في يومٍ من الأيام طرح أحدهم عليّ سؤالا، فقال: ما الفائدة من الصلاة؟ وما الفائدة من عموم العبادات، مثل الصوم خاصة، وواضح أنه تعذيب للجسد وتعريضه للعطش والجوع؟!
استفزني هذا السؤال في حينه بوصفي متديناً، وحاولت أن أجد جواباً علميا لكوني أكاديمياً وأنتمي لساحة المثقفين المتحررين من الخطاب السلطوي أياً كانت جهته، وعبثاً كنت احاول؛ لأنني تنبهت على أن هكذا سؤال على أهميته لم يطرق يوما مخيلتي، ولم اسمع صوته بأذني، وخاصة عند تذكر أوقات تعلّمي للصلاة والعبادات الاخرى، فأرى أنني تعلمتُ الصلاة لأنني مسلم في مجتمع مسلم، والصلاة هوية انتسابي للدين، اما الصوم مثلا فهو يكاد يكون طقسا اجتماعياً، إذا حضر زمانه رأيت الناس تتحضر له ولاستقباله خاصة على مستوى شراء متطلبات إعداد موائد الطعام، وما يتعلق بها، هذا ما كان موجودا بذاكرتي، وليس هو بجواب مقنعٍ لمن قرأ وتنوّر وراح يتعامل مع ما يحيط به تعاملا نفعياً (براغماتياً).
لم أنتبه في حينها على أن الصلاة هي عمل النفس الانسانية الذي يشابه تماما عمل البدن وحركته في هذا العالم، فالصلاة للنفس في عالمها كالحركة للبدن في عالمه، فأنت لا تسأل: ما فائدة الحركة للبدن في هذا العالم؟ لان الجواب يسير وقريب وبديهي، إذ الحركة تعبير عن حياة الجسد وصحته وسلامته، كذلك الصلاة للنفس هي تعبير عن حياتها وصحتها وسلامتها في عالمها، خاصة اذا علمنا أن النفس من عالم لم يُعْصَ الله سبحانه فيه طرفة عين، اي هي من عالم الطاعة والعبادة، وبما إن الانسان ليس مخلوقاً أرضيا في نشأته الأولى، وإنما هو سماوي، وجاء إلى هذا العالم الأرضي ليؤكد هيمنة السماء عليه، وليقيم كلمة السماء عليه ويرفعها فيه، نلحظ انه مخلوق مركّب من نصف سماوي هو صاحب القرار والتدبير وهو النفس، ونصف أرضي متوائم مع متطلبات الحياة الارضيّة وهو الجسد، ولذلك نقرأ في نصوص اهل البيت(ع) انهم قالوا: ليس منا من ترك دنياه لآخرته، وليس منا من ترك اخرته لدنياه.
ولم أكن أفهم الذي افهمه الآن من هذا القول الحكيم، بالمجمل كنت أفهم أن عليّ أنْ استمتع بحياتي المادية بصورة لا تتعارض مع حياتي الأخروية، ومن ثم لابد من التزام التشريع الديني لأنه يضمن لي الوسطية والاعتدال ما بين الأمرين، أكثر من هذا لم أكن افهم، على الرغم من أنّ سؤالَ الرجل لم يغادر ذاكرتي، بل ولعله يحاصرني في أحيان كثيرة بحثاً عن جواب يقنعني أنا أولاً؛ كي أستطيع إقناع الاخر، أو لا أقل أنّ جوابي سيغادر ساحة السذاجة التي تبدو في ردود المتدينين إذا ما سألهم أحد عن فائدة الأعمال العبادية التي يؤديها الفرد من دون مردود مادي يحصل عليه؟!
عموم المتدينين سيجيبون بهذا الجواب المحفوظ من القران الكريم بلا تدبر ولا فهم: إنْ أجري إلا على الله!
ويتجاهلون بغرابة عجيبة أنّ هذا الجواب حكاه القران على لسان نبي، بمعنى أنّه جواب يخلو من السذاجة تماما، بينما استعارتهم للجواب في هذا الموضع لا تخلو من السذاجة مطلقاً!
النبي يُجيبُ بذلك لمن يسأل: لماذا تؤدي هذه الاعمال وانت ظاهرا لا تأخذ أجراً كحال من يؤدي عملا في هذا العالم؟ كان جوابه لهم: أنا أخذتُ أجري ممن استعملني، وهو الله سبحانه، وأجره هو هذا الذي يعلمهم إياه لينقذهم من هيمنة المادة والعالم الأرضي على أنفسهم وعالمهم السماوي الذي قدموا منه، فهو بجوابه يريد أنْ يذكّرهم بما نسوه، اما استعارتهم للجواب فهي ليست كذلك، كان ممكناً أن تكون كذلك لو أنهم كانوا في موضع تعليم مبادئ السماء من دون أجر، وهم ليسوا بذلك الموضع.
إنّ من يتأمّل عمل المتدينين عموماً يجد أنّه عمل ذو صبغة براغماتية، الهدف منه تحصيل الأجر، وتحقيق الثواب، مع أن الأجر والثواب قد ناله العبد ابتداءً، إذ إنّ النفس استودعها الله سبحانه الكمالات أو أسماءه الحسنى، وأنزله إلى هذا العالم المادي كي يعكس تلك الكمالات على صفحته المادية فيترجمها عملا، فلو نجحت النفس الإنسانية وطبعت كمالاتها الإلهية على صورة الجسد، كان المرء عاملا على وفق مراد الله سبحانه، وإذا فشل المرء بطبع تلك الصورة، وعمد إلى صورة أخرى؛ كأنْ تكون صورة تجعل المرء يتوافق مع واقعه الذي يعيش فيه، فهنا يكون عمل هذا المرء عملا براغماتيا (أي نفعياً) بامتياز، حتى وإن قام بتأدية أعمال عبادية ودينية، فهو يرى تلك الأعمال من نافذة النفعية المادية؛ لأنها تجعله يعيش متوائماً مع واقعه المتدين الذي يعيش فيه.