23 ديسمبر، 2024 7:13 م

الزيارة الثانية لبغدا د.. لا توقظ الموتى

الزيارة الثانية لبغدا د.. لا توقظ الموتى

هذا الصباح الباكر أفزعني صوت الهاتف، مما أفسد علي متعة ليلة أمس الصاخبة، ” أمي ماتت قالها أخي وأغلق السماعة”، جاء صوته من الاقاصي كالصدى في أرجاء البيت، أو كالحلم، ما أن أنهيت المكالمة، شعرت بجسدي ليس لي، قشعريرة وبرد قارس انتابني، صداع في الرأس لا أعرف مصدره، هل هو من ليلة أمس الصاخبة أم من سماع خبر موت أمي؟ وحدي بكيت كثيرا على الوسادة.
من منفى إلى منفى وصلت بغداد، انها الزيارة الثانية لبغداد. صعدنا السيارة باتجاه مدينة النجف. لا يحتاج مناسبة الذهاب إلى المقبرة، الطريق مفتوحة، والأبواب مشرعة، لا تخلو المقبرة من المارة، المكان في أنتظار دائم لزائراً أو ميت جديد.

ربيع 2005
 في منتصف النهار تحت أشعة الشمس الحارقة، تسللت الحرارة إلى جسدي، ريح حارة تنبعث من نافذة السيارة. رمال متحركة وضل شجيرات بائسة تزين الشوارع وتترك ضلً مكسوراً. دخلنا مقبرة وادي السلام الكبيرة، – أي سلام هذا- ؟، أومدينة الموتى كما يحلو لأخي تسميتها، قال أخي “نحن موتى ولكننا نمشي في المقبرة وهم نائمون”. استعلامات المقبرة كانت في استقبالنا، حفار القبور قادم الينا بوجه دون تعبير يعتمر كوفية، يرتدي دشداشه بيضاء ملطخة ببقع سوداء، صافحنا بحرارة، يثرثر كثيرا، مشى أمامنا، يحفظ طريق المقبرة عن ظهر قلب كأنه يحفظ قصيدة كلاسيكية طويلة ومملة. ارهبني صمت المقبرة المطبق، الريح تعصف بنا، تصدر صوتا مخيفا قادما من طريق بلا نهاية، اننا هنا أمام ممرات ضيقة، غبار طريق في الشوارع المتربة، محاصرون نحن بالقبور والبكاء والنحيب، اشعلتُ سيكارة وأتأمل القبور، موتى غارقون في نوم عميق، يحتضنون اسرارهم  وأحلامهم، في الجهة المقابلة لافتات سود، نساء يتشحن بالسواد، يبحثن عن القبور، شارات، علامات خضر، أسماء، القاب، عناوين، قبور بلا أسماء ولا زائرين، لطلم وبكاء، صوت نعي وصراخ نساء يأتي من بعيد، يختلط مع صوت المؤذن، كلب يعوي، بخور، أزهار ذابلة، أعقاب سيكائر، آثار أقدام شواهد على الغياب، أسماء منسية، واخرى مهمله، حفار قبور اخر يقود مراسيم دفن مهيب، منتشي بضيفه الجديد، تذكرتُ حينها مشهد هاملت في المقبرة، وهوة ينبش التاريخ. عظام بارزة من فتحة القبر المقابل، قبر منبوش من الكلاب، واخر مثلوم، “امشي بهدوء لا توقظ الموتى، قال أخي الصغير، ثم اضاف: صحيح ان الموتى يتسامرون فيما بينهم حين يحل الظلام؟”.

 صور الغياب
أسماء، أسما، وأسماء، الموتى عبارة عن أسماء فوق القبور أواللافتات، قراتُ أسماء كثيرة وأنا أتصفح القبور، رأيتُ صور قديمة، رسوم وخربشات أطفال حديثة، ذكريات، ملابس رثة، ملابس عروس معلقة على قبرما، منمنات وزخاف زينت واجهة القبور الكبيرة. لون ترابي هو لون المقبرة،”قبورنا رمادية قبورهم بيض”،  “من هم”؟ قاطعني أخي، الهولنديون  قلت له،: حين تدخل مقبرتهم تشعر كأنك في نزهة، لونها أخضر، نهر “أمستل” يمشي بجانب المقبرة، أصوات الطيور، فراشات ملونه تحلق فوق القبور، شمس تلمع على واجهة القبور، موسيقى، زهور ملونة واشجار في كل مكان.
زجاجة نبيذ فارغة تتدحرج أمامنا متروكة من جلسة  ليلة أمس الخمرية، لا أعرف كيف يشرب النجفيون الخمرة وسط القبور؟، أكياس نايلون فارغة تربك مسيرنا، اوراق قديمة كأنها رسائل الموتى المهملة، قطرات دمع يابسة عالقة على حافة القبر، صراخ، عويل أطفال ونساء، نمل يسير بأمان بجانب القبر يحرس الموتى، رجل عجوز يحتظن الفانوس في ضوء النهار، يسعل ثم يبكي، يندب حظه العاثر، وينظر نحو السماء بغضب، يصرخ ويقول: لماذا يالله؟ انه أبني الوحيد”. امرأة عجوز واهنه ترش القبور بالماء، تبكي، تغرس اصابعا في الأرض وتهيل التراب على رأسها، تواصل طقسها مع أبنتها الصغيرة، كل يوم جمعة هذا ما أخبرنا به حفار القبور.

حلم في المقبرة
 أحلام، أحلام، وأحلام، مرسومة على خوذة جندي يتأرجح في الفضاء، على ازياء قادة عسكريين، عشاق، رجال دين، سراق، لصوص. حمامة ميتة، حفرة هنا، ميت هناك، ليس ثمة فسحة للأمل في هذا المكان، هذه هي المقبرة، انها أشبه بالمتاهة ليس هناك جهات اربع للمقبرة، كأنك تدخل المجهول.” الله وأكبر حتى في العيد نزورالمقبرة”، قالها اخي بلغة يائسة ” قاطعنا حفار القبور “في هذه الجادة على مرمى من حجر قبر أمكم” ، وقفت بكل وقار طويلا أمام القبر، تأملته ملياً، قفز قلبي من مكانه، وأنا اتكسر مثل كسرة خبز يابسة، انحنيت عليها سقطت نظارتي، طفرت دموعي، تحسست القبر، حضنته، شممت التراب، رأيتُ نملة نائمة على القبر، تخيلتُ أمي تتحدث معي عن المنفى، الزواج والمستقبل. انفجرتُ بالبكاء، حاولتُ أن أقتلع القبر وأخذه معي، صرختُ استقيظ جميع الموتى على صوتي. تسللتُ من بين القبور بأتجاه صوت مكتوم وآنين محموم، رأيتُ شابا وسيماً جفت مآقيه من الدموع  يأتي كل اسبوع لزيارة خطيبته التي ماتت آثر انفجار في بغداد، أمامه زهور، بخور وشموع، في الاسبوع الماضي أقام هنا في المقبرة حفلة عيد ميلاد لوحده مع قبر حبيبته” نام بجانب القبر يحلم بها.

المغادرة
غادرنا المقبرة ملوحين بايدينا اليهم، تاركين خلفنا دموعنا واسئلة كثيرة بعدد القبور، وثمة غصة كبيرة في القلب. صعدنا السيارة متجهين إلى بغداد، قال أخي ” ان الله لا يحب الفرحين” ضحكت كثيرا وأنا أتطلع إلى شعاع الشمس وهو يعكس ضوءه على زجاج النافذة الامامية، الشمس ذهبت خجلة الى عرشها، يلفها النعاس، رأيتُ صورة أمي في ظل الشمس ترتسم على الزجاجة الأمامية للسيارة، أقتربت منها، حاولت الامساك بها، لكنها توارت مع الشمس.
صمت طويل بيننا وعذاب الذكريات، صمت ورهبة المقبرة يلاحقنا،  بقيت صورة أمي شاخصة أمامي، وأنا أحلم بصورتها على النافدة الامامية . وصلت أمستردام، أتصفح البوم الصور أبحث عن صورة أمي الغائبة وجميع صور الموتى. لم يعد هناك شمس ولا صور.

*فنان مسرحي يقيم في أمستردام