23 ديسمبر، 2024 10:09 م

أوصلني اليوم سائق سيارة الآجرة وكان عابساً كعادته ، أنا اعلم ان جسده حاضراً معي كما أعلم جيداً غياب فكره بعيدا ، سألته مرة عن سبب سرحانه الدائم الذي كان سيسبب لنا حادثاً ، قال ان فكره مشغول على الدوام في كيفية تأمين متطلبات عائلته المكونة من تسع اشخاص ، لامعيل لهم سواه ، ومنذ ذاك السؤال اعتدت ان لا اتكلم معه سوى بضع كلمات ، مثل : شلونكم ، فيجيب : الحمد لله ، و ، تفضل اجرتك ،  فيرد : شكرا .
اليوم اردت ان اكسر تلكم القواعد التي اعتدنا انا وهو عليها ، وقررت ان اجره الى حديث وبأي طريقة ، سألته : هل انتخبت البارحة ، فجأة التفت إلي ، وأنفرجت أساريره ، ونسي كل ما كان يغرق تفكيره ، قال 🙁 البارحة  خير وبركة ، علواه يومية مثل البارحة )  ، في البداية  أعتقدت ان عمله كان دسما في نقل المنتخبين من والى مراكز الاقتراع ، أعدت طرح السؤال عليه : ( بس كَلي انت انتخبت البارحة ) ، أجاب : ( إيه انتخبت …الحمد لله ) ، كان يحمد الله وكأنه ادى واجبا مهما  ، مما دعاني للحظات الى التفكير في ان اعيد تكوين قناعاتي بهذا الرجل ، قلت له :  ( المهم انك انتخبت على اساس مبادئك… ودينك .. واخترت اللي تؤمن انو يمكن ان يقدم ….)  ، لكنني لاحظت ان اصبعه لم يلون بحبر الآنتخاب ، سألته : ( انتخبت منو …) ، أجابني بعفوية وأساريرة لا زالت متوهجة : ( والله ما اعرف منو ….آني انطيتهم الهويات واستلمت المقسوم …..) .
صدمتي حينها جعلتني اصمت ولا اتفوه بكلمة اخرى ، لكنني تذكرت حكاية كنت قد سمعتها ايام الحصار ، كان هنالك جندي هو الوحيد لامه ، وكان كثير التهرب من الخدمة ، ومن حسن حظه انه كان يخدم في وحدة عسكرية آمرها من منطقته ، فكان كلما يهرب وتمر ايام واسابيع ، تأخذه امه الى هذا الضابط ليعيده ، لانها كانت تخشى عليه من عناصر الانضباط التي تجول الشوارع ، وكان هذا الضابط يدخلهم ( الجندي وامه ) في محاضرة عن المبادئ ، ولما وصل الحال بصعوبة استمراره في خدمته  ، ومن باب رد الجميل ، طلب الجندي  الى امه ان تذهب الى ذاك الضابط وتشكره على مساعدته لهم ، وتخبره ان ابنها لن يلتحق بعد اليوم لكي ينشرالضابط غيابه ولا تقع اية مسؤولية عليه ، وعندما وصلت الضابط اخبرته بقرار ابنها ، فثار الضابط وهدد وتوعد ، والام صامته لاتتكلم ، ولما وجد ان اسلوب التهديد والوعيد لاينفع ، عاد الى طريقته القديمة ، فسألها : ( وين راحت المبادئ اللي نحجي كل مرة عنهه ) ، وهنا أخرجت الأم كيس ( كَونية ) وسلمتها للضابط قائلةً : 0( هاك هذني المبادئ … وما ظللكم شيء عدنه ) ، أخذ الضابط الكيس مستغربا ، وفتحه بعجالة ليجد بسطالا وملابس عسكرية تعود للجندي كان قد استلمها من معسكره .