سئل ونستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية عن رأيه في حلفائه الأمريكيين فقال، إنهم دائما يفعلون الشيء الصحيح، ولكن بعد أن يرتكبوا أخطاءًعديدة. ويبدو أن الجيش الأمريكي أراد أن يؤكد نظريته، ويبصم له بالعشْرة على صدقها.
فقد اعترفت قيادة القوات البرية الأميركية، أخيرا، في تقرير مؤلف من 1300 صفحة حول الأنشطة والعمليات الأميركية في العراق، ما بين عامي 2003 و2018 بأن “إيران الجريئة وصاحبة السياسات التوسعية هي الرابحُ الوحيد“.
واعترفت أيضا بأن “إيران وسوريا كانتا توفران الدعم للمقاتلين السنة والشيعة، والولايات المتحدة لم تضع أية استراتيجية شاملة لمنع ذلك”.
وبيّنت أن الدرس الذي استخلصه الجيش الأميركي من العراق هو أنه ” لن يبادر إلى احتلال أي بلد، من الآن فصاعدا من خلال قوة برية كبيرة“. وأن “الديمقراطية لا تجلب الاستقرار دائما“، و“أن القادة الأميركيين كانوا يعتقدون بأن انتخابات 2005 سيكون لها مفعول مُهدّيء، لكن على العكس زادت التوتر العرقي والطائفي“.
وعطفا على هذا الاعتراف الرسمي المثير والخطير، يحق للشعب العراقي أن يسأل الولايات المتحدة الأمريكية، حكومة وجيوشا ومخابرات ونوابا وشيوخا، هل هو كان خطأ واحدا فقط أم حزمة من الأخطاء؟ ثم ماذا سينفعه اعترافٌ من هذا الوزن ومن هذا النوعبعد أن جعل الجيش الأمريكي بلده العراق وطنا بلا حكومة، وحكومة بلا وطن؟، هل يبكي أم يضحك وهو يكتشف أن الذين دمروا حياته، وسلموا رقاب أبنائه وأرضَهم وكراماتهم وثرواتهم ومصير أجيالهم القادمة لإيران ووكلائها المزورين المختلسين المتخلفين المتعصبين يَعتبرون ما حلَّ بالوطن وأهله من خراب خطأً عابرا لا يستحق أن يُحاسبَ عليه أحد؟
وقبل أن نمضي في تفصيل أخطاء الأمريكيين في العراق ينبغي أن نوضح أن أمريكا وطن التخصص بامتياز. فطبيب العيون المتخصص بالقرنية، مثلا، لا شأن له بغيرها من أجزاء العين. وجرّاح اللثة لا شغل له بالقلع والتركيب والتقويم. ومحامي التجارة لا يعرف شيئا عن قوانين الهجرة والزواج والطلاق. والسياسي لا يرهق نفسه بمعرفة شيءعن الأدب والفنون والسياحة. والعسكري لا يقرأ كتابا ولا جريدة، ولا يتبحر إلا في أسرارسلاحه ودباباته وطائراته، أما ما عدا ذلك من ثقافة وسياسة وتاريخ وجغرافيا فليس له فيها نصيب.
وحين أوفد الحاكمُ المدني الأمريكي، جي غارنر ثم بول بريمر، والقادة العسكريون، ديفيد بتريوس ونائبه ريموند أوديرنو وكبار ضباطه الآخرين، لم يكن أيٌ منهم يعرف عن تاريخ العراق وأديانه وقومياته وطوائفه غير عمومياتٍ من قبيل أنه كان مغارة علي بابا والأربعين حرامي، ووطن صدام حسين وأحمد الجلبي فقط لا غير. وبسبب ذلك الجهل والفقر المعرفي كان القادة الأمريكيون هؤلاء مضطرين لتعلم الكثير عن حقل تجاربهمالجديد.
ولسوء حظهم وسوء حظ الشعب العراقي لم يكن قريبا منهم وفي موضع ثقتهم سوى حلفائهم الشطار العراقيين السبعة (أحمد الجلبي، مسعود البارزاني، جلال الطالباني، عبد العزيز الحكيم، وابراهيم الجعفري، وموفق الربيعي، وأياد علاوي)، فاتخدوهم معلمين وناصحين وملقنين.
ولأن هؤلاء الحلفاء شطار ويعرفون من أين تؤكل الكتف فقد استثمروا جهل أصدقائهم الأمريكيين بالعراق والعراقيين، وضخوا في رؤسهم مفاهيم ووقائع ومعلومات أقل ما يقال عنها إنها مغشوشة دوافعُها حزبية أو طائفية أو عنصرية، أو جوعٌ إلى سلطة وجاه ومال.
والمشكلة أن القادة الأمريكيين المدنيين أو العسكريين، وهم المحتكرون الوحيدون للسلطة في العراق في فترة الفوضى الأولى التي أعقبت الغزو، كانوا يُقفلون عقولهمعلى ما لُقَّنوا به، ويظنون بأنهم أصبحوا به خبراء بالشأن العراقي، ويرفضون ما يقال خلاف ذلك بإصرار .
ثم لم يكتفوا بقناعاتهم لأنفسهم وحسب، بل كانوا يرفعون ما يتلقونه من بيانات وأخبار ومعلومات إلى رؤسائهم في واشنطن ليتخذوا، بناءً عليها، قراراتٍ مصيرية يتقرر بها مصير وطن.
فأول أخطائهم كان إطلاقهم أيدي حلفائهم الشطار السبعة في شؤون البلاد والعباد بمجلس الحكم سيء الصيت. وثانيها وأخطرها اعتمادُهم على المرجع الديني السيستاني مُوجِّها ومقررا ومُشرّعا لعراقهم الديمقراطي الجديد.
وثالثها تركهم حدود العراق مع إيران وسوريا مفتوحة على مصاريعها ليدخل منها من يشاء متى يشاء، ويخرج منها من يشاء متى يشاء.
ورابعها غضُّ أنظارهم عن جموع المسلحين المتدفقين من إيران، ومعهم أسلحتهم وراياتهم وشعاراتهم، ليبدأ عصر المليشيات الطائفية التي راحت تهيمن على الدولة ومؤسساتهارويدا رويدا، وليصبح العراق، بسببها، دولة فاشلة بكل المقاييس.
وخامسها أنهم كانوا يرون حلفاءهم يسرقون المال العام، ويحتلون قصور صدام حسين ومعاونيه ووزرائه ومستشاريه وأقاربه، ويغتصبون المباني والأراضي العامة، ثم يطنشون.
وخامسها أخذُهم بوشاية الحلفاء الشطار السبعة القائلة بأن كل أبناء المحافظات السنية صداميون وإرهابيون، ليملأ الجيشُ الأمريكي سجونه ومعتقلاته ومعسكراته برجالهمونسائهم، الكبار منهم والصغار، معمقين بذلك الشرخ الطائفي ومشعلين حروب القتل على الهوية.
وسادسها التقاطهم واحدا نكرة لا تاريخ له ولا فهم ولا علم، كنوري المالكي، من آخر الصفوف، ليجعلوه مؤتمنَهم على رئاسة الحكومة، حتى وهم يعلمون بأنه وكيل معتمد لإيران. ورغم أنهم كانوا شهود عيان على ما ارتكبه في رئاسته الأولى من موبقات ومخالفات واعتداءات فقد سهلوا له رئاسته الثانية بالتواطؤ مع مسعود البارزاني، وبضغوط شديدة من الإيرانيين.
ومن أخطائهم أيضا أنهم منحوا الأحزاب الكردية، وخاصة حزبي مسعود وجلال، حقَالوصاية والتعالي على حكومة المركز وابتزازها. وما زالوا يباركون سياساتهم الاستغلالية حتى هذه الساعة، وسيظلون.
ولكنْ أنْ يعترف الجيش الأمريكي متأخرا خمسة عشر عاما أفضل من ألا يعترف. وكان جميلا منه أن يعتذر لضحايا أخطائه، وهم بعشرات الملايين، ولكنه لم يفعل. فهل يعتذر؟، ومتى يعتذر؟. هذه هي المسألة.