19 ديسمبر، 2024 12:23 ص

من شقوق الظلام الحلقة السابعة والعشرون

من شقوق الظلام الحلقة السابعة والعشرون

ساروا بنا من جديد في نفس العربة التي أقلتنا إلى ضفة أخرى سيسفح فيها العمر دمه على رصيف الانتظار. وأنا أغادر المبنى اتسعت حدقتاي الى حد ابتلعت فيه كامل الأفق البعيد حيث تسكن المدينة التي تبني أرصفتها على جماجم الغائبين وواريت الصورة في جوفي لأتزود بها في قابل الايام. وما هي الا دقائق معدودة حتى وصلنا الى مبنى لا يبدو من واجهته الامامية سوى طابق واحد علقت على واجهته لوحة خشبية بيضاء كتب عليها بخط أسود “وزارة الشؤون الاجتماعية” وفي السطر التحتاني “دائرة اصلاح الكبار قسم الاحكام الخاصة”. استفزتني كلمة اصلاح وكانت مثل لسان مندلع من وجه شيطان يسخر شامتا بنا. ان نقبر هنا احياء في نزل موتى يسمى عندهم اصلاحا! لا ضير ولا عجب في ذلك فهذه ليست المرة الاولى في التاريخ، فكل الأفعال القبيحة كانت تخفي قبحها وتضمر زيفها وراء مظاهر خادعة فأعتى الطغاة كانوا يحكمون باسم الإله مدعين انهم معينين منه بينما الأنبياء كانوا مطاردين غرباء تلاحقهم تهمة الجنون يتسكعون مع الصعاليك والمشردين يحملون صلبانهم سلما الى الحقيقة. اصلاح يعني اننا منحرفون يجب ان نعاقب ونؤدب لنمشي على صراطهم المستقيم ونكون عبيدا للأقوى الاخرق. كلمة اصلاح ازعجتني كثيرا وتخيلت وانا امر من تحتها صورا لأيام سوداء قادمة وكانت فعلا كذلك في سوادها واقبح مما تخيلت.
تقيأت أحلامي الكبيرة وانأ أمر من تحت اللوحة الخشبية الساخرة، ودلفنا إلى ممر الظلام فيه كان واسعا ولا تقوى على طرده زمرة مصابيح صفراء شاحبة تتدلى من سقف اسود فرادى كما في كل الأماكن الاخرى التي سأزورها لسنوات تسع قادمة. وعند اول خطوات ادخلنا الى غرفة صغيرة واستقبلنا رجل قصير سمين يتدلى كرشه امامه يلبس زيا خاصا بالحرس وفتح سجلا ليدون اسماءنا فيه. كان له صوت مميز رفيع وعال مزعج وبدأ يدون الاسماء ويسألنا عن تخصصاتنا العلمية وعندما عرف اننا طلبة جامعيين بدأ بتوبيخنا
– ماذا تريدون ان تصبحوا وتحصلوا عليه الا يكفيكم هذا المستوى؟
ويجيب نفسه باننا اصحاب نوايا خبيثة ولم نتلق تربية صالحة وكلمات اخرى بإمكاني الان ان انمقها لأني لا اريد ان اعيد سماع قرفها ثانية واترك خيالكم ان يتصورها تخرج من لسان جلاد فاشل لم يكمل سوى دراسة ابتدائية وحانت له فرصة الانتقام من ذاته الفاشلة.
صوته العالي وصداه المزعج يتكرر في الممر الطويل ذكرني تلك اللحظة بابيات السياب
ليعو سربروس في الدروب
في بابل الحزينة المهدمة
و يملأ الفضاء زمزمه
كان يدون أسماءنا في سجل سري وهو يرمي علينا شتائم ترحيب خاصة وعبارات التأنيب حتى ضقنا ذرعا بثرثرته فقال له احدنا زاجرا: وماذا تعرف أنت عنا حتى تعرف ماذا نريد؟ فغر فاهه ولم يصدق الجواب الجريء فكأنما لطم على فمه فسكت. عندما كنت صغيرا وعمري لا يتعدى سبع سنوات كان لي صديق جار العب معه دائما وكنت كما هو يذهب احدنا الى بيت الاخر وفي احد المرات رأيت على جدارٍ في غرفة المعيشة خاصتهم أشياء كثيرة معلقة مصنوعة من حبات صغيرة ملونة تلمع تسمى (نمنم) اعجبتني بجمالها والوانها واستهوتني كثيرا بمظهرها اللماع ولذا سألت صديقي عنها، قالت لي امه لتشفي فضولي وهي ترى لهفتي واعجابي بها أن لها اخ في السجن هو الذي يصنعها ويرسلها اليها هدايا كل مرة. بينما كان يسير بنا الحارس في بداية الممر رأيت على اليمين صندوقا زجاجيا كبيرا من طابقين ولربما اكثر من ذلك فيه معروضات تشبه تلك المعلقات في بيت صديق الطفولة. صورة الجمال انهارت من عيني وانا ارنو ببصري اليها وكأني كنت ارى فيها ساحرة شمطاء تخفي بشاعتها بمظهر مخادع. كم هو مقيت إضفاء الجمال على القبح والاكثر مقتا ان تصدق انه بات جميل فعلا لانك لا ترى غيره.
تابعنا المسير، وطلب منا حرس جدد بملابس مدنية انضموا لجوقة الترحيب الجلوس القرفصاء فيما استقبلت وجوهنا حائطا، سألته في سري كم عدد الذين طالعت وجوههم وهل حفظتها جميعا لتخبر الأمهات اللاتي سيقفن امامك حائرات يدرن في هذا الممر على غير هدى يبحثن عن مغيبين ولا احد ينزع قلقهن.
من ثم كان علينا أن نسير مهرولين إلى باب مصنوع من حديد ثقيل وفوق قطعة صغيرة مكتوب عليها مخزن بطانيات فتح الباب وكنا نظن اننا سوف نزود ببطانيات ولكن ما ان فتح الباب حتى دفعنا الى داخل مبنى كبير واصابتنا دهشة كبيرة لمنظره اذ كان من طابقين خمس زنزانات الى اليمين واخرى على اليسار في كل طابق والواجهة الامامية لكل زنزانة عبارة عن شباك حديدي من اعلى السقف الى الارض بينا كانت الزنزانة مكتظة بعيون تعبى تحملها رؤوس حليقة فوق اجساد هزيلة. واستقبلنا بالهراوات من اشخاص كنت اظنهم من رجال الامن ولكن تبين فيما بعد انهم زمرة خونة لهم قصة سوف يحين وقتها فيما بعد وراحوا يضربوننا لا لشيء ثم سحب كل واحد منا الى زنزانة وحشر فيها لأجد نفسي مع أربع وأربعين شخص في زنزانة مربعة ضلعها خمسة امتار وفي احد الزوايا مرحاض صغير، وبالقرب منه كان محل نومي الى جنب سجين أتم للتو غسل أكواب بلاستيكية وصحون معدنية، وراح يمسح عن الأرض آثار الماء بأجزاء من نعال إسفنجي خارج عن الخدمة وبدا جليا ان كل الأشياء لها قيمة هنا وان كانت على وشك الانقراض.
وصار مكان نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام وتطفو على سطحه ما لا يحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم لا اعرف اسمها، يبدو انها تسللت من فتحة صغيرة للتهوية تطل على ساحة صغيرة كانت مكبا هائلا للنفايات. والى جواري امتد رجل طيب راح يسدي لي نصائح مهمة أهمها أن احذر من فلان وفلان. سأكذب عليكم لو قلت لكم إني فهمت ما يقول. فكيف يمكن لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالما وهو مظلوم، ولكن عرفت مصطلحا جديدا اسمه المراقب وهو بمثابة العين لرجال الامن في الزنزانة وهذا حديث أخر طويل.