لم يكن مجرد دين من الاديان ، والتفكير به من هذا المنظور ظلم له دون ريب .

الظاهرة الدينية بارزة في العالم اطلاقاً كما هي بارزة في وطننا العربي ، ولكل حالة اسبابها . عالمياً :- هناك عودة الى الدين مردها الى غياب القضايا الوطنية الكبرى في العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية ، كما انها وليدة الخيبة من تطبيق بعض المشاريع النظرية الطموحة .. وانتشار الفلسفة الفردية بشكل عام .

كل هذه العوامل اعادت الاعتبار الى الفكر الديني واطلقت هذه الظاهرة في شكل بارز . وفي ما يتعلق بوطننا العربي لاشك في ان انهيار الوحدات العربية ، والهزائم المتكررة ، والتشتت العربي الذي حصل .. قد ساهمت في نشر الظاهرة الدينية في الاقطار العربية .

اننا حين نقول :- ان الثقافة / الظاهرة الدينية في ازدياد مضطرد ، فأن مما يعنيه ذلك ، ان الانسان العربي وعلى الرغم من الغزوات الايديولوجية المتتالية عليه ، مازال يربط نهضته القومية بالاسلام ، ويرى الى حاجاته الملحة ، حقوقاً وحريات في ضوء منه . وهذا يشير بوضوح الى فشل مشاريع النهوض التي قامت على اسس ليبرالية او شيوعية ..

اذن ، كان لابد مع مجيء التيار الديني الذي استغل الثورة الايرانية ودفع بها باتجاه مضاد لتيار القومية العربية، ومضاد لمصلحة التفاعل الايجابي الذي يمكن ان يضع العروبة والاسلام كليهما في موقعهما كمحركين تاريخيين للنهضة ، على المستوى القومي العربي وعلى المستوى الاسلامي العام ، من ان يلعب التيار دوراً كبيراً في طرح مسألة تسييس الدين تسييساً مصطنعاً .

ان تعثر المشروع القومي العربي على مستوى الوطن العربي وفقدان المشاريع الوطنية داخل كل قطر ، قد شكك الشعوب باصالتها الوطنية والقومية وجعلها تعيش تناقضاً بين فريق سطحي ومقلد للغرب تقليداً يقف عند حد القشور ، وفريق آخر سلفي ديني منغلق .

والواقع انه في عهد النهوض القومي ما كان يبرز هذا السؤال او هذا الخيار بين فريقين كلاهما مصطنع . ويجب هنا ان اقول ان ولادة الفكر القومي الحديث كانت في بعض وجوهها تجربة توفيق بين الفكر الاسلامي التراثي او العصر .

ان ما هو زمني وما هو روحي لم يتحدا في التاريخ الا من خلال النبوآت من خلال النبي محمد الذي حقق في ذاته الوحدة بين النسبي والمطلق ، من هنا ، فقد كانت الثورات الدينية في الماضي ثورات في المطلق . اما الثورات في عصرنا الراهن التي يصنعها البشر فلا يمكن الا ان تكون ثورات نسبية . وحين تطرح هذه الثورات طرحاً اخلاقياً ، يعني ادعاء النبوة ويعني الخروج من اطار العصر والعقل البشري الذي حقق من خلال التطور الحضاري مستوى عالياً من التقدم العلمي ومن النظر المتحرك الى الحياة ومن الرؤية الحضارية الى الوجود .

لذلك بدت ظاهرة تسييس الدين وكأنها نوع من التحكم الخارجي بمقدرات الشعوب والحضارة المستندة الى فهم حي للماضي وليس فهماً جامداً . ان الفهم الحي للماضي وللحاضر معاً ، الفهم الحي لهذا العصر وثقافته ، هو ما نحتاجه ونبغي السبيل اليه .

لقد كانت الدولة العثمانية تطبيقاً لأممية الاسلام وقد ملأت هذه الدولة فراغاً تاريخياً ما ، وسدت الطريق في وجه الغزو السياسي والعسكري والحضاري الغربي . ولكن عجز هذه الدولة عن الاستمرار والصمود في دورها وتحولها الى مساحة للنعرات والعصبيات الطورانية المخططة للاستيلاء على استانبول والدولة فيها ، قاد العرب الى الطريق القومي على انه هو الطريق القادر على توحيد العرب وتحريرهم وابراز دورهم الحضاري .

وهناك من يصور القومية العربية على انها مشروع نشأ لتقويض الدولة العثمانية ، اي دولة الخلافة واكثر ما يرد هذا الرأي على لسان الاسلاميين الذين يحاولون عادة ان يطعنوا في القومية العربية على انها من صنع المفكرين والمسيحيين او الدوائر الثقافية الاستعمارية مفتعلين بذلك تناقضاً مدمراً بين الاسلام والقومية العربية .

ان القومية العربية لم تنشأ في الواقع لتقويض الدولة العثمانية بل نشأت لتأدية الدور نفسه الذي وعدت به الدولة العثمانية وعجزت عن ادائه وهو دور توطيد المنطقة وتحصينها ضد الغرب واظهار قدرة حضارة الشرق الاسلام وهي حضارة عربية الى حد بعيد على منافسة النهوض الحضاري الغربي .

لقد اخذت القومية العربية الراية عن المشروع الاسلامي الذي سبقها وتصدت للمهمة التي تخلفت الدولة العثمانية عن ادائها .

اذن ، كانت ولادة مشروعة للأمة داخل التراث الاسلامي وهي بمثابة توفيق بين قيم هذا التراث ومقتضيات العصر . وقد اقتضت هذه الولادة ان يشتبك العرب بالسلاح مع دولة الخلافة العثمانية . وكان هذا الاشتباك الذي ساقت اليه ظروف الولادة مناسبة لتأكيد التمايز الواضح بين الشخصية القومية للأمة العربية والانتماء للعالم الاسلامي الواحد . ولم يقبل العرب ان يُميع مشروع توحيدي وتحريري ونهضوي في روابط فضفاضة وعاجزة كانت تقترحها عليهم استانبول عاصمة الدولة العثمانية . ولعل القومية العربية مع كون الاسلام هو اصل تقويمها واصل رسالتها ، هي آخر الافكار المعرضة للاتهام بأنها دينية لانها بدأت في العصر الحديث والسلاح في يدها تقاتل دولة الخلافة من اجل تحديد الشخصية القومية .

الاسلام ثورة شاملة استطاع ان يوحد العرب في التوحيد وفي الانسانية من خلال رسالة تجعلهم يشعرون بالمسؤولية عن الازدهار الحضاري بالقيام بواجباتهم لتطوير العلوم والاداب والفنون . ان ما يوحد في الثقافة القومية من ثقافة دينية وتراثية هو اساس في تكوين اصالة الشخصية العربية وقدرتها على الحوار مع العالم من موقع التمثل الحي والتطابق المبدع مع معطيات الزمن الراهن وليس من موقع التبعية او النقل بل من موقع العقل ، من موقع القدرة على تطوير عمل الفكر من خلال منهجية علمية ومن موقع القدرة على النظر الى الدين بمنظار ثوري حضاري .

ان اكتشاف البعد الثوري في الاسلام جعل القومية العربية تطرح انبعاث الامة انبعاثاً روحياً وزمنياً معاً . كما جعلها ترى في الواقع العربي اليوم وهو الواقع الموروث من مرحلة الانحطاط الطويلة ، ان الظاهرة الدينية تحولت الى ظاهرة طائفية . اننا نتكلم على الاسلام كأننا لا نرى غير المسلمين الموزعين على طوائف وهم مطالبون بتجاوز طائفيتهم لكي يعبروا عن وحدة العروبة والاسلام لا ان يغرقوا فيها لكي يهربوا الى عالمية لا يفيد منها الا اعداء العروبة والاسلام في آن .

ينبغي توظيف الجانب الايجابي من الثقافة الدينية في اتجاه عربي قومي معاصر ، اذاك  لابد لهذا الجانب من يتجسد في فكرة شمولية عن الحياة تعبر عنها القومية العربية .

من هنا ، فأن البديل الاسلامي مطروح بصفة كونه رفضاً لواقع القمع السياسي من جهة والهيمنة الحضارية من جهة اخرى . على اننا لابد ان نلاحظ من ان الثقافة الاسلامية متعددة الجوانب على الرغم من استنادها الى اطار مرجعي واحد وما تم امكان للجزم بان الجماعات الاسلامية كلها منطلقة من الخطاب القرآني ، حيث العقلانية والدعوة الى الحوار واليقين العلمي بل ان التيار الوجداني غالب على العقل بوجه عام ، الامر الذي يضع عبئاً ثقيلاً على اولئك الذين يفهمون الاسلام حق الفهم ويرون اليه في نسقه العقلاني وأطره الحضاري . اما ان يكون هذا كله (موجة) وهي الى انحسار ، فذلك مما لا يتفق وطبائع الاشياء فأن تكون نفسك اولاً وان تصدر عن مخزونك العقلي والشعوري وان تسعى لكرامتك القومية وحريتك في ضوء من ذلك .. كل اولئك بدهيات لاجدال حولها ، ولكن ما يمكن ان نتحفظ ازاءه التشويه والانحراف وعدم الوعي او بمعنى آخر (اليقظة الزائفة).

waleedkaisi@yahoo.com

1