كالعادة إنقسم العراقيون الى مؤيدين لعدم مشاركة العراق في مؤتمر وارشو، ومعارضين لعدم مشاركة العراق فيه، ويمكن تصنيف المجموعة الأولى بأتباع النظام الإيراني بشكل خاص، والمجموعة الثانية بالمجموعة المؤيدة للبيت الأبيض، بشكل عام، وهناك مجموعة ثالثة تضم عراقيين يرفضون التواجد الامريكي والإيراني على حد سواء على الأراضي العراقية، وهؤلاء لا يمكن ان نعتبرهم من المناصرين للموقف الأمريكي، لكنهم يجدون ان العراق كان من المفروض أن يشارك في المؤتمر لتقديم وجه نظره عن الأوضاع في الشرق الأوسط، على إعتبار انه معني أساسا بالموضوع من جهة، ولكي يناصر القضية الفلسطينية من جهة ثانية، على إعتبار ان هذه القضية هي المحور الثاني للمؤتمر بعد محور الإستقرار في الشرق الأوسط.
بقي موقف العراق غامضا حول عدم المشاركة في مؤتمر دولي يضم أكثر من (60) دولة تترأسها الولايات المتحدة الامريكية والدول الأوربية وعدد كبير من الدول العربية والأجنبية، يحمل شعار” دعم مستقبل سلام وأمن الشرق الأوسط”. وهذا يعني انه أما العراق ليس جزءا من الشرق الأوسط، أو أنه غير معني بالسلام والأمن في المنطقة، او انه يرى بأنه لا فائدة من حضوره على أقل تقدير، دون أن يوضح للعالم والعراقيين سبب عدم حضوره. سيما بعد أن أعلن وزير الخارجية الأمريكي (مايك بومبيو) بأن ” الولايات المتحدة تهدف من خلال مؤتمر وارسو إلى جمع الدول التي لها مصالح مشتركة في المنطقة. وأن مؤتمر وارسو يؤسس للعمل المشترك لمواجهة التحديات والأزمات في الشرق الأوسط، فنحن نسعى إلى تأسيس شراكات عديدة خلال مؤتمر وارسو”.
الغريب في الأمر ان الإعلام العراقي الديمقراطي جدا لم يغطي المؤتمر رغم أهميته، بل لم يشر او يعلق على مجرياته كأن الأمر لا يعنيه، والأغرب منه عندما حاولت بعض وسائل الإعلام العراقية غير الرسمية إستضافة نواب وسياسيين ومحللين لإلقاء الضوء على الموضوع، رفضوا بالإجماع الإستضافة، وهذه أول مرة في تأريخ العراق الجديد يتم الرفض بالإجماع، أما السبب فهو ما سنبينه لاحقا.
الحقيقة انه لا الحكومة العراقية قدمت تفسيرا توضح فيها للشعب العراقي سبب عدم المشاركة، ولا وزارة الخارجية بإعتبارها الطرف المعني بالمؤتمرات الدولية قدمت بيانا توضح فيه وجهة نظر العراق في عدم المشاركة، مع ان الدلائل لا تخفي على اللبيب والمتفهم للقوى التي تحكم العراق. وأعتقد انه لو كان وزير الخارجية السابق المهووس إبراهيم الجعفري الآن وزيرالها، لأعلن صراحة ان السبب هو “عدم موافقة ايران على مشاركة العراق في المؤتمر”، وأنهى الموضوع، وربما بطريقة اكثر دبلوماسية ” إننا نتضامن مع الموقف الإيراني”. وفي كل الأحول ان الكشف عن الأوراق أفضل من تخبأتها عن عيون الشعب، ويبدو ان قاعدة (الشعب العراقي آخر من يعلم) ما تزال نافذة الصلاحية في حكومة عبد المهدي، وهذا الأمر وغيره يعكس عدم احترام الحكومة للشعب، اما البرلمان فهو غارق كما يبدو في نوم عميق، بعد إنتهاء الفصل التشريعي الذي لم يشهد تشريع قانون واحد فقط.
الدول التي رفضت المشاركة هي المتحالفة مع ايران، اي روسيا والصين وتركيا والعراق وقطر وفلسطين، وهذا المحور لا يمكن ان يكون بمستوى محور الحضور في المؤتمر، بل ان هذه الدول لها مواقف متعارضة فيما بينها، وابرز شاهد على ذلك تواجدها في سوريا، والصراعات فيما بينها.
حاولت بعض الأطراف السياسية ان تقلل من أهمية المؤتمر بما فيهم مسؤولين من الولايات المتحدة (المعارضون لسياسة ترامب)، ونواب ومسؤولين اوربيين وعرب مدفوعي الأجر، لكن مشاركة اكثر من (60) دولة تضم أبرز دول العالم تفني هذا الزعم، وتزعمت كالعادة قناة الجزيرة الموالية لإيران حملة كبيرة ضد المؤتمر وإستضافت (كل من هبٌ ودبٌ) ليعلن عن فشل المؤتمر قبل بدأ أعماله او ظهور جدول اعماله للملأ. ان المحلل السياسي الذي يستبق الحدث بتهور وتطرف انما هو يشوه الحقيقة، او انه مأجور لجهة ما.
حاول البعض ان يقدم تبريرا تافها حول عدم مشاركة العراق في المؤتمر بأنه ” كيف يجلس الوفد العراقي مع الوفد الإسرائيلي؟”، ولكن العراق يجلس مع الوفد الإسرائيلي في المحافل الدولية ومنها مجلس الأمن، ومنظمة الطاقة وغيرها، بل ان اماكن جلوس وفود العراق وايران واسرائيل متقاربة لأنها تبدأ بحرف (آي) بمعنى عراق، اسرائيل، ايران على التوالي، وهذا التقارب لا يعني بالضرورة إتفاق الرؤى السياسية.
لو أطلعنا على التصريحات الإيرانية التي سبقت عقد المؤتمر سنفهم سبب عدم مشاركة العراق فيه، قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسات الخارجية في البرلمان الإيراني (شمت الله فلاحت بيشه) إن ” المؤتمر الذي تستضيفه بولندا، ما هو إلا هجوم جديد من القوى الغربية ضد إيران يشبه مؤامرة داعش، فمؤتمر وارسو الذي ترعاه الولايات المتحدة هو فتنة جديدة تهدف إلى تركيع إيران”. وصرح أمين مجلس الأمن القومي الإيراني (علي شمخاني) إن رعاية واشنطن لمؤتمر ضد إيران تعني فشل سياسة العقوبات الأقسى في التاريخ، وتدل علي العجز واليأس. ومن يقول نفرض العقوبات الأکثر صرامة ثم يلجأ إلى عقد ندوة ومؤتمر فهذا يعني أنه عجز وفشل في أمره”. وكان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وصف المؤتمر في تغريدة على تويتر بأنه تعبير عن اليأس السياسي. مشيرا إلى أن إيران أنقذت حياة مواطنين بولنديين خلال الحرب العالمية الثانية، وقال إن وارسو، رغم ذلك، تسمح الآن بمثل هذه الفعاليات المعادية لإيران.
إذن وصفت ايران المؤتمر بأنه عملا عدائيا ضدها، فهل من المتوقع ان تشارك حكومة العراق التي يديرها الجنرال سليماني في عمل عدائي ضد ايران؟ بمعنى ان النظام الإيراني هو الذي أمر ولا نقول وجه حكومة عادل عبد المهدي بعدم المشاركة في المؤتمر.
ولو قارنا بين حضور العراق وعدم حضوره في ميزان المصالح الوطنية العراقية العليا، لوجدنا ان كفة المشاركة تُرجح على كفة عدم المشاركة للأسباب التالية.
1. يرتبط العراق بعلاقات إقتصادية كبيرة مع النظام الإيراني تتجتوز قيمتها (12) مليار دولار سنويا، وان تشديد الحصار او ما ينجم عن المؤتمر ضد ايران سينعكس على العراق حتما سلبا او ايجابا.
2. يمثل حضور العراق فرصة ذهبية لتبيان رأيه للعالم بأنه بحاجة الى بعض السلع والخدمات الإيرانية، ولاسيما الكهرباء والغاز وغيرها، وكان بإستطاعته ان يرمي بكرة تبريراته في الملعب الدولي، ويطالبهم بمساعدته كي يستغني عن ايران، ويساهم بشكل فاعل في فرض الحصار(ظاهريا بالطبع وليس حقيقة)، والا فأنه لا يمكن ان يترك وحيدا ويُطلب منه ما هو فوق إمكاناته، سيما ان الشعب العراقي بلغ حد اليأس من عدم توفر الكهرباء.
3. من أهم محاور المؤتمر الإستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الموضوع يخص أربعة اطراف عربية على وجه التحديد هي العراق وسوريا وفلسطين واليمن. لذا لا يمكن قبول ان تبرير في عدم الحضور، لأن العراق معني بالأمن وهو الذي تحمل العبء الأكبر في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي.
4. يمثل المؤتمر فرصة ثمينة للعراق لكي يوضح للعالم الدمار الذي تعرضت له مدنه، ويطالب دول العالم بمساعدته لإعادة تعمير مدنه، أو على الأقل يطلب درج بند المساعدات لإعادة التعمير في جدول أعمال المؤتمر.
5. سلط الإعلام العراقي المسيس والعربي الموالي لإيران الضوء على فقرة واحدة وهي ان المؤتمر يهدف الى تشديد الحصار على النظام الإيراني، متجاهلا نقاطا مهمة جدا وهي أن المؤتمر أطلق مجموعات وورش عمل متنقلة في عدة دول في الشرق الأوسط، للنظر في قضايا المساعدات الإنسانية واللاجئين والأسلحة البالستية ومكافحة الإرهاب والجريمة الإلكترونية، وهذه الورش تخص العراق سيما موضوع اللاجئين العراقيين الذين يتجاوز عددهم (3) مليون. ومكافحة الإرهاب والجريمة، بمعنى ان جميع الملفات تمثل أولوية للعراق.
6. طرح الوفد الأمريكي دور النظام الايراني في زعزعة الأمن والإستقرار في المنطقة من خلال مشاركة الحرس الثوري او الميليشيات التابعة لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وخلص الى ان إيران هي الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم، ولم تعارض اي دولة او وفد من الحضور هذا الرأي، اليس هذا الأمر يجب ان يكون موضوع إهتمام النظام الإيراني والدول المتحالفة معه؟ عندما ترى (60) دولة في العالم ان النظام الإيراني ممول للإرهاب وعامل رئيس في زعزعة الإستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، الا يعني هذا أن اي نظام حاكم يقف مع ايران هو بالنتيجة يرعى الإرهاب في المنطقة؟
7. العراق هو المعني الرئيس بكل النقاط التي يتداولها المؤتمر وغيابه عنه يعني تجاهلا واضحا لأهميته في المنطقة، بمعنى انه يعمل على تقليل دوره في المنطقة، ويوضح للعالم بأنه عامل غير فاعل في فرض الأمن والإستقرار في المنطقة.
8. هذا المؤتمر يمثل نجاحا كبيرا لمنطمة مجاهدي خلق وقوى المعارضة الإيرانية، في كلمة متلفزة لزعيمة المعارضة الإيرانية السيدة مريم رجوي دعت فيها المجتمعين في مؤتمر وارسو إلى العمل من أجل تغيير نظام الملالي في طهران، عبر الاعتراف الدولي بالمقاومة الإيرانية وتشديد العقوبات على الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية لهذا النظام، وإحالة الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها بحق الشعب إلى الهيئات الدولية.
الحقيقة مهما بالغ النظام الإيراني في قوته وقدرته على المواجهة والتحدي، وامكانية تحمل ضغط الحصار المفروض عليه، لكن كل المؤشرات تبين ان النظام الإيراني بات قريبا من حافة الهاوية، فالتذمر الشعبي داخل ايران وصل الزبى، والمعارضة الإيرانية تستقطب إهتمام معظم دول العراق، وباتت تحقق قفزات كبيرة في النجاح داخل ايران وخارجها.