في الرابع من يناير/كانون ثاني 1980، اعلن الرئيس الامريكي جيمي كارتر، انه استجاب لتوصية مجلس الامن القومي الامريكي، بضرورة تقديم المعونة الى الشعب الافغاني في مقاومة “حكومة ملحدة معادية للشعب المسلم”!
واعلن ان الولايات المتحدة ستقاطع الألعاب الأولمبية التي ستقام قريبا في موسكو.
ولم تمض غير بضعة ايام على كلمة كارتر، حتى أوفدت الادارة الاميركية ابرز خبير في مكافحة الشيوعية الى باكستان ، المفكر الاستراتيجي، بولوني الأصل زبيغنيف بيرجينيسكي، صاحب المؤلف الشهير (بداية ونهاية الشيوعية) الصادر عام 45 من القرن الماضي، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ؛وهبوب رياح الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفيتي والغرب.
فبعد خمس سنوات من خاتمة الكابوس الفيتنامي ،الذي ظل يقض مضاجع استراتيجي البنتاغون، دون ان يجرؤ احد منهم على اعتبار غزو فيتنام خطا قاتلا؛ صرح بيرجينيسكي اثر سماع نبأ الدخول السوفيتي :”أصبحت الفرصة مؤاتية اليوم لإعطاء السوفيت كابوسهم الفيتنامي”
واضاف ” اطلقنا أولى الخطوات في الحرب الباردة”.
وعلى وجه السرعة وصل بيرجينيسكي الى إسلام آباد،والتقى رئيس وزراء باكستان آنذاك محمد ضياء الحق، وتوجه نحو نقطة ميتشي الحدودية، ومد بصره نحو افغانستان من معبر خيبر الحدودي، واشار بسبابته الطويلة النحيلة كأنامل عازفي البيانو المحترفين، الى الحدود مخاطبا جمعا صغير ا من الملتحين ، واضح انهم جمعوا، لأغراض التصوير، وبملابس رثة ونظرات تائهة.
خطب منتقيا العبارات بدقة:
” تلك الارض هي ارضكم ستعودون اليها وتستعيدون منازلكم ومساجدكم ”
على الضفة الاخرى من خيبر؛ كانت الاستعدادات تكتمل لتأسيس جيش من “المجاهدين “، تدفقت عليهم الأموال الخليجية، وجرى افتتاح مكاتب للتبرع ، ليس فقط في بلدان الخليج العربي، بل في اوربا والولايات المتحدة؛ التي بدت وكأنها خادم الحرمين و سادن أولى القبلتين وحامية حمى الاسلام!
كانت الثورة الايرانية ثبتت اقدامها في الجوار الافغاني ؛على انها دولة ولاية الفقيه بعد ان صفى اية الله خميني؛ جميع القوى السياسية الايرانية العلمانية والليبرالية والإسلامية المعتدلة؛ من بينهم (حزب تودة )الشيوعي، ومجاهدي خلق، وكل التيارات التي فجرت،وقادت الثورة ضد نظام الشاه، محمد رضا بهلوي ليتصدر مشهدها،والى اليوم الولي الفقيه وورثته.
حين استولت مجموعة صغيرة من الضباط الأفغان الأعضاء في الحزب الديمقراطي الافغاني؛ذوي الميول الشيوعية ، في نيسان/ ابريل 1978، على السلطة في كابل، لم يكن الكرملين على علم بالحركة، ولم يعترف بحكومة الانقلاب على حليف موسكو محمد داود خان، الا بعد مضي شهور.
كما لم تكن الولايات المتحدة، مشغولة تماما بالتطورات في افغانستان.
لكن الاستخبارات البريطانية والاميركية، كانت خلال هذه الفترة، تتلقى معلومات متواترة عن مدى قوة وتغلغل الشيوعيين واليساريين في ا الأحداث التي تمور بها ايران.
واتخذت قرارها النهائي، ليس بعيدا عن توصيات الاستراتيجي اللامع زبيغنيف بيرجينيسكي، بالعمل العاجل والسريع لدرء خطر وصول الشيوعيين الموالين لموسكو الى سدة الحكم في ايران. وتفضيل الملالي الذين وان كانوا لا يبادلون (الشيطان الأكبر) المودة الا ان وصولهم سيمثل سدا منيعا بوجه (الشيطان الأصغر) وفق التصنيف الخميني .
كانت خشية صناع القرار في واشنطن والغرب كبيرة من وصول نظام حكم علماني الى احد اهم المناطق الجيوسياسية للمصالح الامريكية في العالم. واهمها بالمطلق في منطقة الخليج العربي .
كان عميل جهاز امن الدولة السوفيتية( كي جي بي )المسؤول عن العلاقة مع الشيوعيين الإيرانيين،والحزب الشيوعي العراقي، جاسوسا مزدوجا، يعمل في الظاهر لصالح موسكو. و في ذات الوقت، يبعث بتقارير تفصيلية عن نشاطات تودة وحلفائه اليسارين الى المخابرات الامريكية.
لقد تكشفت الحقيقة، حين فر الى بريطانيا أواخر العام 1982؛فلاديمير كوزيشكين وطلب اللجؤ السياسي وكشف عن جوانب من شبكة الجواسيس السوفيت في ايران ، وليتضح لاحقا ايضا ان المعلومات التي كان يقدمها كوزيشكين الى (السي اي ايه) ، كانت الوكالة تتقاسمها مع الى اية الله روح الله خميني في إطار سعي واشنطن للقضاء على النفوذ السوفيتي في ايران.
وبات مفهوما، بعد فرار العميل، لماذا طرد الخميني عشرات الدبلوماسيين السوفيت من طهران، واعدم مئات الشيوعيين، واجبر قيادة (حزب تودة )وعلى رأسها بهاء الدين كيانوري للاعتراف امام عدسات الكاميرات؛ بان الحزب كان يخطط لانقلاب عسكري على قيادة جمهورية ايران الاسلامية وان حزب تودة عميل للسوفيت.
ولم يمضى على انتصار الثورة الايرانية، التي لقبت بالإسلامية، بضعة أسابيع حتى بدأت جمهورية الامام الفقيه، تاكل ابناء الثورة، وتتخذ إجراءات معادية للاتحاد السوفيتي.
ليس مستبعدا ان تكون الأحداث التي عصفت بايران، وتوقعات النخبة الحاكمة في موسكو بان الدولة السوفيتية ستحاصر في خاصرتها القوقازية الرخوة باعداء يرفعون شعار الثورة الاسلامية؛ وراء القرار غير المدروس الذي اتخذه ليونيد بريجنييف؛بالدخول الى افغانستان، والتورط في حرب استمرت عقدا كاملا أدت فيما أدت الى انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومع ان الأبحاث الروسية وتصريحات القادة السوفيت في تلك السنوات، تركز على مسؤولية بريجنيف،وعضوين اخرين في المكتب السياسي باتخاذ القرار.
بيد انه لا احد يعرف على وجه الدقة من هم الذين نصحوا كهول المكتب السياسي بزج القوات السوفيتية في بلد،عجز البريطانيون على مدى قرن في احتلاله.
معروف ان المكتب السياسي، يستأنس بوجهات نظر المستشارين في القسم الدولي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، احد اهم وأوسع الأقسام في المؤسسة الحزبية آنذاك وتضم ألوف المستشرقين والمستعربين والخبراء بالشوون الدولية،بينهم المئات ممن عملوا في بلدان الشرق الاوسط بغطاء دبلوماسي.
ولعدة عقود كان الكسندر ياكوفلييف، في قيادة القسم، قبل ان يصبح سفيرا لموسكو في كندا.
وحين اطلق ميخائيل غورباتشوف العنان لما عرف ” بريسترويكا” اي اعادة البناء تصدر ياكوفلييف و ادوارد شيفردنادزة ، الحملة، ودفعوا الدولة السوفيتية نحو التفكك، ومنح جمهورياتها حق الانفصال والاستقلال.
وجرى حظر الحزب الشيوعي الذي تحول في السنوات الاخيرة من حكم بريحنيف والقادة الكهول الى الة ضخمة لكنها عاطلة.
ومارس ادوارد شيفرنادزة ،الذي عينه غورباتشوف وزيرا للخارجية، منذ انطلاق عملية بيريسترويكا كل ما من شانه تحجيم دور روسيا على الساحة الدولية والانسياق مع السياسة الامريكية تحت شعار القيم الانسانية المشتركة.
اي التنازل عن الخصوصيات القومية والأيديولوجية لصالح التوافق والانفراج الدوليين.
لم يكن احد يتصور حينها، ان موسكو التي خرجت من افغانستان مثخنة الجراح شتاء العام 1989 ، كانت تغفو على حفنة من عملاء التأثير( агент влияния – agent of influence ) الذين يتلقون أوامرهم ليس من الكرملين بل من البيت الابيض و10داون ستريت .
انهم ليسوا جواسيس بالسياق التقليدي للجاسوسية، إنما يتحكمون بصناعة القرارات ، ويسوقون أكثرها سوءا، ويستغلون نفوذهم في تعطيل الأداء الناجع لمؤسسات الدولة.
وهكذا..
فبمناسبة اليوبيل الخامس والعشرين لانسحاب القوات السوفيتية من افغانستان، وكان ذلك في عام الألعاب الأولمبية التي استضافتها روسيا، واعدت مهرجانات واحتفالات مبهرة، ضاع في زحام الأحداث الرياضية، فلم وثائقي أعده وأخرجه، احد ابرز الصحفيين الروس ؛ اندريه كوندراشوف، الذي يشغل حاليا منصب نائب مدير شبكة قنوات التلفزيون الروسي الفدرالية.
يعرض الفلم على مدى ساعة ونصف، عشرات المقابلات مع المشاركين في الحرب الافغانية؛ الضباط والجنود والقادة والساسة، وعملاء المخابرات الاجنبية المسرحين، ورجال الاستخبارات السوفيتية الذين شاركوا في اخطر العمليات السرية داخل افغانستان وحولها بمن فيهم من قام بتصفية الرئيس الافغاني حفيظ الله امين، الذي اكتشف الكرملين انه يتعامل مع الأميركان،او هكذا تقول الروايات الرسمية.
بين هذا الحشد النادر من الشهود على الأحداث وصانعيها، التقى الصحفي مع قادة بارزين بين صفوف” المجاهدين” اي مع قادة ” الدوشمان” من بينهم احد ابرز القادة الميدانيين الافغان، الساعد الايمين لاهم رجالات تلك الحقبة، احمد شاه مسعود، الذي يلقبه ” المجاهدون” “بأسد بانشير” نسبة الى وادي بنفس الاسم ، استعصى على القوات السوفيتية ، اقتحامة، بفضل
استماتة ” مجاهدي” مسعود في الدفاع عنه.
ادلى جلال الدين مكمل، بشهادة صادمة في الفلم الوثائقي، حين كشف عن ان احمد شاه مسعود؛ كان سنوات المقاومة ضد القوات السوفيتية، يتلقى معلومات من اعلى القيادات في موسكو، وانه بفضل تلك المعلومات، تجنب “المجاهدون” معارك كانت ستوقع في صفوفهم خسائر فادحة.
ابلغ جلال الدين مكمل، التلفزيون الروسي الحكومي ، الذي شدت شاشاته المواطنين بالألعاب الأولمبية ؛ بالحرف:
” كان الشهيد احمد شاه مسعود على اتصال مع وزير الخارجية ادوارد شيفردنازة، ومع الجنرال جوهر دودايف، (احد قادة فرق الدفاع الصاروخي العاملة في افغانستان)، ومع رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية في كابل وعدد من رؤساء الجمهوريات السوفيتية”.
واضاف :
” تصلنا المعلومات قبل شن الهجمات ، فتختفي تحت الارض، ثم نعود بعد القصف وهكذا”.
وقال:
” هؤلاء ساعدونا لانهم يتمنون انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال الجمهوريات السوفيتية عن روسيا”!
يتبع …