26 نوفمبر، 2024 12:49 م
Search
Close this search box.

الكينونة الشعرية في نصوص الشاعر ناجي رحيم

الكينونة الشعرية في نصوص الشاعر ناجي رحيم

كل الذي انجزته هو أنك زدت ليلك ثقلاً ..
رينيه شار
1
هل أقول هذا ما تكونت عليه تجربة الشاعر العراقي ناجي رحيم في مجموعته الشعرية (سجائر لا يعرفها العزيز بودلير) الصادرة حديثاً عن دار مخطوطات، هل أقول هذا هو تكوين الشاعر الذي هو التكوين المتصل المتجدد، لوصح التعبير، وليس التكوين النهائي؟ هناك ربما مغالاة فيما أقول فثمة ملامح شعرية للشاعر قد تحددت بالفعل، أردت أم لم أرد وثمة رؤيا ذاتية محضة أو معرفية شعرية قد تبلورت وإن لم أقل إنها استقرت وجمدت نهائياً، على مستوى الكتابة، هل يمكن القول، خروجاً من هذا الإشكال النقدي، بأن الكتابة الشعرية هي مزيج من الكينونة والصيرورة، من الثبات والتغير، وان بين هذين الطرفين جدلاً معرفياً متصلاً، بتجربة الشاعر، لا ينقطع أبداً؟ لعل هذا يكون أقرب إلى القراءة النقدية المتأملة فالحق أنه لا نهاية ولا حدود للتكوين والتكونن، للتجديد والتجاوز في تاريخ التجربة الذاتية للشاعر أو في تاريخ الكتابة الشعرية نفسها وإلا أصاب هذا النص أو تلك التجربة نوع من تصلب الشرايين الشعري والنقدي معاً ففقد الشعر جماليته مثلما ستفقد التجربة مصداقيتها، أي فقد الشاعر أو النص كينونته المعرفية حتى وأن استمرت في ظاهرها، ولعل هذا هو ما يجعلني أكاد أبصر هذه التجربة الشعرية أو تلك، بمنتهى التأمل والحذر، ولا أكاد أشعر بالحدود النهائية للقراءة النقدية المتصلة بالشعر بتوقفها أو اكتمالها الجمالي ولا أقصد كمالها، ولهذا أقول لنفسي وأنا أقرأ، وسأقرا في قادم الأيام بعض التجارب الشعرية العراقية المغايرة، هذه النصوص وأكتب بصرامة نقدية وبإعداد مسبق لتكون قراءتي مفتوحة ولأغوص فيما هو ثابت ومتغير، فيما هو موروث ومكتسب، فيما هو ذاتي ومعرفي وحسبي أن أحاول أن أكتب على الأقل أو أتأمل بعض التضاريس الفنية المتعلقة بالمعنى الشعري وكينونته، فلعلها تساعد على تحديد بعض المعالم الشعرية الدالة لهذه التجربة أو تلك .
يبدأ الشاعر، من خلال المعنى، بتعريف نفسه شعرياً، أي يبدأ بإرساء الخطوة الأولى الضرورية لكل نص: كيف يرى الشاعر إلى نصه، ما هو مفهومه للمعنى، وكيف يحدده؟ أول ما نلاحظه، في بداية النصوص، هو أن التعريف لم يأت بصيغة ذاتية ملاصقة لألم الشاعر، وهذا الألم يعرف القليل من المعنى حسب تعبير الفرنسي رينيه شار، بل جاء بصيغة الإخبار التي من خصائصها الدلالية الإيحاء بالمعنى، وقد لمسنا هذا الإيحاء من خلال الفعل (استبيح) فالفعل هنا ينقل المعنى إلى القارئ بالصيغة المشار إليها سلفاً وبهذا تكون وظيفة التعريف هي أيضاً وظيفة المعنى الشعري الحاضر في هذا المقطع: (من زاوية لا يرمقني فيها أحد أستبيح المشهد كله) وقد نجد تعريفاً ثانياً، لكن بصيغة المتكلم، أي بضمير الأنا، ذلك أن الضمير هنا هو في واقعه فعل قول المعنى وتمظهره في الدلالة الشعرية لا ضميرأً عابراً أو محشواً داخل الجملة الشعرية، لنقرأ هذا الشطر: (وأنا كومتُ الليل في منفضة سجائري) . واضح أن الشاعر في نصوصه لا ينفي أهمية التعريف ولا ينكر دور المعنى فالنص، الذي يكتبه، في نسقه الخاص هو الذي يبدأ بالتعريف وهذا يعني، أيضاً، أن الدلالة مولدة بالبناء الشعري الذي لا يتحقق بواسطة اللغة فحسب بل بمعية الدلالة والمعنى والرمز أيضاً، وقد لمست ذلك في هذا الشطر من نصه المعنون عن الأمل: (حط سؤالي على منقار غراب) فهذه الدلالة (منقار غراب) التي تولد في البناء الشعري تفيد عن موضوع المعنى وتتوجه بدلالتها الفنية إلى مخاطب وهذا ما يفرض على بنية النص أن يكون وفق نظام معنوي ودلالي وترميزي يُمكّن القارئ من الوصول إلى كنه التعريف المتصل بالشاعر، والتعريف إذاً يجب أن يكون، بحكم البناء اللغوي للنص أو المعنى، قادراً على الوصول إلى مخاطب ثانٍ يقوم بعملية قراءته فينتقل إليه معنى أو مضموناً ذهنياً ومن ثم يمتلك معرفة شعرية بإمكانه أن يقولها في قول له وبذلك يحقق التعريف وظيفته المتصلة، التي هي عملية تواصل معرفي وشعري ولغوي، لنتأمل هذه الالتقاطات المكثفة بالمعنى في نصه المعنون عشبة الهدوء: (حين توغلت إلى العمق/لامست الفضاءات/لامستها علّك تحترف النظر) (مع الصباح تمشط شعرها الأكاذيب تمضي تسائلك عن عشبة الهدوء) (ركنت فراستي على الرف وجلست لأتابع أكاذيب مموسقة) .
يمكننا أن نقول أن الشاعر ناجي رحيم أفترض عناصر للنص تخوله أن يكون نصاً تعريفياً معرفياً أي نصاً يدخل في البنية النقدية المعرفية للقارئ، كما يمكننا أن نعقد علاقة أو ترابط بموضوعة التعريف من جهة والقارئ من جهة ثانية وفق تصور المعنى الشعري أو على مستوى اللغة وبدون هذه العلاقة/الترابط لا يمكننا الوصول إلى ما تريده القراءة النقدية المجردة إذ يؤكد (الجرجاني) على هذا الترابط/العلاقة بين الأنا (التعريف/الشاعر) والآخر (الناقد/القارئ) في عملية القراءة فيقول: (أن لا نظم في المعنى أو الكلام ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض) فهذا الترابط هو الذي يؤكد صحة ما ذهبنا إليه وما كنا نريده من القراءة خصوصاً في هذا النص المعنون قاطرة: (أرّخ لصلبانك/أن العمر خراب/فأنثرْ في قاطرة اليوم نشيدك) وكذلك في هذا الشطر: (حتى في نومي أرتكب أخطاء) وأيضاً في هذا المقطع من نصه المعنون ولادة: (أخيراً في دوامة المرارات التي صنعتني والمرارات التي ضيعتني ورمتني) إذن، المفردات الواردة في هذه النصوص (صلبان/خراب/أخطاء/مرارات) وما يقابلها من الأفعال (أرخ/أنثر/أرتكب) كفيلة بتعريف الشاعر لأنها موجودة في مواضعها المتصلة بالمعنى والدلالة أو بما تقتضيه لغة الشاعر .
2
بالتركيز على التعريف، الذي اشرنا إليه في بداية هذه القراءة النقدية، تحاول نصوص ديوان (سجائر لا يعرفها العزيز بودلير) تلبس ملمح مغاير لموضوعاتها الذاتية، وهو ملمح يبدو موازياً للكشف، حتى في أكثر النصوص قرباً للذات، عن الذات الشاعرة المتشظية بنقائضها وغموضها وتوترها وعزلتها وهو ما يؤكده الشاعر بالإحالة إلى مفهوم المعجزة كما ورد في هذا النص المعنون الجوق: (بمعجزة لا نبيّ لها/مددت يديك إلى احشاء التأريخ مُفرغاً إياه من النباحين القوالين الاوصياء الكهنة السادة) ولعله في هذا التوازي يؤكد على حقيقة عزلته بشكل خاص أو التمعن في أركانها المضاءة بالهوامش والإشارات وإذا كان للعزلة هالة كبيرة فهي في الشعر وهذا ما يستوجب على القارئ تلمسه لا بالتلقي الشفاهي بل بأهمية الهامش وضروراته في قراءة المتن أو استباق المعنى قبل البحث عن الدلالة، إذ يبدأ الشاعر بالمعنى (العالم) وينتهي إلى الدلالة (رأس الأبدية) في هذا المقطع: (ابدأ بالعالم وأنتهي به/مرت الكائنات في كامل أناقتها فالتمع رأس الأبدية) وكذلك في نصه وصايا قديس: (في غابتنا ما أقدس سدنة الخوف أو قوله الابحار في لحم الممنوعات) . والتحرر من الذات المُعرفة هو الهاجس الذي لا يسكن لغة الشاعر ناجي رحيم وهذه ليست مثلبة في الكتابة الشعرية أو التجريب الشعري وقد بين لنا الشاعر في أغلب نصوصه أن الذات في النص الشعري أداة في فضاء المعنى للوصول إلى الدلالة وهذه الأخيرة قادرة على الألمام بما يجري في النص الشعري من تحولات ذاتية مُعرفة قادرة على إدراك تداعيات الذات الشاعرة نفسها، إنها في نفس الوقت صحوة أو غيبوبة الشاعر لمواجهة الخلق، لنقرأ هذا المقطع المعنون اليوم العاشر من عمر الخلق: (لم يكن للوجع من أسم بعد/لم يعرف خواء الأبعاد/لم تلد المسافات سراباً) وكذلك في نصه المعنون لأجلك: (كل هذا الفراغ لاجلك/مساحة الصمت المحنط) وفي سؤاله الوجودي في نصه المعنون اللغز: (لم أنا منكود هكذا؟) . أن الشاعر، هنا، مهما دعا للعزلة فهو غير قادر بنيوياً على احتمالها، لأنه يؤسس نصه، أحياناً، على النزعة التجريدية التي تستدعي بدورها نزعة وجودية مفرطة سوف تؤدي من وجهة نظرنا النقدية إلى المزيد من الافراط في القول الشعري المجرد الذي من شأنه يطرح عالماً شعرياً منعزلاً بفضل تزكية دور العامل الذاتي المُعرف الذي يتيح إقامة منظومات خاصة بالمعايير الفنية التي تهب النص فنيته ولا تحاصره باللغة إلا من خلال الافراط بالذات الشاعرة، وهذا ما لمسناه في نصه المعنون سجائر في رأسي: (مستودعٌ من أخطاء أنا/فكرت أن أمضغ جلد الحيرة وأنسل مثل لص إلى الاحشاء) وكذلك في نصه مسارب: (الرابعة بعد القنينة/سائحاً في رجرجة الكأس/تنبجس في قلبي قصيدة) أو (عن شخير الفكرة وقد نام في عينيها الجمر سأكتب قصيدة) . ويمكننا القول أيضاً في ختام هذه القراءة أن نصوص الشاعر تشير إلى وجود معنى باطن أو مستور يأبى أن ينكشف، وهذا المعنى مثلما يتعلق بتجربة الشاعر سيكون مبعث تساؤل لا عنصر استفزاز للقارئ، ولأنه هكذا أراني أنحو باتجاه فضّ سؤال القراءة النقدية على ما هو ظاهر في التعريف أو في الكتابة الشعرية ودورها في تعبئة الذات بالمعنى وبما تحوزه الدلالة، أيضاً، من شذرات حياة أو تجربة عاشها الشاعر بنفسه أو حياة نعيشها جميعاً أفراداً وكتاباً وقُرّاءً، فإن أية إجابة يُمليها القارئ أو الشاعر عن أي سؤال ذاتي إنما هو إقحامٌ فجٍّ على النص الشعري وتدخل سافر من قبل القارئ المطالب بحصته في المعنى والكتابة وهذا يختلف عن القارئ الباحث عن ذاته أيضاً وأسئلتها داخل الفضاءات المختلفة للنص الشعري .

هوامش:
1ـ أسرار البلاغة/عبدالقادر الجرجاني/القاهرة 1932
2ـ أسكن في رحم وجع/شعر/رينيه شار ملف من إعداد وترجمة آسيا السخيري
3ـ سجائر لا يعرفها العزيز بودلير/شعر/ناجي رحيم/دار مخطوطات 2013

أحدث المقالات